حسن عبد الموجود
ضيَّع منتصر القفاش “الباسبور” فى سفرية لم ترافقه فيها مى التلمسانى، وبالتالى لا تكف، حتى الآن، عن السخرية منه، ومعايرته بأنه بدونها قد يغرق فى “شبر ميَّة”.
زارا معاً كثيراً من مدن العالم، وكانت متعتهما السير بلا هدى فى الشوارع، والفرجة على المحال، والطرقات، والبشر، والكلام فى كل شيء، فى الحياة وفى الكتابة. تتعامل مى معه، أثناء السفر، كأنها أخته الكبيرة، وربما أمه، رغم أنه يكبرها بأعوام، تسأله حول كثير من التفاصيل، وتطمئن إلى أنه لم ينس شيئاً، وأنه جاهز لأى موقف، ابتداء من تحضير ورقة المؤتمر، وانتهاء بحزم الحقائب.
فى القاهرة كذلك يمارسان نفس الطقس، السير فى شوارع وسط البلد، والكلام فى كل شيء، لكن مى قد تتخفف من شعورها بإحساس الأخت الكبرى، فالمدينة مدينتها.
بدأ الاثنان علاقة الصداقة العميقة فى نهاية الثمانينيات.
ارتبطت مى بوليد الخشاب، وكان منتصر مقرَّباً منه، وجاء لزيارتهما فى البيت، وشعرت مى أنه مهتم بما بدأتْ تنشره فى مجلة “أدب ونقد”، ويناقشها فيه، ثم تنوعت لقاءاتهما، ومثل كثير من المثقفين فى هذا التوقيت كان أتيلييه القاهرة مكانهما المفضل، لكن العلاقة بدأت تتوطد أكثر مع إصدار أول مجموعة قصصية لكل منهما، سبقها بنشر “السرائر” عن “شرقيات”، ثم تبعته هى بإصدار “نحت متكرر” عن نفس الدار كانا يلتقيان هناك، فى جلسات يظللها الناشر حسنى سليمان بمحبته، وبدعمه اللامحدود لهذا الجيل، الذى غيَّر كثيراً من الذوق السائد فى الكتابة الأدبية بمصر، لم يكونا الصديقين الوحيدين، فمعهما كان هناك مصطفى ذكرى، وإيمان مرسال. تقول مى: “شرقيات كانت بيتنا بلا مبالغة احنا الأربعة”.
كانت اللحظة الفارقة فى علاقة مى بكل شيء حولها، هى رحيل طفلتها “دنيا زاد”، التى صار اسمها عنواناً لرواية حققت صدى كبيراً بعد ذلك. تقول مى إنها تؤرخ لحياتها بما قبل هذه الواقعة وما بعدها، وتعلق: “لحسن الحظ أن هناك أشخاصاً رائعين كانوا موجودين فى حياتى وقتها، ومنهم منتصر، لقد دعمنى نفسياً إلى أقصى درجة، لا يمكن أن أنسى له ذلك، وأظن أن علاقتنا أخذت شكلها العظيم من وقتها”.
وكما كان منتصر حاضراً فى المأساة، يكون حاضراً فى الضحك. الاثنان يجمعهما المرح، وحبهما للفكاهة. لا يكفان عن النميمة، ولا يحتاج كل منهما، حتى لو ابتعدت مقابلاتهما، إلا لاتصال، بدون ترتيب. “هى آلو”، أو “مساء الفل”، بعدها ينطلقان كشلال هادر. تقول مى: “نتأمل دائماً الناس حولنا، طريقة كلامهم، ونفاقهم المستمر لبعضهم البعض، وكلامهم السطحى، وطريقة لبسهم، ليس هذا فقط هو ما نتحدث عنه، فهناك ضحايا كثيرون لنا”.
أهم ضحايا مى ومنتصر هم الشعراء، لكنها تقصد نوعاً معيناً منهم، من يبالغون فى الاستعارات والمجازات بدرجة يتوه معها أى معنى يريد الشاعر أن يوصله، إذا كان عنده معنى أصلاً: “فى بعض الأحيان تصله أو تصلنى هدية جميلة عبارة عن ديوان من هذا النوع، صحيح أننى لا أتصل به خصيصاً من أجل هذا، لكننى أنتهز الفرصة وأخبره عن الديوان، فيقول لى: اقريلنا حتة منه أو حتتين، هكذا.. أقرأ ونضحك، أو بالعكس، يقرأ ونضحك، إذا كان هو المتصل”.
ترى مى أنه ليست ثمة صداقة فى بدايات التعارف. فى علاقتها بمنتصر القفاش لابد أن شيئاً أقرب لما يمكن أن نسميه “الارتياح” للآخر هو ما اجتذبها إليه باعتباره صديقاً لزوجها وباعتباره كاتباً تحب أن تقرأ له. تعلق: “أرتاح لأشخاص قليلين فى الحياة، عادة ما يتميزون بدماثة خلق طبيعية وبعفة فى اللسان وأناقة فى الحديث. وعادة ما يكونون خفيفى الروح والدم أيضاً. أرتاح لمن يضحكنى بلا مغالاة، لمن يأخذ الدنيا مأخذ الجد بابتسامة ساخرة وبروح مطمئنة، وهى صفات معروفة عن منتصر، تتكشف سريعاً لكل من يقترب منه.
