مى التلمسانى: مازلت ابحث عن “الزمن المفقود”!

موقع الكتابة الثقافي may telmesany 19
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاورها: عزمى عبد الوهاب

تنتمي الروائية المصرية “مي التلمساني” إلى أسرة ذات اهتمامات ثقافية في الأساس، وتعد السينما أهم هذه الأدوات الثقافية، ولذلك توزعت اهتماماتها بين أكثر من اتجاه، من بينها السينما، حيث أنجزت رسالة الدكتوراة عن “الحارة في السينما المصرية” ثم ترجمت كتاب “المدارس السينمائية الكبرى” وقامت بتدريس مادة تاريخ السينما العالمية لطلاب قسم السينما في جامعة مونتريال، إذ أنها تقيم هناك منذ ما يقرب من ربع قرن، وتشغل حاليا موقع رئيس قسم الأدب الحديث بجامعة أوتاوا. أصدرت “مي” عدة مجموعات قصصية وروايات منها “نحت متكرر – خيانات ذهنية” و“ دنيا زاد – هليوبوليس – أكابيلا” كما ترجمت إلى العربية “لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟” و”قراءة المسرح” وحازت جوائز منها جائزة الدولة التشجيعية في مصر، وجائزة “آرت مار” من جنوب فرنسا، وترجمت أعمالها إلى أكثر من لغة.

> تكتبين الرواية بشكل مختلف عن أبناء جيلك، هل تنطلقين من رؤى مغايرة أم أنك تشبعت بالقصة القصيرة حتى باتت مهيمنة على أدائك الإبداعي؟

في الروايات الثلاث اعتمدت على فكرة تجميع الشذرات والمقاطع التي من الممكن أن نعتبرها قصصا قصيرة، أو بتعبير “إدوار الخراط” متتاليات قصصية، تربط بينها الشخصيات الروائية، ويعتمد البناء على الانتقال من فصل لآخر بحرية تسمح للقارئ بأن يقفز من الفصل الأول للرابع مثلا، كما تسمح له بالتعامل مع الزمان والمكان باعتبارهما متحركين، ويصبح التركيز منصبا على الشخصيات، على ملامحها النفسية وأفكارها وعلاقاتها ببعضها البعض، أيضا يصبح الفصل (سواء جاء معنونا أم مرقما) وحدة شبه مستقلة داخل العمل الروائي، تربطه بالنص ككل علاقة جدلية تقاوم الثبات، الأقرب لوصف ما أريد الوصول إليه في بنية الحكي هو قصص “ألف ليلة وليلة” وفيها قدر كبير من التحرر من العلاقات الواقعية والتتابع الزمني، أتذكر أن “نصر حامد أبو زيد” في قراءته لروايتي الأولى “دنيا زاد” وجد علاقات مستلهمة من بنية النصوص المقدسة، وقد أدهشني تعليقه آنذاك، لكني اليوم أعتقد أن هذه الروافد كلها موجودة بشكل أو بآخر في رواياتي الثلاث.

 > تعتمد الرواية في مصر في الفترة الأخيرة تحديدا على مجموعة اجترارات ذاتية في حين تقوم الرواية في الغرب على فكرة مبتكرة تمنحها إمكانات الكاتب الحضور المطلوب (يمكن تأمل كتابات ساراماجو مثلا) كيف ترين هذا الأمر؟

الاجترار الذاتي والعاطفة لا يعيقان بالضرورة نمو الرواية، نستطيع أن نجد ملامح من هذا الشعور المتدفق في رواية تيار الوعي الغربية في بدايات القرن العشرين، كما نجد ملامحه في التسعينيات في أوروبا، على سبيل المثال في كتابة “ماري داريوسك” ومن قبلها “أني إرنو” وبينهما “ميشيل ويلبك” وهنا فكرة الابتكار تعتمد على تفصيل ملامح نفسية غير مسبوقة، وبناء علاقات تعتمد على فكرة العزلة والانسحاب وعدم التوافق الاجتماعي الخ، لكن هناك روائيين أثروا في الرواية المصرية في السنوات العشرين الأخيرة على الأقل ولا ينتمون لهذا التيار منهم ميلان كونديرا وجوزيه ساراماجو، وكلاهما يستلهم سيرته الذاتية بشكل مخالف لما نراه في رواية تيار الوعي مثلا، في رواية “تلك الأسماء” لساراماجو يتحدث مع سقف الغرفة ويجعل من هذا السقف شخصية مستقلة تكاد حواراته معه تشبه كتاباته غير الأدبية كالمقالات والحوارات والرسائل، في النهاية ليس استلهام الذات هو العائق، لكن العائق الحقيقي والذي أجده يعاندني في معظم ما كتبت إلى الآن، هو في كيفية بناء حكاية وإطلاق خيال الحكي بعيدا عن تفاصيل الذات المنكبة على نفسها.

