رشيد الأشقر
لا يختلف اثنان في أنّ «الفعل» هو مركز الحركة في الجملة و في كل خطاب يتوخى الحكي و السرد، لذلك فمن البدهي أن يكون البناء الفعلي هو الأنسب لمقصد الحكي المسرود لغويا؛ بينما الجملة الإسمية بالمقابل، تؤدي إلى تبطيء السرد و تعطليه بما تتيحه من مساحات الوصف و التعليق و التأمل و غيرها من العمليات البنائية الأخرى في العمل الأدبي.
هذه قناعة نقدية عامة تنسحب على كافة النصوص ذات الطبيعة الحكائية، كالرواية و القصة و غيرهما، أما في مجال القصة القصيرة جدا تخصيصا، و على الرغم من شرط «القصصية/ الحكائية» (NARRATIVITÉ) الذي يحاصر هذا الفن، فإن مسألة «الفعلية» ينبغي أخذها بكثير من الحذر باعتبار أنّ خصوصية هذا الفن «الهجيني» و طبيعته المنفلتة من كل تقنين ترفض مثل هذه الاشتراطات الجزافية المسبقة.
و ممّا يدعو إلى هذا الحذر في التعامل مع مسألة «الفعلية» داخل إطار القصة القصيرة جدا، ما يردّده بعض الدارسين و النقاد العرب حول «مركزية» الجملة الفعلية في بناء نسيج النص القصصي الوجيز، و حاجة هذا الصنف من القصّ إلى الجملة الفعلية أكثر من حاجته إلى الجملة الإسمية. و هذا ما دفع بمبدعي هذا اللون السردي الوامض إلى المبالغة في العناية بالتراكيب الفعلية لاعتقادهم أنّ تتابع و استرسال الجمل الفعلية يحقق للنص الحركية و الحدثية و السرعة المطلوبة.
و كانت من بين التصورات النقدية المثيرة للجدل في هذا الصدد، ما يشترطه أغلب الدارسين و النقاد العرب من ضرورة اتكّاء القصة القصيرة جدا على معيار «الترادف و التراكب الفعلي» كآلية لتحقيق الإيجاز النصي و تسريع الإيقاع السردي. و هذا ما يؤكّده الباحث و الناقد المغربي الدكتور جميل حداوي – أحد أبرز الدارسين العرب لهذا النوع الأدبي – إذ يرى في «مشروعه النظري الجديد» و مقاربته «الميكروسردية» المتميّزة لظاهرة القصة القصيرة جدا، أنّ الترادف و التراكب الفعلي في القصة القصيرة جدا يُسهم في ( تسريع النسق القصصي و إسقاطه في شرنقة التأزم و التوتر الدرامي الحركي .. )، بل إن جميل حمداوي يذهب إلى حدّ الإقرار بأنّ تتابع الجمل الفعلية و تعاقبها و استرسالها و انسيابها ( هو الذي يُعطي للقصة القصيرة جدا رونقها الإبداعي الشاعري، و متعتها الجمالية الفنية، و فائدتها الرمزية. – القصيرة جدا و المشروع النظري الجديد- ص 282 / 283).
و كان من إفرازات مثل هذا الانزلاق النقدي المتسرّع، ظهور سيل من القصص القصيرة جدا التي اعتمد فيها كتّابها مقياس «الترادف الفعلي»قاعدة رئيسية من أجل بناء عوالهم الحكائية الوجيزة، و يكفي أن تفتح أية مجموعة قصصية قصيرة جدا، أو تطلّ على ما يُنشر داخل المنتديات و المجموعات الافتراضية المتخصصة في هذا اللون الأدبي، لتقف على تواتر مثل هذه النماذج التي انتقيت بعضا منها على سبيل التمثيل العشوائي:
- (استجابة ) / محمد علي مدخلي
أطال في سُجوده ،دعا على مَنْ ظلمَه ، سقط الإمام مغشيًّا عليه. - (عقوق) / محمد غازي النعيمي
تطرّف في أفكاره، تشدّق في أقواله،حدّ سكينته،جز رأس أمّه،انتصر لنفسه.
- الزرّ الأحمر / إبراهيم شرف
يستدرجه، يباغته، يَشْزر، يُكَشِّر، يَنْهت، يزأر، يزمجر، ينقض .. يأكل ظله.
- ( تكريم) / فوزي القوراني
وزّعوا الأكفان على الأحياء؛ نعق الغُراب. ضحك الصّيّاد. زفرت الأرض، نبتتْ شقائق النعمان
- (مفقود) / هدى إبراهيم أمون
تفسحُ البساتينُ ممراتها لهم، يضجّ القفرُ بسيل خطاهم، تتنوّع اتجاهاتهُم و الهدف واحدٌ.. ينقشع الغبار عن بقعة شوكية
اﻷعشاب تتوسّطها وردة جافة.
- ( فداء) / أمل عطية
زهرةٌ أينعتْ ، أهملتها يدُ الرّعاية ، تكاثرتْ حولها الأشواك ، أصابها الجفاف، تطلعت للرّواء، تساقطت بمنتصف الطريق
دهستها الأقدام ، انتشر أريجُها فوّاحا.
- (دوائر) / ا.فتيحة قصاب
ذاتُ جدب، ألقمته شقّ تمرة، تدلّت عراجين “الخصاب” من فمي، ملأت بطونا خاوية، ضاق بي عميان الألوان، غمروني
بسوادهم اللّزج، رفعتني أكفّ خفيّة للسّماء، تحصّنتُ في جوف سحابة، اكفهرتْ؛ هطلتُ رطبا ملوّنا….
