مولد “البطل” في السيرة الشعبية

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

د. سمير مُندي

كتاب ”مولد البطل في السيرة الشعبية“ لأحمد شمس الدين الحجاجي كتاب صغير الحجم، ولكنه ليس قليل القيمة على الإطلاق. فهو كتاب مكثف وبسيط وعميق فيما يطرحه من أفكار ومعانٍ مبتكرة. وهذا المقال لا يتوخى تقديم عرض له أو لفصوله بأي حال من الأحوال. إنما يتوخى في المقام الأول قراءة أفكاره وإبرازها بقدر ما هو ممكن. صدرت النسخة الأولى من الكتاب عن ”دار الهلال“ عام 1991م، لكنه لم يتوقف أبدًا منذ ذلك الحين عن إثارة الجدل حوله، بعد أن اتخذ موقعه باعتباره أحد أهم المرجعيات في باب دراسة السيرة الشعبية.    

يقبض الكتاب على لحظة العبور ذات الكُلفة الباهظة من الشفاهية إلى الكتابية في السيرة الشعبية. وهي لحظة مُكلفة لأنها مزقت، في عبورها، آصرة التصادي بين مُنشد السيرة وسميَّعتها. شمس الحجاجي يعيننا على استعادة هذه اللحظة الفارقة التي استلبها النص المكتوب، من النص المَرْوي أو المُنْشَد. وذلك بتذكيّرنا أن السيرة الشعبية أولاً وأخيرًا أداء. لا يتعلق هذا الأداء بحركات أو إيماءات أو ما شابه يقوم بها الراوي. إنما يتعلق بوصل انفعال الراوي بما يُنشده وصلاً باستجابة سميَّعته. بحيث يكون الإنشاد مصحوبًا بجس نبض مستمر وتوتر يقل أو يزيد بزيادة أو قلة انفعال السميَّعة بالأحداث. خلال ذلك يكشف الحجاجي عن مفارقة حياة السيرة وموتها بتوترها في المنطقة الوسطى بين خيال راويها وخيال سميَّعتها. يصل الحجاجي بهذه المفارقة إلى ذروتها عندما يتحدث عن السيرة التي تتوهج أو تسقط بتوهج الراوي أو خفوت أداءه. إن الراوي الذي يتخلى عنه انفعاله بالسيرة يتخلى عنه في الواقع إيمانه بها. بعبارة أخرى فإنه يغدو كافرًا ببطل تتكئ بطولته، أولاً وأخيرًا، على الإيمان به وبما هو منذور من أجله. مثل هذا الكفر بالبطل أو بالسيرة، سيّان، يُبطلها من طرف خفي، ويُبطل انفعال السميَّعة بها ويودي بها إلى ما يدعوه الحجاجي ”سقوطًا واضحًا“. ذلك أن الإيمان بالبطل هو الشحنة الانفعالية التي يضخها المُنشد في خيال سميَّعته ببطل يمكن أن يكون موجودًا في كل زمان ومكان كلما دعت الحاجة إليه.

إن البطل تصنعه أزمة اصطفته الأقدار ليتغلب عليها ويجتازها في ظروف استثنائية. وهي أزمة عَالم مثلما هي أزمة فرد. بمعنى أن البطل وُلد ليجد نفسه في ورطة ما. فالبطل ليس بطلاً لأنه يمتلك قدرات خارقة، أو لأنه مسنود بقوى فوق طبيعية تعينه وقت الحاجة. على الرغم من أن هذه القوى ضرورية لبطولته، ولازمة من لوزام البطولة في السيرة الشعبية ككل. إلا أنه بطل، أولاً وأخيرًا، لأنه وُلد في ورطة. ورطة يدفع ثمنها ألمًا وشتاتًا واغترابًا. فليست البطولة هدية مجانية من الأقدار. إنها تكليف يفتح أمامه أبواب التهلكة ويُغَرّبه عن ناسه وبلده. وهذا هو مربط الفرس في السيرة، ومعقد جمالها. فالبطل رغم كل ما يتمتع به من قوة وشجاعة ونبل، ما يجعله أهلاً لأن يتبوأ مقعد الصدارة من أهله. إلا أنه دائمًا ما يكون مظلومًا ومنبوذًا من جماعته. بل إن الظلم هو الشر الذي يجب أن يعانيه البطل ويقاومه. وسيرة البطل هي المشوار الذي يقطعه من محو الظلم عن نفسه، إلى لحمه مرة أخرى في جماعته أو مجتمعه الأم، ووصله بالجزء المشطور من هويته. إن السيرة تصنع مفارقتها باستعارة ميزان مقلوب للعدل، أو ما يبدو أنه ميزانًا مقلوبًا. فكأنها ترسل لسميّعتها رسالة بأن ما يبدو لهم عين الظلم في عالم الفعل والتجربة، ربما يكون هو عين العدل في المشيئة الإلهية. فتُسري بذلك عن نفوسهم، وترفع الغطاء عن مِرجل الحسرة الذي يغلي بداخلهم.  

