ناظم ناصر القريشي
تشكّل قصيدة “موسيقى” للشاعرة بشرى البستاني نموذجًا للنص الشعري الحديث الذي يتجاوز وظيفته التعبيرية المباشرة ليصبح فضاءً متعدد القراءات، مفتوحًا على الفنون الأخرى: التشكيل، الموسيقى، والسينما. فالنص يقوم على لغة متحركة، وصور شعرية متدفقة، تنسج معًا بنية دلالية وجمالية تؤكد حضور الموسيقى كقيمة كونية، وكأداة للانعتاق من حدود الذات المغلقة نحو فضاء الوجود اللامتناهي.
تمهيد
تأتي قصيدة “موسيقى” للشاعرة بشرى البستاني محمّلة بفيض من الصور الشعرية المتحركة التي تتجاوز المألوف، حيث يمتزج الداخل بالخارج، والحسي بالروحي، والواقع بالخيال، لتصوغ تجربة شعرية قائمة على الإيقاع الداخلي واللغة المشبعة بالانفعال. إنّها قصيدة عن الانفتاح والانعتاق، حيث يصبح اللحن نافذة على الحرية، والموسيقى لغة الروح وهي تنفلت من قيودها.
اللحظة الشعرية والبنية الديناميكية
لا يمكن فهم البنية الشعرية لهذا النص دون استيعاب كونه يعيش في لحظة شعرية عالية التوتر، حيث تتولد الصور في زمنها الآني وكأنها تتفجر مثل وميض البرق. كلمة “فجأة” المفتاحية ليست مجرد أداة سردية، بل هي لحظة الانبثاق الشعري ذاته، اللحظة التي ينكسر فيها الجمود وتولد منها طاقة النص. في هذه اللحظة، يتوقف الزمن الواقعي، ويبدأ زمن آخر داخلي، زمن شعري يملك قوانينه الخاصة.
ومن هذه اللحظة، يُولد النص كطاقة حية نابضة، تتحول فيها المادة (الثلج، الغيوم) إلى قوى ديناميكية مشحونة. الثلج ليس مادة صامتة، بل برودة متحركة، والغيوم ليست سكونًا بل كتلة مشحونة بالثقل. كل صورة تحمل طاقتها الخاصة وتندمج مع غيرها لتوليد تيار متصل من الحركة. القصيدة بهذا المعنى طاقة مستمرة تتحول من شكل إلى آخر: من برودة إلى دفء، من انغلاق إلى انفتاح، من سقوط إلى صعود.
لا تتشكل القصيدة كعمارة ثابتة، بل كبنية ديناميكية متطورة. تبدأ من مشهد مغلق (الصالة)، ثم تتحرك نحو الانفتاح على الطبيعة، لتتصاعد بعد ذلك إلى فضاء كوني. كل مقطع يمثل انتقالًا في مستوى الطاقة: سقوط الثلج انتقال، سدّ النوافذ انتقال، انفتاح الشمس انتقال… حتى الوصول إلى لحظة التلاشي، حيث تنطفئ الحركة في فضاء مطلق.
البنية الشعرية والصور والبعد الرمزي
تبدأ القصيدة بمشهد مفاجئ يفتح النص على عنصر الدهشة:
“فجأة يسقط الثلج في الصالة المقفلةْ”
المكان مغلق ومكتوم، لكن الطبيعة تقتحم الداخل بقوة غير متوقعة، فينقلب السكون إلى حركة، والجدار إلى نافذة، وكأننا أمام لحظة انكسار الحواجز بين الإنسان والعالم. هذا الاختراق لا يقف عند حدود المشهد الحسي، بل يتصاعد إلى بعد رمزي أعمق؛ إذ تأتي الغيوم لتسدّ النوافذ، في مقابل “لحن أخير” يرفّ، وكأن الموسيقى وحدها قادرة على اختراق العتمة وإعادة فتح الأفق.
تتتابع الصور الشعرية في حركة متدفقة: الثلج، الغيوم، الشمس، البلابل، الموج، الغصون… كلها عناصر طبيعية تتداخل لتشكّل مشهدًا كونيًا متحوّلًا، حيث تتحول الأشياء من مجرد عناصر خارجية إلى رموز للحياة والانبعاث. وفي وسط هذا الزخم الكوني نجد الأنا الشاعرة تندمج مع الموسيقى في تماهي كامل:
“أمدّ ذراعيَ أمسك ما يتناثر من ندف النغمِ”
الموسيقى هنا لم تعد مجرد صوت عابر، بل غدت مادة ملموسة يمكن لمسها كندف الثلج، وطاقة روحية يمكن اقتناؤها والاحتماء بها.