أما الصداقة، بحسب مى، وهى مرحلة أعمق من مجرد الارتياح لشخص يشبهها، فتبدأ فعلياً من منطقة المتعة الفنية الخالصة. الصداقة الحقيقية، كما تشعر بها، هى لقاء لا يمكن فضه بينها وبين نص ما. لو أسعدها الحظ، يفضى اللقاء مع النص إلى لقاء إنسانى بصاحبه أو صاحبته. يحدث ذلك نتيجة للقراءة، بعد الإنصات للحن أو مقطوعة موسيقية، أو بعد الفرجة على فيلم، أو لوحة تشكيلية، أو صورة. الصداقة كما تتمناها هى لقاء استثنائى بنص، يصاحبه شعور بالتواطؤ فى المحبة. اقتراب من أو وقوف على حافة الجمال الفائق. يراه الصديقان معاً، يحاولان فهمه معاً، يدركان أبعاده معاً، وتتوطد صداقتهما بالحوار الدائم حوله أو انطلاقاً منه.
وهكذا.. تقول مى: “بينى وبين منتصر حديث متصل موضوعه الكتابة، كتابته وكتابتى وكتابات آخرين فى المحيط القريب والبعيد. هو قارئى الأول مثله مثل وليد الخشاب وجمال القصاص. أستأنس برأيه وأثق بذائقته الأدبية. يبحث كلانا عن الجديد فى الكتابة، كما يضحى كلانا بكل ما هو زائد عن النص بعد القراءة والنقاش. بما يعنى أن أى نأى عن طموحات التجديد والانضباط والاختزال التى نسعى لتحقيقها يثير تحفظنا بدرجات متشابهة ويستدعى المراجعة والتعديل”.
يشعر الاثنان بالمتعة وهما يتبادلان المخطوطات، ويطمئنان على تطور النص بشتى الوسائل، بالحوار المباشر تارة، وبتبادل الفقرات تارة أخرى عبر الإيميل أو وجهاً لوجه. مطعم “تشيزا” بوسط المدينة، شهد محاوراتهما حول ترتيب النصوص فى مجموعة منتصر “فى مستوى النظر”، ومناقشة شخصية ثانوية فى روايته “مسألة وقت”، وفى مطعم “استوريل”، قرأ جزءاً من يومياتها واختار له عنواناً وافقت عليه فى الحال “للجنة سور”، وفى سهرة مع الأصدقاء فى بيتها دار بينهما حديث عن روايتها الجديدة، اقترحت عنوان “أكابيللا” ودار “ينهما نقاش طويل حوله كأنه اكتشاف. تعلق: “أنتظر رأيه فى نصوصى بشوق، ينتظر لمعة الثقة فى عينى وأنا أقرأ له مخطوط قصة وأبتسم. لو وصل النص ومسَّ القلب، يكون ذلك بمثابة جواز المرور للنشر، حتى لو اختلفنا حول التفاصيل والتأويل. نضحك كثيراً معا ونبكى قليلاً كل على حدة، فى الحياة كما فى الكتابة”.
فرحة النشر يتشاركانها كذلك، يكتب أحدهما أحياناً عن كتاب الآخر، هى عن روايته “أن ترى الآن”، وهو عن يوميات “للجنة سور”. لا يكتبان المقال بمنطق النقد الدارج، ولكن بمنطق المحبة الواعية، أو التقاء الأفكار. تسعدها تلك التداخلات، يسعدها فتح النصوص على الزمن وعلى احتمالات القراءة المتعددة. وتقول: “مد عمر النصوص قبل وبعد النشر هو فى ذاته مد لعمر الصداقة الفكرية والحياتية. أظن أن تلك العلاقات المتشابكة هى السر فى امتداد عمر الصداقة بيننا”.
مى تشبِّه صداقتها مع منتصر، فى معناها الأكثر عمقاً، بالرحلة: “إنها رحلة لا تنتهى بانتهاء الطريق. هى لقاء يتطور مع الوقت لكنه لا يفنى، اتصال بالآخر رغم المسافة، رغم الزمن. علاقة تتجاوز أحاسيس التملك التى يمارسها المحبون، يسودها الارتياح والاطمئنان، الإسرار والكتمان، الثقة رغم الغياب، المشورة والاتصال وبهجة اللقاء المتجدد. علاقتى بمنتصر وبكتابته، محبتى لروحه الطيبة المستقرة البعيدة عن الغيرة والتنافس والإحباط الذى يصيب الصداقات الهشة ويقضى عليها، تجعل منه الصديق والسند فى الكتابة، تجعله بعض عائلتى أيضاً، مثل أخ أو صنو أو قرين”.