 والسيرة وإن لم تُنشد، بالضرورة، خلال أزمة فهي لابد وأن تلامس في ظرفها الاستنائي ظرفًا استثنائيًا محتملاً لدى السميّعة. والمُنشد بحرارة انفعاله وقوة إيمانه يوصل رسالة مواساة وطمأنة لجمهوره بأن الأقدار تقف إلى جوار المظلوم وتنصفه. ونجاح الراوي في إيصال هذه الرسالة هو ما يجعل السيرة فاعلة ومنفعلة من جديد. ذلك أن السيرة، كما ينبهنا الحجاجي، ليست تاريخًا أو وثيقة ولا تتغيا أن تكون تاريخًا لا يطوله التغيير. إن السيرة حكاية سائلة يعيد الراوي صياغتها باستمرار خلال نوبة نشوة أقرب إلى نشوة الجذب الصوفي تغشاه خلالها بروق وإلماعات فيبدل ويعدل، ويضيف ويحذف وفقًا لمزاج محدد يتقاسمه مع سميَّعته. هذه السيولة تصل مداها في اختلاف رواية الراوي الواحد للسيرة في كل مرة يرويها فيها.

سيولة السيرة، بهذا المعنى، تسخر من الذين يجهزون مقاسات نوعية أو نصيّة يقيسونها بها. أو يحاولون تصنيفها تحت ماركة الرواية مثلاً. إن السيرة سيرة لأنها تفر من نفسها، بقدر ما تفر من مُنشدها، وبقدر ما ترفض الانصياع لقيود النصيّة. هذا الارتباط العضوي بين السيرة والأداء يطيح بجمالية النص المقروء الخرساء لصالح جمالية أكثر لصوقًا بعالم الفعل والتجربة. بمعنى أنها تعيد للنص جانبه الأنثروبولوجي المفقود باعتباره تصرفًا أو سلوكًا يعيد وصل السيرة بمحيطها الاجتماعي والسياسي. ذلك الجانب الذي سقط أثناء العبور من عالم الشفاهية إلى عالم الكتابية.       

إلحاح الحجاجي على عدم نصيّة السيرة هو إلحاح على محو وصمة عار الشفاهية عن مرويات التراث بعد أن ألصق بها طه حسين تهمة الانتحال. فإن النسيان الذي نقبع تحت وطأته هو نفسه الذي دفع طه حسين إلى تجاهل أن المرويات هي بنت الجماعة وبنت ضروراتها، ومستودع آمالها ورغباتها وانكساراتها، وليست مجرد نصوص جامدة لا حياة فيها، أو وثائق تاريخية تدعي الحقيقة المجردة. ليست الشفاهية عار على السيرة أن تتنكر له، وليس اختلاف مروياتها أو شخصياتها من راوٍ إلى راوٍ ومن مكان إلى مكانٍ ومن زمنٍ إلى آخر دليلاً على زيفها أو عدم أصالتها. وليس، بالمثل، مبررًا يجب أن يدفعنا، كما دفع محسن مهدي مثلاً، إلى الانسياق وراء أوهام البحث عن أصل، عن نسخة أصلية قابعة هناك كما هي، وعلى نحو ما انطلقت من فم أول راوٍ وأول مُنشد أنشدها. ليست هناك نسخة أصلية ولا نسخة أولى ولا ينبغي لها أن تكون. ما هو موجود هو فحسب نسخ يُنتظر أن تصير نسخًا أخرى كلما رأى الخيال الجمعي لذلك موجبًا، وكلما دعاه داعٍ لأن يعتقد أنه بحاجة إلى نسخة جديدة، في لحظة جديدة أو استثنائية. وذلك في سيرورة متصلة منفصلة في آنٍ واحد. ولتكن هناك عشرات، بل مئات النسخ من أبي زيد وعنترة وحمزة البهلوان وذات الهمة دون أن يكون على السيرة أن تخشى على نفسها من سقوط ورقة الأصل، أو تعتذر عن فقدانها في غياهب النسيان الجمعي.  

بدلاً من البحث عن رواية أصلية أولى ينخرط الحجاجي في البحث عن مرويات تتفق مع القوانين البنيوية التي لا تتعارض مع ما يجب أن نفهمه عن السيرة الشعبية. إن السيرة الشعبية، لا يمكن أن تقدم، مثلاً، انطباعًا دونيًا عن الجماعة التي أنتجتها، إذ كيف يمكن أن تُترجم الجماعة لنفسها من منظور دوني هي التي تروي عن نفسها لتدافع عن هويتها؟ أقول ينخرط الحجاجي في البحث عن عُمد إنشاد السيرة في الجنوب. وحال أن يتوصل إلى رباعي رواية السيرة الثقات: الحاج عبد الظاهر وعبد السلام حامد والنادي عثمان وعوض الله عبد الجليل يكون قد توصل إلى رؤيته الخاصة لمعنى السيرة الشعبية ومبناها. يصبح العنوان (مولد البطل في السيرة الشعبية)، من ثمّ،َ بمثابة استعارة لمولد بطل السيرة، ومولد بطل البحث في ميدان السيرة. فكلاهما بطل في ميدانه. هذا الفهم قار في قلب كتاب يتضمن شذرات من سيرة الحجاجي الذاتية البحثية خلال ما أسماه ”شهر من التيه“ بحثًا عن عُمد رواية السيرة الشعبية في الجنوب. يقول:  