هذا التداخل بين المادي والروحي هو مفتاح البنية الرمزية للنص. فالموسيقى ليست مجرد فن أو متعة حسية، بل هي قوة كونية تحرّر الروح من أسرها:
»تغادر روحي قضبانها«
بهذا تتحول الموسيقى إلى أداة انعتاق وجودي، إذ تنفتح الذات على الكون الرحب حيث البحر يتداخل بالأفق، والأرض بالنهر، والصحارى بالدوران، في مشهد يوحي بوحدة الوجود وتآلف عناصره في سيمفونية كبرى.
وتبلغ التجربة ذروتها مع التصعيد الأخير:
“أصعدُ
أصعدُ
حتى التلاشي”
فالموسيقى لا تقف عند حدود الجسد، بل تدفع الذات إلى تجاوز وجودها الفردي نحو الفناء الصوفي، حيث يتحقق الاتحاد بالمطلق والذوبان في الكلّ. هنا تصبح القصيدة رحلة صعود متدرج، من عتمة الداخل إلى انفتاح الكون، ومن قيود السجن الروحي إلى فضاء التلاشي في النور، لتؤكد أن الموسيقى في رؤيا الشاعرة بشرى البستاني ليست زينة للروح، بل هي طريق خلاص واندماج في الجوهر الكوني.
الأبعاد الفلسفية والطاقوية للقصيدة
لا تقف الشفرة الإبداعية للنص عند حدود دلالاتها الرمزية والأدبية، بل تمتد لتمسّ بعدًا أنطولوجيًا عميقًا؛ فالموسيقى هنا ليست موضوعًا للغناء، بل سؤال وجودي يفتح الكيان على ما يتجاوز حدوده. كل صورة تحمل هذا الوزن الوجودي: الثلج هو النقاء والعدم المؤقت، الغيوم ثقل الكينونة، الشمس الحضور المضيء، الموج ديمومة الحركة، والتلاشي هو الفناء في الكلّ.
هذا ما يصوغ رحلة صوفية متصاعدة، تتحول فيها القصيدة إلى طقس روحي، ويكون الصعود معراجًا تتسلق به الروح نحو الذوبان في المطلق. البداية عتمة وانغلاق، والمنتصف امتلاء بالعناصر الطبيعية، أما النهاية فهي صعود متكرر “أصعدُ، أصعدُ” وصولًا إلى “التلاشي”.
يمكن قراءة هذا التزاوج بين البصري والسمعي على أنه تشكيل لجسد موسيقي-بصري حي. النص يجمع بين خاصيتين: أنه يُسمع ويُرى في آن واحد. الصور البصرية من ثلج وغيوم وشمس وغصون تمثل الجانب التشكيلي، بينما التكرار، والتقطيع، والتصعيد يمثل الجانب الموسيقي. القصيدة جسد حيّ تتحرك فيه الأصوات والألوان معًا، كأنها سيمفونية ضوئية تُعزف داخل فضاء شعري.
ولنغوص أعمق: القصيدة هنا تخضع لفيزياء دقيقة؛ الكلمات تتحرك كجزيئات في حقل طاقوي، والنافذة المغلقة هي حاجز للضغط والفراغ، والريح قوة ديناميكية تولد اضطرابًا في فضاء المعنى. هذه الفيزياء الشعرية – حيث سرعة اللغة وكثافة الإحساس ينتجان طاقة شعرية هائلة – هي ما يحوّل النص إلى مجرة صغيرة تدور فيها العناصر حول جاذبية الشغف المركزي للشاعر.
اللغة المتحركة: الإيقاع والدلالة
الإيقاع في النص يعتمد على التكرار (فجأة – أصعدُ)، وعلى التدرج التصاعدي في الصور. هذا يمنح القصيدة موسيقى داخلية موازية لموضوعها، بحيث يصبح الشكل جزءًا من المضمون. التقطّع بين الجمل القصيرة والسريعة يعكس الاندفاع والانخطاف الروحي، بينما الامتداد في بعض المقاطع يجسد حالة الانصهار الكوني.
