عبد الرحمن أقريش
يجلس (الحاج إدريس) في الصالون مستلقيا في وضعية جسدية مريحة، ينظر جهة النافذة، يعبث بخاتمه الفضي، يبدو غائبا، مستغرقا، ومنخرطا تماما في عالمه الداخلي، وبين الحين والآخر تنزلق حبات المسبحة بين أنامله الرفيعة، تتوقف تلك الحركات للحظات ثم تعود من جديد آلية ومتناغمة.
منذ ساعات فقط كان البيت يعج بالحركة وضجيج الحياة، أبناء، حفدة، أصدقاء…
في كل مرة يغادرون يغرق البيت في صمت رهيب ويتملكه نفس الشعور، خليط غريب من المشاعر يمتزج فيه الإحساس بالعزلة والألم والخوف، الخوف من المرض والعجز والشيخوخة وثقل الزمن.
تجتاحته كآبة عارمة.
ينتبه، يعود لذاته، ينظر لكأس الشاي، يرشف منها رشفات صغيرة.
منذ أيام فقط تغيرت حياته، انقلبت رأسا على عقب.
لأول مرة منذ سنوات طويلة راودته أفكار وأحاسيس غريبة، شيء يشبه الندم ورثاء الذات، لأول مرة أحس (الحاج ادريس) أنه ليس سعيدا، وأن الأيام لم تنصفه، وأن حياته كان من الممكن أن تكون أفضل…
فكر بصمت:
– نعم (ميشيل) هي السبب…
عندما عاد ابنه من فرنسا مرفوقا بزوجته، انتبه أولا لطريقتها في اللباس، لباس متحرر، جذاب، وغير محتشم، ولكنه أنيق ويقف عند حدود التأكيد على الجمال والتناسق بين الشكل والألوان وجغرافية الجسد، كل ذلك بدون بهرجة ولا استعراض مجاني…
منذ البداية سارت الأمور على ما يرام، راحت (ميشيل) تستمتع بعطلتها، انبهرت بالبحر والشمس والألوان وبساطة الناس والحياة، أعجبت بالحي والحمام والسويقة، أعجبتها أكثر أكلات الكسكس والحريرة والبغرير والبابوش ورائحة التوابل القوية…
ومع مرور الأيام راح هو يستكشفها تدريجيا.
كانت (ميشيل) ذات جمال قوي ومهيمن، ولكن (الحاج ادريس) انتبه بالخصوص لشخصيتها، بدت له سيدة في قمة العنفوان، منطلقة، عصرية، سعيدة، صادقة، حقيقية ومتصالحة تماما مع ذاتها، تتكلم بتلقائية، عاطفية، سخية توزع الابتسامات بمنتهى الكرم، وتخصه هو بالذات بالكثير من الود.
ولكن الشيء الجميل في شخصية (ميشيل) هو ذاك الحب الذي تصبه على زوجها صبا، تشد يده بحنان، تضمه، تعانقه، تضحك، تهمس له، تنظر في عينيه، وتقبله بسخاء…
في الصيف تزامنت العطلة مع شهر رمضان، كانت (ميشيل) تقف يوميا في البالكون، تقف هناك لساعات، تقرأ، تدخن، تتأمل حركة الشارع، وتمتنع عن الأكل طول النهار وتنتظر آذان المغرب.
تقول بعربية متكسرة:
– مون أمور صايم…وحتى أنا صايمة بحالو…
– في كل مرة يستحضرها (الحاج ادريس)، يستعيد صورتها، يقارن بينها وبين زوجته، يحاول أن يكون منصفا، يشعر بألم دفين وغامض، يفكر، يتأمل، يتساءل بصمت:
– ماذا لو امتلكت (الحاجة هنية) بعضا من روحها المرحة؟
يشعر بالحرج، ولكنه يعترف في قرارة نفسه أنه يحب زوجته، أحبها دوما.
يبتسم بحزن:
– العيب، كل العيب في هذه التربية العوجاء التي ترسبت عميقا في أرواحنا.
تمر لحظات، تهب ريح خفيفة، تتحرك الستائر، ينتبه، ثم تنمحي ابتسامته الحزينة تدريجيا، يشرق وجهه وكأنه يستعيد ذكرى جميلة…
في المرة الأخيرة عندما عادت (ميشيل) وزوجها من المدينة، بدت في قمة السعادة، غرست باقة الورد في المزهرية، وضعت الهدايا على المائدة، فتحت ذراعيها وراحت تقبل الجميع…
– ماح مااح ماااح…
وقفت أمامه، بدا (الحاج ادريس) مترددا ومحرجا، ولكنها حسمت الموقف، احتضنته برفق، قبلته على وجنتيه، نظرت جهة الجميع، أطلقت ضحكتها وقالت:
– Moi je fais pas de différence…