مى التلمسانى: عندما أتوقف عن الكتابة أعود للسأم والتكرار

may telmesani
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حوار: كه يلان محمد

تعيش الروائية المصرية مي التلمسانى أثناء كتابة أي عمل مع أبطالها بحواس متقدة، لدرجة أنهم يتحولون إلى أصدقاء لها، ويصبح من الصعوبة فراقهم بعد الانتهاء من العمل. مى التلمسانى يتجاور داخلها الكاتب والأكاديمي، ولذلك يصبح من الممتع محاورتها حول فعل الكتابة، والأفكار الشائعة، وكيف يمكن أن تؤثر عليها سلباً، والعزلة التى يضع المؤلف نفسه فيها ليتفرغ لمقابلة الوحي، وكذلك كيف تقيِّم النقد الأدبي والصحفي الآن. هنا نص الحوار مع صاحبة “الكلُ يقولُ أحبك” حول تجربتها فى الملعب الإبداعى.

-هل توافقین إلیف شافاك في رأیها بأنَّ الرواية تعتمدُ على العزلة كما أنَّ الروائي كائن بطبعه يميل إلى الانعزال والانطواء؟ هل يمكن للروائي أن يسردَ صمته ؟
العزلة ضرورية أثناء الكتابة، لكنها ليست قدرا. البعض يحتاج للصمت والعزلة للعمل على النص، مثلي. والبعض الآخر يكتب بانتظام رغم الانغماس في الحياة اليومية، لا تربكه الأصوات الخارجية ولا يعطله روتين العمل. أعمل بالتدريس الجامعي، وهو يشبه الطنين، خافت أحيانا لكنه لا يترك لي مجالا للتفكير في غيره. لكي أكتب، أحتاج للانفصال عن عالم الجامعة والطلاب والعزلة والحال هذه تعينني على الإنجاز. يحدث هذا فقط حين أشتغل على عمل جديد. وتمر سنوات بين كل عمل وآخر حتى بزوغ فكرة تشجعني على الكتابة.
-ماتعقيبك على نصحية أرنست همنغواي للكاتب بأنَّ لاينساق مع الأفكار الشائعة بين الناس ولا يتأثر بكل مايسودُ في عصره؟
أتفق معه تماما، خاصة فيما يتعلق بأحداث كبرى تهز كيان العالم. مثال ذلك الثورة المصرية. فقد كُتب عنها القليل حتى اليوم، لكني أتصور أن تكون موضوعا أو سياقا لبعض الأعمال ولبعض كتاب جيلي تحديدا في السنوات القادمة. وكذا الحال فيما يخص غزة وأثر حرب الإبادة المدو في العالم كله. سنحتاج إلى وقت لاستيعاب الحدث ومن ثم الكتابة عنه أو من وحي الحزن والشعور بالعجز الذي رسخه لدى الكثيرين. على صعيد آخر، وقد يكون هذا مقصد هيمنجواي، فإن الحوادث الصغرى والتي يشوبها شيء من التكرار قد تكون موضوعا تافها لرواية أو عمل قصصي، أشبه بصفحة الحوادث في الجرائد والمواقع الإلكترونية. وقد لا تستحق التدوين إلا لكونها “مدهشة”. يظل السؤال الأهم “هل هي مدهشة إنسانيا؟ وهل تكشف لنا جديدا عن الإنسان؟” أم أنها مجرد حادثة شبيهة بملايين الحوادث التي تناولها الأدب منذ التراجيديات اليونانية وحتى اليوم؟
– مارأيك حول مقولة “كافكا” بأنَّ الكاتب عندما يتوقف عن الكتابة يكون أشبه بالوحش؟
لا يتوقف الكاتب عن التشبه بالوحش أثناء الكتابة. يأتي هذا كنتيجة للعزلة المفرطة أحيانا، أو لشغفه بتصيد الحكايات والمشاعر أحيانا ثانية، أو لتحولاته واضطراباته وهواجسه سعيا وراء خلق شخصيات خارج المألوف أحيانا ثالثة. عن نفسي، عندما أتوقف عن الكتابة، أعود لحياتي اليومية التي لا تخلو من سأم وتكرار، أصبح أشبه بالمسخ (من وجهة نظري) فأقترب قليلا من عالم كافكا الكابوسي. الكابوس الفعلي هو الاغتراب عن فعل الخلق.