اللغة في هذه القصيدة ليست ساكنة أو تقريرية، بل دينامية تتحرك على أكثر من مستوى:
- الحركة المفاجئة:
يتكرر لفظ “فجأة” في مستهل المقاطع، ما يمنح النص عنصر الدهشة، ويجعل الصور تنبثق بقوة أشبه بالانفجارات الشعرية. فالسقوط، التداعي، انفتاح النوافذ، رفرفة البلابل… كلها أفعال حركة تكسر جمود “الصالة المقفلة”. - انسياب الطبيعة داخل الداخل:
اللغة تجعل من المكان المغلق فضاءً متحركًا، إذ يقتحم الثلج والغيوم والشمس والطيور الصالة. هنا تتحرك اللغة بين الداخل والخارج، فتمحو الحدود بينهما. - تصعيد الوعي نحو الذروة:
الفعل “أصعد” الذي يتكرر في النهاية يختزن طاقة لغوية عمودية، تدفع النص من المشهد الحسي إلى الارتقاء الروحي، حتى يبلغ لحظة “التلاشي”. اللغة هنا لا تصف فقط، بل تتحرك مع الذات في صعودها.
الشفرة الإبداعية
الشفرة الإبداعية هي ما يجعل النص يتجاوز البنية الظاهرة إلى رسالة أو “كود” خفي يحكمه. في هذه القصيدة يمكننا تحديد عناصر هذه الشفرة فيما يلي:
- الموسيقى بوصفها أداة تحرر:
ليست الموسيقى مجرد خلفية، بل هي “النافذة” التي تنفتح فجأة، وهي “الندف” الذي يمكن لمسه، وهي القوة التي تفك أسر الروح. الشفرة هنا تقول: الموسيقى طريق الخلاص. - ازدواجية الانغلاق والانفتاح:
يبدأ النص من “الصالة المقفلة” وينتهي بالتحليق في فضاء “التلاشي”. هذه الرحلة من القيد إلى المطلق تكوّن البنية العميقة للقصيدة، وهي الشفرة التي تحرك جميع الصور الجزئية. - تداخل العناصر الكونية:
البحر بالأفق، الأرض بالنهر، الصحارى بالدوران… هذا التداخل ليس وصفًا للطبيعة، بل إشارة إلى وحدة الوجود، حيث يصبح الكل متناغمًا في سيمفونية كبرى.
الشفرة هنا هي: العالم موسيقى والإنسان جزء من لحنه. - البعد الصوفي:
الصعود حتى الفناء يعكس نزعة صوفية، حيث لا تكتمل التجربة إلا بالذوبان في الكليّ. هذه البنية الباطنية تشكل الشفرة الأعمق للنص.
من العزلة إلى الذوبان في الوجود
في قصيدة “موسيقى”، لا تقدم الشاعرة د. بشرى البستاني مجرد وصفٍ لحظة استماع موسيقي، بل تُصوِّر رحلةً وجوديةً كاملةً، تبدأ من قفص العزلة والركود لتصل إلى ذروة التحرر والاندماج مع الكون. بقوة الصورة والإيقاع، تخلق البستاني عالماً تذوب فيه الحدود بين الداخل والخارج، بين الصوت واللون، بين الذات والآخر.
.1صدمة الجمال: اختراق المألوف
تبدأ القصيدة بـ “فجأة”، وهي الكلمة المفتاح التي تعمل كصاعق يُضيء عالم القصيدة. هذه المفاجأة ليست عابرة، بل هي قوة جمالية قاهرة تقتحم حيزًا مغلقًا ومكتومًا (“الصالة المقفلة”). سقوط الثلج داخل الصالة هو استعارة مدهشة عن قدرة الفن على اختراق حواجز الروح المغلقة، حاملاً معه نقاءً وبراءةً جديدين. إنه لحن يرفّ على “الشرف المطفأة”، نذيرٌ بنهاية عالم قديم وبداية آخر.
.2تزامن الحواس: بناء عالم موازٍ
العبقرية في القصيدة تكمن في تزامن الحواس، حيث تتحول الموسيقى من ظاهرة سمعية إلى تجربة كاملة:
- الموسيقى تُرى: تتحول النغمات إلى “ندف” ثلجية ملموسة يمكن محاولة الإمساك بها (“أمدّ ذراعيَ أمسكُ ما يتناثرُ من ندف النغمِ”).