> إلى أي مدى كان إدوار الخراط مؤثرا فيك كمبدعة؟

ليس بالقدر الذي تتصوره، أشعر بتأثير أصلان والبساطي وصنع الله إبراهيم على ذائقتي العربية أكثر من الخراط، رغم أني شاركته كتابة نص روائي مسلسل نشر في مجلة “سيدتي” منذ أكثر من عشر سنوات، وكانت تجربة ممتعة، للأسف تاه النص بين أوراقي وكانت النسخة الوحيدة المتاحة مكتوبة بخط اليد، لكنه تابع كتاباتي وكتب نقدا عنها، وكان أول من كتب عن مجموعتي الأولى “نحت متكرر”، كما أثر في فهمي للكتابة التسعينية بمصطلح الحساسية الجديدة والدراسات التي نشرها في هذا المجال.

>“دنيا زاد” تطرح أسئلة حول العلاقة بين فني الرواية والسيرة الذاتية، ما الحدود الفاصلة بين هذين النوعين؟

 أفضل في بعض الأحيان أن أستخدم تعبير “رواية السيرة الذاتية” وفيها نجد ملامح من السيرة الذاتية للكاتب بالتوازي مع ملامح المتخيل الروائي وبنيته المتحركة التي أشرت إليها سابقا، الحدود النوعية واضحة عندما نتحدث عن سيرة ذاتية أو سيرة أفكار مثل “الكلمات” لجان بول سارتر في مقابل رواية السيرة الذاتية مثل “البحث عن الزمن المفقود” لمارسيل بروست وفيها لا يخجل الكاتب من تسمية الراوية في النص مارسيل، ولا من استلهام مفردات حياته الأسرية والاجتماعية في باريس نهايات القرن التاسع عشر وبدايات العشرين، ليجيب عن سؤال جوهري يخص العلاقة الحميمة بين علامات النص الفنية (الفن هنا بمعناه العام هو أسلوب حياة) وعلامات الحياة والسيرة ولينفي المسافة الفاصلة بين العالمين وهو يقفز من عالم لآخر بلا قيود، هذا هو أحد طموحاتي في الكتابة ولست واثقة من تحققه باللغة التي أكتب بها، والتي أحيانا ما أشعر أنها تحيد بالنص نحو منطقة الاسترسال العاطفي.

>“دنيا زاد” ترجمت إلى ست لغات ضمن برنامج ذاكرة المتوسط، ما أهمية هذه الخطوة بالنسبة لك؟

 هي خطوة للخروج للعالم، الترجمة أتاحت لي فرصا كثيرة للسفر وللقاء قراء من لغات مختلفة ولتوسيع رقعة التواصل مع كتاب من العالم وناشرين من مختلف الجنسيات، الآن الروايات الثلاث مترجمة إلى الفرنسية، التي أعتبرها لغتي الأب، واليوميات “للجنة سور” ستنشر بالفرنسية في كندا مع نهاية العام.

> هل يمكن أن نعتبر روايتك “هليوبوليس” رواية مكان؟

 هي بالطبع رواية تنطلق من مكان له هوية ثقافية وتاريخية مميزة، وتتعاطى مع واقع هذا المكان في فترة السبعينيات ومع واقع أربع شخصيات نسائية من وجهة نظر الراوية الطفلة “ميكي” لكن أحب أن أضيف أن المكان هنا ليس مكانا مثاليا أو ميتافيزيقيا، هو مكان غارق في التفاصيل، خاصة وأني أتحدث عن الأشياء المحيطة بكل شخصية، غرف النوم، الصالونات، غرف الطعام، البلكونات، الخ، هو مكان عام وخاص في الوقت ذاته، يتجاوز الثنائيات التي نراها في كثير من روايات المكان بين العام والخاص، الشرق والغرب، الأنا والآخر، الثابت والمتحرك.

> هل نستطيع أن نحصر رواية “أكابيلا” في إطار تناولها الصداقة النسائية والمراوحة بين الحب والعزلة كما ذهب البعض؟

نستطيع أن نحصر الرواية في نطاق ضيق يتسع باتساع رؤيتنا للأدب وللعلاقات بين الأنواع، أكابيللا فيها إشارات كثيرة للموسيقى والأوبرا والفن التشكيلي والرواية، ربما يكون إطار الحكي محدود بالعلاقات بين الشخصيتين النسائيتين، الراوية وهي مترجمة، وعايدة وهي فنانة تشكيلية، وبينهما وبين الشخصيات الذكورية الأربع في الرواية، كريم الكاتب، عادل الطبيب، أسامة الزوج السابق، وحسام العشيق، الصداقة محور مهم من المحاور التي تناقشها الرواية، وأشكال من الحب الملتبس الذي تتخذه الصداقة أحيانا والعلاقة الزوجية أحيانا أخرى، وفي أحيان أخرى يبدو وكأن الحب مرهون بالعلاقات الجنسية وينتهي بانتهائها، لكن هناك مستويات أخرى من النقد تسمح به الرواية من منظور نسوي، أو من منظور نفسي اجتماعي، أو من منظور نوعي أدبي يخص شكل البناء.