”ولقد كانت بداية علاقتي العملية بالرواة الشعبيين حين عدت إلى الأقصر عام 1967م للبحث في معتقدات أهل الأقصر عن الأرواح والأشباح، ولأحاول جمع القصص المرتبط بهذه المعتقدات، ثم توقفت بعدها فترة من الزمن لأعود أول يوليو عام 1987م إلى محافظة قنا في صعيد مصر وقد حصلت على منحة من مركز الدراسات الأمريكي بالقاهرة لجمع القصة الشعبية في محافظة قنا. كان البحث شاقًا عن القصة فلقد كنت أذهب إلى حُفاظ التراث القصصي لأسجل لهم. تصادف أن تلاقى شهر شعبان مع شهر يوليو، وأثناء النصف الأول من شعبان كان مولد أبي الحجاج، وكانت حلقات الغناء منتشرة في أنحاء مدينة الأقصر، وكنت أسجل في هذه الحلقات هذه الأغاني التي ينشدها المنشدون. وأخذت أبحث عن الرواة الذين كنت أعشقهم في صباي: حمدان شيخ العرب الهواري الذي عشق القص فخرج على تقاليد أسرته، يقص قصة عنترة وأبي زيد الهلالي سلامة يلقيها وهو يقف بعصاه الغليظة مؤديًا أدوار البطولة في السيرة التي يحكيها. صوته فيه قوة الرياح ورهافة النسيم، وقوة الفارس المحارب ورقة العاشق. كان حمدان يمثل صورة الممثل القدير الذي لم أر له مثيلاً، انطبعت صورته في ذاكرتي. أخذت أبحث عنه وأدركت أني أبحث عن بقايا ماض قديم، فقد مات الرجل في السودان، وهو يعمل رئيس عمال إحدى التراحيل عن عمر يناهز التسعين عامًا. أخذت أبحث عن عطا الله المغنى الذي امتدت شهرته طول المديرية وعرضها. كان عطا الله يتسيد عالم الموال وهو يغنيه، تجمع ذاكرته معظم ما وعت من مواويل ابن عروس وغير ابن عروس اختطلت دون أن يعرف مؤلفها وهو نفسه كثيرًا ما يؤلف ساعة الأداء…فعلمت أنه في قرية أبي مناع شرق فركبت إلى أبي مناع ومنها إلى أبي مناع شرق أربع مواصلات لقطع مسافة لا تزيد عن مائة ميل لأجد نفسي في قلب الجبل..لم يعد عطا الله ذلك الصوت الفريد الذي كنت أسمعه في طفولتي، كان الرجل قد كبر واقترب من عمر السبعين، ولكني لم أصب بملل، فإذا كان صوته قد تغيرت حلاوته، فإن الموال لم تتغير حلاوته…لقد شعرت في هذه الفترة بمشقة الطريق مع أن هذه المنطقة أرضي وأرض أهلي وهم كثر، ولكن عالم الهلالية يحتاج إلى دربة كبيرة، وأنا أحوج إلى معلم ليعلمني تقاليد السيرة. هذا المعلم لا يوجد في المدارس ولا يوجد بين المثقفين. ولقد وجدته في منتصف شهر أغسطس أي بعض حوالي شهر من التيه في دروب المحافظة شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا. ففي إحدى سفراتي التقيت بأحد طلاب المرحلة الثانوية الذي أخبرني أن جده يعرف الهلالية والتقيت بالجد الحاج عبد الظاهر من مشايخ العرب في قرية الكرنك الجديدة…قام الحاج عبد الظاهر بدور مهم في هذه الفترة من حياتي. فقد قام بدور المعلم لينقل لي تقاليد الرواية الشفهية..ولقد تعلمت منه الكثير، تعلمت منه اكتشاف الراوي الجيد والراوي البطال على حد تعبيره…والتقيت بعبد السلام حامد..وحدثني عن معلميه الذين تلقى عنهم فهو قد اهتم بالسير الشعبية…وذهبت إلى إحدى حفلات الزفاف بقرية أبي الجود شمال الأقصر، وهناك التقيت بالنادي عثمان…وقد أتى لي بأحد أقربائه..وهو عوض الله عبد الجليل..يغني السيرة وهو يحمل طارًا…كان هؤلاء الرواة الأربعة أهم من جمعت منهم سيرة بني هلال، وتمثل النصوص التي جمعتها منهم، والنصوص التي حصلت عليها مطبوعة، مادة هذا البحث“.     

 

مقالات من نفس القسم