- الطبيعة تُسمع: يصبح المشهد الطبيعي المنفتح جزءًا من السيمفونية (“يرفّ البلابل”، “يهدر موج”).
هذا التداخل الحسي ليس أسلوبًا، بل هو جوهر التجربة: إنه يخلق واقعًا جديدًا تُلغى فيه الفواصل بين الذات والموضوع، ليصبح المستمع جزءًا من الموسيقى، والموسيقى جزءًا من العالم.
.3ذروة التحرر: الذوبان في اللامحدود
التحول ليس خارجيًا فحسب، بل هو تحول داخلي جذري. “تغادر روحي قضبانها” – هنا يتحقق التحرر النهائي. القضبان هي كل ما يقيد الروح: المادة، الذاكرة، المكان، والزمان. بعد التحرر، يبدأ الذوبان الكلي:
- ذوبان الجغرافيا”: يتداخل بحرٌ بأفقٍ، وأرضٌ بنهرٍ”.
- ذوبان الزمان”: تدور الصحارى”.
- ذوبان الذات”: أصعدُ أصعدُ حتى التلاشي”.
الصعود هنا ليس مكانيًا، بل وجوديًا؛ إنه صعود نحو الفناء الكامل في جوهر الوجود، حيث تفقد الذات أبعادها المحدودة لتذوب في الأبدي.
القراءة التشكيلية (البصرية)
القصيدة تُرسم بالألوان والكتل والفراغات:
- الأبيض: الثلج المتناثر داخل الصالة رمز للنقاء والانفتاح.
- الأسود/الظل: الغيوم التي تسدّ النوافذ تمثل الإظلام والعزلة.
- الأصفر/الذهبي: الشمس التي تومض فجأة تضيء اللوحة، فتمنحها حياة بعد عتمة.
- الحركة التشكيلية: من الخطوط المغلقة (الصالة، النوافذ المسدودة) إلى المساحات المفتوحة (الأفق، البحر، الصعود).
إذن القصيدة أشبه بلوحة متحوّلة من سكون قاتم إلى انفتاح مضيء، حيث الألوان والخطوط تتبدل على عين القارئ.
القراءة اللونية للقصيدة
النص يتحول إلى لوحة متدرجة الألوان، تُقرأ بصريًا كمقاطع:
- المشهد الأول (الثلج/الأبيض): بياض بارد داخل صالة مغلقة → نقاء مقيّد وعزلة.
- المشهد الثاني (الغيوم/الرمادي): رمادي ثقيل يسد النوافذ → عتمة خانقة وانسداد الضوء.
- المشهد الثالث (الشمس/الذهبي): أصفر/ذهبي مفاجئ ينفجر من العتمة → انفتاح ونافذة خلاص.
- المشهد الرابع (الطبيعة/الألوان): الأزرق (الموج)، الأخضر (الغصون)، الألوان الزاهية (البلابل) → عودة الطبيعة بكل أطيافها، امتلاء بالحياة.
- المشهد الخامس (التداخل الكوني): امتزاج الأزرق/البني/الأخضر (بحر، أفق، نهر، صحارى) → لوحة سريالية كونية.
- المشهد الأخير (الأبيض المطلق): ذوبان كل الألوان في ضوء شامل → رمز الفناء الصوفي والتحرر الكوني.
البعد العطري: عبير التحوّل
لا تقتصر قصيدة “موسيقى” على البصر والسمع فحسب، بل تستدعي أيضًا حاسة الشمّ بوصفها بعدًا خفيًا في التجربة. فالنص يتدرج عطريًا كما يتدرج موسيقيًا ولونيًا، لينسج سيمفونية شمية موازية:
- الثلج: بياض بلا رائحة، أشبه بالمسك الصامت، حيث النقاء المقيّد يسبق الانبعاث.
- الغيوم: تحمل رطوبة كثيفة توحي برائحة المطر الأولى، أي عطر الأرض حين تستعد للتجدد.
- الشمس: ومضتها المفاجئة تنثر دفئًا عطريًا غير منظور، كعبق الذهب المحترق أو رائحة الجسد الدافئ بعد البرد.
- البلابل والغصون: هنا يتنفس النص أريج الحياة، عطر الزهور والهواء الطازج، عبير الربيع المتجدد.
- الموج: يبعث رائحة البحر المالحة، رائحة الحرية والانفتاح والديمومة.