> من خلال حواراتك بدا اسم إحسان عبد القدوس وكأنه كان يمثل جانبا من خلفيتك وأنت تكتبين “أكابيلا” كما أنك أشرت إلى حاجتك لإعادة قراءة عبد القدوس بين فترة وأخرى برغم أن بعض المبدعين يرون أنه محطة في البدايات ويستنكفون من العودة إليه في سنوات النضج كيف ترين ذلك؟

أنا مهتمة بأشكال الثقافة الشعبية منذ فترة في أبحاثي الأكاديمية، وأعتقد أن إحسان عبد القدوس لعب دورا في الأدب وفي السينما سمح لنا بزيارة مناطق من العلاقات الإنسانية الحسية والنفسية له تأثير على رؤيتنا لهذه العلاقات من منظور حداثي، متحرر من كثير من التابوهات، ومرهون بمشروع تنويري كبير استمر في المجتمع المصري حتى فترة السبعينيات، لذلك أحاول استكشاف مناطق التجاور بين ما يكتبه إحسان عبد القدوس وما أردت التعبير عنه في “أكابيللا” لا أعتقد أني حكاءة مثله، لكني مهتمة بشكل التعبير الرائج أو الجماهيري في الأدب وكيف يمكن أن يتحول لعمل أكثر رسوخا لو شئنا، أو أكثر تعقيدا.

> رسالة الماجستير الخاصة بك كانت عن “جماليات القص في مجموعة المباهج والأيام لمارسيل بروست” لماذا لم تعملي على “البحث عن الزمن المفقود” وهي الأكثر شهرة؟

 لم أستطع في رسالة الماجستير التطرق لرواية كتبت عنها مجلدات كاملة بكل لغات العالم، قبل كتابة الماجستير ذهبت لفرنسا لمدة عام للبحث وجمع المادة العلمية واكتشفت أن مئات المقالات والكتب تنشر سنويا منذ وفاة بروست عام 1922، وحتى اليوم عن روايته “البحث عن الزمن المفقود”، والقليل القليل يهتم بكتاباته الأخرى، الرسائل (وهي عشرات المجلدات) والشذرات والمجموعة الأولي التي نشرها على نفقته عام 1896، وروايته غير المكتملة، وترجماته، فضلا عن أني كنت مهتمة آنذاك بكتابات جيرار جينيت عن التناص فقررت التعامل مع المجموعة الأولى من هذا المنظور، الماجستير عادة ما يعطي للباحث فرصة تكوين نفسه بحثيا ولا يليق أن يدعي قدرة ليست لديه لتقديم بحث جديد ومختلف عن رواية بعظمة “البحث عن الزمن المفقود” إلا لو كان عبقريا فذا، وأنا لا أدعي ذلك.

 > اخترت للدكتوراة حقلا آخر وكانت رسالتك عن الحارة في السينما المصرية هل للأمر علاقة بتنشئتك في وسط ثقافي، تعتبر السينما الفن الأهم بالنسبة له، خصوصا أن الأب عبد القادر التلمساني يعد رائدا في الأفلام التسجيلية؟

كانت السينما ولم تزل مصدر جذب لي ربما بسبب علاقتي بأبي وربما بسبب ثقافة الصورة التي نشأت فيها، لم أستطع العمل بالسينما لذلك كانت الدكتوراه فرصة للتأمل في جماليات الفيلم، وفي تاريخ الأنواع السينمائية وفي علاقة هذا وذاك بما يسمى بأفلام الحارة في السينما المصرية من منظور اجتماعي، أحد أهداف البحث سؤال يخص الهوية المصرية وكيف تم بناؤها في السينما الواقعية وحصرها في طبقة بعينها هي طبقة أولاد البلد، مع تهميش أو اتهام طبقات أخرى منها الطبقة المتوسطة والثرية، بالانفصال عن الواقع، بالغربة في مجتمع يرفض الاختلاف والتنوع، أو يصر على قيمه المحافظة أو الأبوية، الرسالة نشرت بالفرنسية، وترجمتها إلى العربية د. رانيا فتحي وستصدر قريبا بالعربية.

> تقيمين في كندا منذ سنوات فيما يشبه الهجرة، حتى إنك قلت إن ذلك أفقدك جزءا من توازنك ألا يساعد الأدب في صنع هذا التوازن المفقود؟

 الكتابة الأدبية هي المنطقة الوحيدة التي تحقق توازنا في عالمي الصغير، لكنها تستعصي على لأسباب كثيرة منها شعوري بعد الرضا عما أكتب ومنها عملي الأكاديمي ومنها الهجرة التي لا تساعد على الاندماج في عالم الكتابة، خاصة حين أقارن بين حياتي في الغربة وحياتي في القاهرة من حيث الانفتاح على عوالم تجدد نشاطي الذهني والنفسي، ولكن لا شك عندي أن عودتي لمصر قريبة، وأنها قد تكون الفرصة لاستعادة توازني في الكتابة، ليس بهدف الإكثار في النشر، فهذه ليست قضيتي، ولكن بهدف الاستمرار في ممارسة الكتابة بغض النظر عن حجم المنشور منها.

 عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم