عزالدين الماعزي
ليلة القبض على المعلم
1
الليل موحش برهبته ونزواته بين ليلة وأخرى، نهار أبيض كالنعش يثقل كاهلنا، مسافات التوحش وأعوام الغربة كسداد القنينة، وليلى المعنى يؤكد أن ثمة أحاسيس تسعى الى ربط تحالف مع البراءة الساذجة…أعرف أن من يريد التجدد يتقبل الاحتراق لذلك المسافات لا تلين بسرعة. وأكاد أقول ان ليل الجنوب يمر مثقلا.
ما أصعب أن ترمي بعظامك خلف حيطان مثقوبة وملغومة، ترفض التثاؤب والنزوح بعيدا عن أقصى درجات العزلة. اعتقال وحالة انهيار، ضجر وأي ضجر…
ثمة شيء يسكننا، يوطن علائقنا بما لا ينقال…
أنكمش تحت الغطا، أجره بعيدا عن الأشباح، وأحاول أن أتملى طلعة حلم، بدل أن أستمع الى شخير صديقي المعلم، من تحت الغطاء رأيته يدفع ظلمة المكان يعود ثقاب ويشعل الشمعة الوحيدة بيننا، يقرفص… يناديني…أتحايل بالنوم. هو هكذا يرتعش كلما سمع خشخشة في أرجاء الغرفة أو بين أوراق التحاضير والمراجعة.. يوقظني.. لأبحث معه عن فأر، ومرات عديدة يتمخض الفأر ثعبانا أو عقربا أسود.
جرّ عني الغطاء وصاح:
– عقرب، أفلان،،،
تململت وبي خدر ماكر، أعرف ما يريده…قلت:
-(الباب مسدود والثقابي…الجفاف بللته قدام الباب )
-(وهذا التخرخيش اديال آش..اسمع وراء الباب شي حيوان ؟..)
-(راه غير شي ذيب ولا ثعلب…انعس أصاحبي..)
-(كيفاش انعس !؟..)
حمل الشمعة وراح يدور في أرجاء الغرفة، بيده عصا أيضا، قلت ضاحكا:
-(غادي اتشعل العافية في السقف.)
-( إنها عقرب…)
-(…تبحث عن دفء…)
صدمت رجله صدفة (الوتار)آلة العزف وأحدث رجة في ظلمة الليل، أعرف أنه يبحث عنه لكي يوقظ مكامن الروح ويذيب جليد الصمت المطبق. ما أصعب أن تفض بكارة هذا الفضاء.
ما أجمل الوحشة حين تمتزج بصوت مخلوق آخر يبحث عمن يؤنسه.
-( هاك، خذ.. خففْ علينا شويه…)
الوتار عبارة عن طارو وقصبة وبضعة خيوط صنارة، اتكأت وظهري على الحائط الطوبي، نصف الغطاء يغطي جسدي النحيل، أشعل سيجارة و راح ينفث متراخيا بجانبي، يدندن مرة ويتابعني على نغمات الغيوان، ثم يحضر” البانيو” الأحمر الصغير وينقر عليه…
تبدو عليه مسحة من الحزن والهم، وحده الغناء والعزف يمحو تفاصيل الشرخ ولعنة الطباشير، الترسانة الهشة لقدسيتنا.
أكل هذا البياض / الحناء يفضح تعبنا الجميل..؟
أظل أعزف حد الرعشة وهو يغني الى ان يسقط متهالكا وهو يقول:
– توحشت الوالده والدار.. جيب شي مقيطع ديال الميمة !…
– منعرفش.. قلت: أكتبْ ليهم شي بريه(رسالة)..
2
وراء هذا الصقيع ما يكفي للتشبث بأبعاد البقاء، ومن أجل التفتيت رحابة هذه الظلمة، يجب أن يحكي ويحكي وتستمع إليه بشغف إلى أن ينبلج الصبح.. ولكي لا أضيع حالة الشرود، قلت خلسة: – (فأر.. فأر.. تحتك..)
قفز بعيدا، واتجه الفأر مفزوعا هو الآخر تحت الوسادة، قبضت عليه من ذيله، أكاد أحس به يتلوى في يدي بصرخات مكتومة، الفكرة التي تروج في الرأس هي دك عظامه وقبض روحه، بين الحين والحين يأتي ليزاحمنا في لحظة الدهشة وترتيب المخاض. حمل صديقي قنينة الماء الفارغة وقال: ضعه هنا و سأقفل عليه بنصف (خيزو) خزرة…
وضعنا القنينة قريبة من ضوء الشمعة، وبدأنا نتأمله وهو يقفز باحثا عن منفذ للخروج..
تأملت خلسة الفأر وهو يقاوم، وصديقي داخل فراشه مبشوش الوجه… يقاوم… ذاكرة مثقوبة وأشياء أخرى بحجم قشرة الوجود، أو المأساة….
ثمة أحاسيس مخيفة تسعى إلى أن…وأن..
وجوهنا مخضبة بضفائر مبهمة، وضلوع مهشمة… لا أعرف… لكن لدي ما يكفي لكي أقبض على قلبي وأضع رأسي بين يدي وأسترخي.. مفكرا…
-(غادي اتعمّرْ براد أتاي…)
قال صديقي ذلك وأنا أعض أظافري بأسناني الأمامية، كمن يخفي وداعته في مشاكسة الفار المقبوض عليه، عيناه مثقلتان بآلهة الثمالة تبحثان عن عنوان يصلح لقصيدة..
– ليلة القبض على الفأر.