- التلاشي: ينتهي النص في عطر صوفي يتصاعد كبخورٍ شفيف، حيث تتلاشى الروائح كما تذوب الألوان والأصوات في فضاء مطلق.
بهذا يصبح النص فضاءً عطريًا–شعريًا، تتحول فيه الصور إلى عبق محسوس، فيكتمل تزامن الحواس (السمع، البصر، الشمّ)، ويغدو القارئ وكأنه يعيش داخل عطرٍ شعري يتبدل من البياض البارد إلى بخور الفناء الصوفي.
القراءة الموسيقية (الإيقاع واللحن)
النص نفسه موسيقى داخل موسيقى:
- التكرار (فجأة – أصعدُ) يعمل كإيقاع منتظم يشبه الضربات أو النبضات.
- الجمل القصيرة المتقطعة تشبه النوتات السريعة أو الارتجال اللحني.
- الصور الحسية (رفرفة البلابل، هدير الموج، تناثر النغم) تتحول إلى أصوات: زقزقة، هدير، خفقان.
- التصعيد الأخير:
“أصعدُ
أصعدُ
حتى التلاشي”
يبدو ككريشندو (تصاعد لحني) ينتهي في ذروة صوفية، حيث تتلاشى الأصوات في صمت مطلق.
إذن القصيدة ليست عن الموسيقى فحسب، بل مكتوبة كأنها مقطوعة موسيقية.
نوتة الكلمات الموسيقية
القصيدة تُقرأ كسيمفونية بصرية–سمعية تتدرج عبر مقاطع واضحة:
- الافتتاح (الثلج/الأبيض): هدوء بارد، سقوط رقيق على إيقاع بطيء متقطع، أقرب إلى بيانو منفرد يقطّع الصمت بنغمات متباعدة.
- التوتر (الغيوم/الرمادي): ثقل وانسداد النوافذ، الإيقاع يتعمق بصوت تشيلو منخفض يشي بالعتمة والضغط الداخلي.
- الانفراج (الشمس/الذهبي): ومضة مفاجئة تفتح النافذة، نغمة صاعدة، دخول الكمان والفلوت في قفزة مشرقة.
- الحياة (البلابل/الموج/الغصون): إيقاع سريع متعدد الطبقات، تناغم أصوات وألوان، موسيقى أشبه بكورال طبيعي يملأ الفضاء.
- التصعيد (التداخل الكوني): اتساع أوركسترالي كامل، صعود تدريجي مستمر، حيث تتداخل البحر والأفق والأرض والنهر والصحارى في سيمفونية كونية.
- الذروة (الصعود/التلاشي): كريشندو هائل، ضوء أبيض يغمر المشهد، ثم صمت مطلق يشبه اكتمال التجربة الصوفية.
القراءة السينمائية (البصرية الحركية)
إذا تعاملنا مع النص كفيلم قصير:
- المشهد الافتتاحي: صالة مغلقة، ثم يسقط الثلج فجأة، كاميرا قريبة (close-up) على النوافذ المسدودة.
- الانتقال المفاجئ: وميض الشمس يفتح النافذة – لقطة بانورامية تتيح دخول الضوء.
- المونتاج المتسارع: البلابل ترفرف، الموج يهدر، الغصون تهفو… لقطات متلاحقة أشبه بمشهد مونتاج طبيعي.
- التأثير البصري/الصوتي: تتداخل البحر والأفق، الأرض بالنهر… كأن الكاميرا تذوب في الطبيعة لتصنع مشهدًا سرياليًا.
- الخاتمة: حركة تصاعدية للكاميرا (tracking shot) مع صوت يتلاشى تدريجيًا، حتى يذوب المشهد في ضوء أبيض: “التلاشي”.
بهذا تصبح القصيدة سيناريو شعري يصوّر رحلة الانعتاق من القيد إلى الحرية.
