معتصم الشاعر
عزيزي القارئ!، وأنت تقرأ رواية أو قصيدة معاصرة، هل شعرت بأنك في حاجة إلى الرجوع إلى القاموس العربي؛ لتعرف معنى كلمة في النص لم تقابلك من قبل؛ فشعرت بأنك ازددت ثراءً لغويا؟.
الأدب والشعر أوعية لنقل الأفكار والمشاعر، ولكن لهما وظيفة أخرى وهي حفظ قواميس اللغات من الانقراض، ليس الانقراض المادي، بل حتى الشعور بقلة الحاجة للرجوع إليها يعد خسارة كبيرة، فعلى سبيل المثال، نادرا ما أحتاج إلى قاموس حين أقرأ نصا إبداعيا معاصرا، وهذا لا يعني أنني ضليع في اللغة بقدر ما يعني أن معظم الكتاب المعاصرين اكتفوا بما هو شائع من المفردات، فصارت لغة الأدب أقرب إلى لغة الصحافة مع فارق في الأخيلة واستخدام البلاغة والافصاح عن المشاعر والإيحاء بالشاعرية، قد ينظر البعض إلى هذا بعين الرضا، فالأهم عندهم هو أن يعبر الكاتب عن أفكاره بما لديه من مفردات؛ وليس مطلوبا منه إحياء لغة قديمة لا يُحتاج إليها الآن، ولكن هذا يُحدث قطيعة مع التراث، فالذي تعود على تلقي الأعمال المعاصرة قد يصعب عليه جدا تذوق النصوص التراثية، وكان على الأديب المعاصر أن يكون همزة الوصل بين الماضي والحاضر، فتشعر الأمة بأن لديها امتداد في الزمان، وأن لديها في ماضيها إرثا إنسانيا جديرا بالاهتمام وحكمة قد تكون ضالة شخص ما.
ليس بالضرورة أن يكتب الشاعر المعاصر على نهج امرؤ القيس في اختيار المفردات، بحيث يحتاج القارئ إلى القاموس لفهم كل بيت من أبيات القصيدة، ولكن لا بأس بكلمة أو كلمتين، وهو ما يحْدُثُ لنا عند قراءة الأدب الإنجليزي المعاصر، فأحد الأساتذة العرب الذين يعيشون في الغرب ويتحدثون لغته كبنيها، اعترف بأنه يجد صعوبة في تذوق الأدب، لأن اللغة الأدبية أرفع من لغة الخطاب العادي، فقد لا نحتاج إلى قاموس حين نقرأ صحيفة نيويورك تايمز أو حين نشاهد السي إن إن، ولكن بالتأكيد نحتاج إلى قاموس لنفهم بعض مرامي الرواية الأمريكية.
إننا نحتاج إلى أن نكون قريبين من القاموس العربي لأهمية اللغة وقدسيتها، ولنفهم نصوصا تراثية عديدة ما زال تأثيرها في حياتنا شديدا، كالنصوص الدينية، وكتب التاريخ والمعرفة المتراكمة التي صنعت الحضارة العربية الإسلامية، وكثير من إشكالات الجماعات المتطرفة الآن هي إشكالات لغوية، نتج عنها سوء في الفهم وضعف في التصور، وقد يتصدر البعض لتعليم الناس وهو في نفسه يعاني من الفهم السقيم، فعانى واقعنا من ضعف صلتنا بالتراث وليس بسببه.
إن سهولة فهم الأدب المعاصر الخالي من المفردات الجديدة، قد يدفع الكثير من القراء إلى هجران الكتب الأخرى، خاصة التراثية بحجة أنها لا تصلح لهذا الزمان، فيترك الكثير مما هو نافع، ويحتفى بالفكر المترجم عن اللغات الأجنبية، وقد يكون ما في التراث أكثر حداثة مما هو الآن، وإذا استمر هذا النمط فسنحصل على أجيال لا تقرأ شيئا غير الروايات، ونحن نريد إنسانا يقرأ في شتى العلوم والمعارف، أنا روائي لكنني أقول بلا إحساس بالذنب أن الرواية ليست كل شيء في الحياة، وبقدر أهميتها هنالك معارف أخرى أيضا مهمة مثلها أو أهم منها، نحتاجها لحياة متوازنة وناهضة في كل مجالاتها.
أحيانا نستعير كلمات من لغات أجنبية دون أن نجتهد لنعرف ما يقابلها في لغتنا الفصيحة، إذا كان ذلك يُتعب المترجم للتفتيش في قواميس العربية، وهذا بالطبع يعلي من قاموسنا الأجنبي وينقص من قاموسنا العربي، وتُشعر القارئ بأنه في حاجة إلى اكتساب مفردات أجنبية كثيرة، ولا يجد بأساً بفقدان مفردات عربية مقابلة لها، بحجة أن اللغة العربية ليست مواكبة للعصر، ولذلك يحتاج المترجم أيضا أن يكون ضليعا في اللغتين.
إذا استمر الحال كما هو، فإن أدب اليوم لن يكون مقروءا بعد سنوات، لأن معظم كلماتنا لن تكون شائعة حينئذٍ، ما لم يتدرب القارئ الحالي على الرجوع للقاموس والاحتفاء بالمفردات الجديدة.