و كما يتضّح من خلال هذه النصوص «الصناعية»، فإنّ جميعها يتكلّف الالتزام بقاعدة تكرار نفس التركيبية الفعلية لعدد معيّن من المرات، من الثلاثة و الأربعة إلى ما فوق العشرة، مع اختلاف نسبي بين نص و آخر من حيث طبيعة عناصر التركيب الفعلي و عدد مرات تردّده في النص. و لا أرى في هذا التعسّف الأسلوبي أيّ «إبداع شاعري» و لا «متعة جمالية » و لا «فائدة رمزية» كما يدّعي المنافحون عن هذا الزعم، و إن كانت ثمة من فائدة تُذكر لهذا التكرار، فهي لا تتعدّى المستوى الصوتي و الإيقاعي الصّرف .. و لم يكن الصوت و الإيقاع مطلبا جوهريا في القصة القصيرة جدا، و لا شرطا من شروطها أو معيارا من معاييرها.
الباحث و الناقد جميل حمداوي في كتابه المذكور، يسوق لنا نموذجا تمثيليا «فريدا» لهذا الصنف من النصوص السردية القصيرة جدا التي ينساق فيها أصحابها وراء قاعدة الترادف التركيبي و التتابع الفعلي؛ و هي قصة للكاتب إبراهيم الحجري بعنوان «حياة» يقول فيها ( المرجع المذكور – ص 284):
- (وُلد، صرخ، حبا، مشى، ضحك، بكى، تعلّم، شبّ، أجيز، تعطّل، ناضل، سُجن،ترشّح، فاز، اغتنى، افتقر، صلّى، حجّ، ضعف، مرض، مات، دخل جهنّم )
فهذا النص – كما نرى – عبارة عن سلسلة من التراكيب الفعلية الخالصة، يتألّف كلّ تركيب منها من فعل لازم و فاعل مضمر، و هذا ما كاد يجعل من النص لائحة «أفقية» من الأفعال العربية اللازمة. و لولا حضور المنطق الحكائي في ترتيب سلسلة الأفعال، و قابلية هذا التتابع و الترادف لإنتاج المعنى في ذهن المتلقي، لافتقد هذا النص إلى قيمته الأدبية ليصير مجرد تمرين معجمي بسيط يؤدي وظيفة تعليمية دون الجمالية.
إنّ النصوص المُستشهد بها هنا، ليست سوى عينات عفوية لركام من القصص العربية القصيرة جدا التي تتبنى هذه الهندسة التركيبية «العجيبة»؛ و هي في تقديري ليست بالنماذج الجديرة بالمحاكاة و إعادة الإنتاج بما تفرضه هذه البنية الفعلية المترادفة من رتابة و تنميط و الحدّ من المغامرة التجريبية التي يتميّز بها هذا الفن الأدبي عن بقيّة الأنواع و الأجناس الأدبية الأخرى. إن فن القصة القصيرة جدا أدب شديد التهجين. و «الهجينية» إحدى صفاته الجوهرية كالقصصية و التكثيف و التناصية و الباروديا و الميتاسرد و غيرها. و لا تعني «الهجينية» غير قدرة هذا الجنس على التعايش و التمازج مع مختلف الأساليب و الأجناس و الخطابات الأدبية و غيرالأدبية. فالقصة القصيرة جدا تستلهم الأساليب الحكائية كما الغنائية و الدرامية، كما تحاكي أشكال الخطابات التقليدية (الخرافة، النادرة،المثل .. ) كما الحديثة (الخبر الصحفي، الوصلة الإشهارية، التقرير البوليسي ..). لذلك فإنّ الطبيعة التكوينية لهذا النوع الأدبي، ترفض« التدجين» داخل قوالب بنائية و أسلوبية و بلاغية مسكوكة، و هنا تكمن «شاعرية» هذا اللون الأدبي، و متعته «الجمالية»، و فائدته «الرمزية».
لعلّ الاتباع التركيبي و كثرة الاسترسال في الجمل الفعلية، ظاهرة أسلوبية مشتركة بين كافة الأجناس الأدبية، و ليست حكرا على الأدب الحكائي المسرود. و هي من الظواهر العارضة التي تأتي عفوا في النص الأدبي بلا تكلّف و لا حذلقة. و ليس مُستهجَنا أن يتردّد مثل هذا التكرار التركيبي الفعلي في النصوص القصصية القصيرة جدا إن استهدف تحقيق غاية فنية أو دلالية، لكن أن يصير «شرطا» من شروطها الأسلوبية، و «معيارا» من معاييرها المعمارية، فهذا لم يثبت في الأعمال التنظيرية، و لا في الدراسات النقدية، و لا في الإبداعات العالمية الكبرى المؤسِّسة و المرسّخة لجنس القصة القصيرة جدا، و لا أجد تفسيرا لما يروّجه نقادنا و مبدعونا العرب من معايير «وهمية» لهذا الفن سوى ما يقوله جميل حمداوي نفسه في مقدمة كتابه الآنف الذكر من أنّ (النقاد و الدارسين في ساحتنا الثقافية العربية المعاصرة، يقاربون القصة القصيرة جدا بمفاهيم النقد الروائي، أو بمكونات القصة القصيرة، أو يتسلّحون بأدوات الشكلانية الروسية .. أو بتقنيات النقد الجديد .. أو انطلاقا من آليات البنيوية السردية .. – المرجع المذكور – ص 284).
فما أحوجنا في عالمنا العربي اليوم إلى نقد أدبي مختلف، يقرأ النص القصصي الوجيز على ضوء ما يستجدّ من أدوات و مقاربات و مناهج جديدة تستوعب خصوصية و حداثة هذا الشكل اللانمطي من التعبير الأدبي ./ .
——————————————-
*ناقد و مترجم من المغرب.