موسيقى الضوء: قراءة ضوئية في نص “موسيقى” لبشرى البستاني
تتشكل قصيدة “موسيقى” كفضاء بصري–سمعي، حيث يتحول النص إلى ما يشبه موسيقى الضوء: يبدأ بمشهد صالة مغلقة يكسوها الثلج في ضوء أزرق رمادي خافت، رمزًا للعزلة والجمود، ثم ينفجر الضوء فجأة في بياض فضي صادم يفتح باب التحول، ليتشظى بعدها في أطياف لونية متداخلة (الأزرق البحري، الذهبي الشمسي، الأخضر النباتي) تتحول إلى فاعل درامي. إيقاع النص يتوزع بين خارجي قائم على التكرار الصوتي (الراء، النون) وتقطيع الجمل كقطع موسيقية، وداخلي نابض يبدأ بالبطء (“يسقط الثلج”)، يتسارع (“يهدر موج عصي”)، ثم يهدأ تدريجيًا نحو الذوبان (“حتى التلاشي”). على المستوى الحسي، نلمح سيمفونية بصرية تتناغم فيها حركة اللون والصوت: سقوط الثلج يقابل صعود الروح، وألوان الموج والطيور والغصون تتداخل في هارمونية نصية تستعيد توازن العناصر (ماء، هواء، أرض). هذا التواشج يحوّل القصيدة من تجربة لغوية إلى رحلة ضوئية–صوتية تُخرج الذات من عزلتها لتذوب في نور كوني مطلق.
الامتداد الإبداعي للنص: من الشعر إلى فضاءات التلقي المتعددة
لا يتوقف إبداع نص “موسيقى” عند حدود الكتابة، بل يمتد ليشكل نواة إبداعية متجددة تفتح أبواب التأويل أمام القارئ والمبدع على حد سواء. فالقصيدة هنا ليست مغلقة على دلالتها، بل هي نص مفتوح يتحول إلى منصة لحوار إبداعي بين الفنون. يمكن لهذا النص أن يكون مصدر إلهام لـ لوحة تشكيلية تجسد تداخل الألوان والخطوط، أو مقطوعة موسيقية تعزف على أوتار التصعيد والذروة والانحسار، أو حتى فيلم قصير يوثق الرحلة من العزلة إلى الذوبان في الوجود. هذا الامتداد ليس ترفيًا جماليًا، بل هو استمرار حيوي لرسالة النص التي تؤكد على تواشج الفنون ووحدة التجربة الجمالية، حيث تذوب الحدود بين الأجناس الإبداعية كما تذوب الذات في النص، لتصبح القصيدة بذلك فضاءً توليديًا لا ينضب، يستدعي قارئه ليس لمشاهدته فحسب، بل للمشاركة في اكتماله عبر تأويلات إبداعية جديدة.
خاتمة: الموسيقى كطريق
قصيدة “موسيقى” لبشرى البستاني هي رحلة شعرية–صوفية، تنفتح على أبعاد تشكيلية وموسيقية وسينمائية متداخلة. تبدأ من انغلاق داخلي، ثم تتصاعد في انفتاح تدريجي على الطبيعة والكون، لتصل في النهاية إلى لحظة الفناء في الضوء. إن النص ليس مجرد وصف للموسيقى، بل هو بذاته موسيقى كونية مكتوبة بالكلمات، لوحة تنبض بالألوان، ومشهد سينمائي يتصاعد حتى يذوب في المطلق.
“موسيقى” البستاني هي أكثر من قصيدة؛ إنها بيانٌ شعريٌّ عن قوة الفنّ التحويلية. الموسيقى هنا ليست ترفيهًا، بل هي طريقٌ صوفيٌّ يقود من الظلمة إلى النور، ومن القيود إلى الحرية المطلقة، ومن حدود الذات إلى سعة الوجود. تُذكّرنا البستاني أن الجمال الحقيقي ليس مسكناً للروح، بل هو صدمة توقظها، وزلزال يهزّها من الأعماق، ثم يكون منفذاً لها لتتجاوز ذاتها وتُلقي بنفسها في فضاء الحرية والخلود.
النص
موسيقى
بشرى البستاني
فجأة يسقط الثلج في الصالة المقفلةْ …
فجأة تتداعى الغيومُ،
تسدُّ النوافذَ
لحن أخيرٌ يرفّ على الشرف المطفأةْ
أمدّ ذراعيَ
أمسكُ ما يتناثرُ من ندف النغمِ
الشمسُ تومضُ،
تنفتح النافذةْ …
فجأةً ..
وترفُّ البلابلُ،
يهدرُ موجٌ عصيُّ،
وتهفو الغصونُ
تغادرُ روحيَ قضبانها…
يتداخلُ بحرٌ بأفقٍ،
وأرضٌ بنهرٍ
تدورُ الصحارى،
وأصعدُ
أَصعدُ
حتى التلاشي …