-من الملاحظ أنَّ كثيراً من المبدعين آراؤهم سلبية عن الناقد ويرون بأنَّ القارئ هو المحك هل أنت من المؤيدين لهذا المنحى ؟
يحتاج النقد إلى غربلة في زمننا هذا، سواء النقد الصحفي أو النقد الأكاديمي فقد نضبت الأفكار ولزم تحديث الأدوات لمواكبة الظواهر الإبداعية الجديدة. ولست من المؤيدين لأسبقية القارئ على الناقد أو العكس، بل أرى أن العملية أكثر تركيبا والتوليفة لا تستقيم من دون قارئ وناقد وصحفي وناشر ووكيل أدبي وما يستجد من وظائف يفرضها علينا واقع الكتابة التفاعلية والذكاء الإصطناعي. المبدع والناقد قارئان أيضا، ومن هنا أهمية الاعتراف بأهمية فعل القراءة وأثره على الإبداع والنقد. كتب أمبرتو إيكو عن القارئ النموذجي أو النوعي الذي يصنع النص مع الكاتب ويبحث في ثنايا النص عن معاني وتأويلات تضاهي أو تتجاوز الحياة الواقعية. الناقد هو ذلك القارئ النوعي الذي يتمناه أي كاتب سواء مارس النقد كمهنة أو اكتفي بالقراءة لمتعته الشخصية. أما القارئ المستهلك فمثله مثل الكاتب الاستهلاكي الذي يباهي الناس بعدد ما يكتب أو عدد من يقرأون له. لا أعول عليهما شخصيا لا في الإبداع ولا في القراءة فهما على أفضل تقدير وقود السوق الأدبي يحترق لكي يستمر السوق في الازدهار.
-يقول أسكندر حبش “لا أحد يجيد التحدث عن أدبه سوى الأديب نفسه” كيف تتحدثين عن تجربتكِ في كتابة الرواية ؟
أتحدث عن التجربة بعين ناقدة، بما أني أمارس النقد أيضا. أتحدث بهدف توجيه مسار القراءة أحيانا، وكشف مسارات قد تكون خافية على القارئ أحيانا أخرى، وأتحدث بتواضع من يؤمن بأن التأويلات لا سقف لها، وتأويلي كمؤلف ليس سوى واحد من ضمن مئات. بل أقول إن حديث البعض عن تجربتي في الرواية أدهشني وأفادني وفاق تصوري عما كتبت لأنه خلق عالما أكثر رحابة انطلاقا من العمل موضوع النقد وخلق علائق لم تكن في الحسبان مع عوالم وأفكار وأسئلة ورؤى لم تراود مخيلتي بالأساس.
ماذا تغير في نظرتك للرواية بعدما صرت في معترك الكتابة الروائية؟
تأكد لي أن في الرواية متسعا لتجاوز محددات النوع الروائي، ونسق الحكايات المكررة، والهوس بالشخصيات الصادمة ذات المدلولات السهلة أو المتوقعة التي عودتنا عليها الأفلام الأمريكية. رحت أنظر لفن الرواية بوصفه فن التحديث والحركة المستمرة. حين كتبت عن المكان في رواية “هليوبوليس” كانت تسيطر على رغبة تفكيك المكان لمشاهد وأحداث صغيرة تدل عليه وعلى ساكنيه ولا تصفه. وحين كتبت عن شخصية نرجسية في رواية “أكابيللا” كانت تسيطر على فكرة التعرف عليها من خلال يومياتها، ومن خلال إعادة كتابة هذه اليوميات، كانت محاولة لكسر بنية الحكي بحيث تتوزع سلطة الرواية على شخصيات متعددة في النص. أما في رواية “الكل يقول أحبك” فقد أنشأت بنية حلزونية تربط الشخصيات بالأوطان، ويحل بعضهم في حياة البعض بلا توقف. أردت أن أوجه النقد لمفهوم الحب عن بعد من خلال ذلك التشابك والتواصل الحلزوني. كلما تقدمت بي خبرة الكتابة، كلما صرت أكثر وعيا بما أريد إنجازه، وتتجدد لدي الرغبة في تحديث وتحريك الكتابة في اتجاهات بعيدة عن الرواية السابقة أو بعيدا عن الرواية الأولى، دنيا زاد. لا يهمني أن تكتمل الدائرة، يهمني فقط أن تستمر الحركة.
– يرى سكوت فيتزجيرالد بأنَّ الموهبة الشعرية تنضجُ بالسرعة بينما الموهبة النثرية والروائية تتطلبُ وقتاً إلى أن تصير معطاءة. هل تعتقدين بأنَّ ما حددهُ صاحب ” غاستبي العظيم” من الفرق بين طاقتين شعرية وروائية مقنع ؟
النضج قد يرتهن أحيانا بالزمن سواء في الشعر أو في النثر من حيث السرعة والبطء، سرعة الإنتاج والقراءة، وامتدادهما في الزمن أيضا. التجريب المستمر أقرب لواقع العملية الإبداعية كما أمارسها، ويحتاج لتراكم خبرات بالتأكيد. بعض الشعراء يكرر نفسه من قصيدة لأخرى ومن ديوان لآخر، والبعض يحاول تجديد الشعر في كل ديوان وينتج قصائده كالضرير الذي يطرق دروبا وعرة. التراكم في الشعر، سريعا كان أم بطيئا، مجددا كان أم مكرورا، له علاقة مباشرة بحجم القصيدة ودفقتها الشعورية وأيضا بفعل القول والنظم والشفاهية وهو نوع من العرض والطلب لا تعرفه الرواية. ديوان الشعر الذي قد تستغرق كتابته أعواما، يسمح بحرية أكبر في القراءة، قد نقرأ عددا من القصائد ونكتفي، أو نعود لقراءة جزء لم نقرأه كما ينبغي في السابق. الرواية في المقابل تُقرأ ككتلة واحدة، لها بداية ونهاية، ولا تُقرأ بصوت عال أمام جمهور متعطش للموسيقى. يكتبها مؤلفها على مدار أشهر قد تمتد لسنوات، ونضجها الفني مرهون بإعادة الكتابة وبالزمن الممتد. وحين تُقرأ ببطء وفي خلوة، يكتشف قارؤها أن لها مداخل ومخارج تحتاج إلى زمن وحنكة للتعرف عليها. ولا أقصد هنا بالطبع الروايات التافهة التي نقرأها في القطار للتسلية كما لا أقصد الشعر الخفيف الذي لا يعدو كونه كلاما ساذجا يتمتع بقدر من الإيقاع. أيضا لا يخلو الشعر أحيانا من مشهد سردي، كما لا تخلو الكتابة النثرية من شعرية تخصها.
 – يعتقدُ همنغواي بأن الأمر الأكثر تعقيداً في كتابة الرواية الانتهاء منها. وماذا بالنسبة إليك ؟
الأمر الأكثر تعقيدا بالنسبة لي هو بناء الرواية وإعادة كتابتها. أكتب الرواية بمنطق القصة القصيرة، لكل مشهد بداية وخاتمة، ولكل مشهد موقعه في “البازل” الكبير. لكن تبديل الموقع وتفكيك وتوليف العمل ككل هو ما يستغرق مني الوقت الأكبر. أنا أقرب في الكتابة من مارسيل بروست، أعرف البداية والنهاية منذ بداية العمل، ما بينهما هو ما يتطلب جهدا جهيدا ويأخذني في مسارات لا أتوقعها عادة، تفرض نفسها بالممارسة والتفكير. أفكر كثيرا في جدوى الأحداث وتوليفها ومصداقيتها وأعيش مع الشخصيات كأنهم أصدقاء لي في الواقع، ويرهقني كثيرا فراقهم عند الانتهاء من العمل. لذا فإن إعادة الكتابة تعينني على التجويد وإطالة عمر الصداقة التي تنشأ بيننا. وفي بعض الأحيان أعيد كتابة النص الواحد عشرات المرات قبل أن أدفع به إلى المطبعة. كان بروست يعتبر أن الكتابة تنمو من الداخل، وإنها تنمو مثل يوميات تتماهى في معظمها مع حياة المؤلف. أعتقد أني من تلك المدرسة، أو أني على الأقل أسعى في هذا الاتجاه.
اقرأ أيضاً

مقالات من نفس القسم