منهكٌ كأنه المعجزة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

(1)

هل من الممكن أن تأخذني إلى البيت؟

أنا بحاجةٍ إلى بيت

بيتٍ حقيقي

تستطيع أن تلمس الدفءَ فور عبور عتباته

تشمَ رائحة الأمومة في كل أرجائه

تفشل في فُض الاشتباك

بين عراك هائج

وقهقهات تقفز من صدر لآخر

تسمع صوت الأب

صوت الأم

وكتاكيت صغيرة صفراء

تضحك بين أكف أصغر منها

بيت يدهس الكوابيس إذا ما تسللت من ثقب المفتاح

ينز محبةً من السقف في أوقات الجفاف

يحمل بداخله طرقًا وأودية وتلالا

كي لا يحتاج ساكنوه للخروج إلى مغامرة

وإذا ما لزم الأمر

يشق نهرًا بين بلاطه القديم

ويخرج شباكا ومجاديفَ

كي يخرج الأب وأبناؤه للصيد

ويعودوا في نفس اليوم

بيت نزق

لكنه عاقل بما يكفي ليحتمل غضب سكانه السُذّج

حين يقولون ضيِّقٌ وخانق

فيصفق بخفة على مؤخراتهم

ثم يحتضنهم بالداخل مرة أخرى

خذني إلى البيت

فأنا في الخارج من زمن بعيد

حتى نسيت البيوت

والأمومة

والدفء

والشارع صار حوتا عظيما

يبتلعني ويلفظني

وعظمي الصلب لم يتفتت بعد

 

(2)

ثم تسأل نفسك

هل كنت دائما هكذا؟

عديمَ النفعِ ومهزومًا من الداخل

أم أنك كنت فقط رومانتيكيا

ربما عاطفيا بطريقة مبتذلة

تضطر معها أمك إلى وضعك مقلوبا

تبرح مؤخرتك ضربا حتى يشتد عودك الطري

دون أن تدرك أن انحناء ظهرك هكذا يعلمك الانكسار

وكولد مؤدب لا يرفع عينيه في أمه

تعلمت الدفاع النبيل عن القضايا الخاسرة

ربما خانك تصورك عن نفسك

صوتك الضعيف

أو قلبك الذي جاء سليما

فلا تستطيع الهروب بإمساكِ صدرك والسقوط سريعًا على الأرض صارخًا

“قلبي… قلبي”

أنا أيضًا أحب الأيامَ الرماديةَ

وتواريخ النكسات والهزائم

النكات السخيفة التي يطلقونها على بطل نبيل كدون كيشوت

أحمل كراهيةً عميقة وغضبًا يغلي بداخلي

لكني لا أفكر في أطفالٍأوطيورٍأورغبة قديمةٍ في تعلُّمِ الرقصِ

فقط مرآة تذكرني بصورةٍ يومية

كيف تحوَّل الذئب القديم بداخلي إلى ضبعٍ عجوز

 

(3)

 

يعوي قلبي هذا الصباح

يبحثُ عن ضمادة نظيفة

ضمة صادقة

الذئب العجوز يريد الحب أيضا

يصدق أن المطر يأتي من أجله

ويرى العين الصامتة في الظلام

فيخاف

بالأمس ابتلعنا الماء طويلا

ولما استسلمنا معًا

نجونا

صار الماءُ عرشًا لامعًا

وارتفعنا كثيرًا

لكنَّ جرحا صغيرًا ظهر في معصمه الأنيق

تمامًا فوق سره القديم

فوق الأسماء المحفورة من الأزل

النجاة ذلة

والحياة ذلة

والذئب العجوز يعوي هذا الصباح

حتى وأنا أمرنه طوال الليل على القناعة

حتى وأنا أعلمه طوال النوم السعادة

حتى وأنا أحمله وأقفز من إشارة لإشارة

ظل يعوي

ولا ضمادة نظيفة

ولا ضمة صادقة

 

(4)

رأسي تصنع الموسيقى

لأني جميلة

لأن الماء يعرف صفاء روحي

وقلبي يرقص كل يوم

لأن الحياة تخرج من أناملي الصغيرة

من الحروف التي أنطقها

تُخلق الحقيقة

لأن الطين الذي شكلني

كان رائقًا وسعيدًا

لأني حلوة

هكذا ببساطة

تصنع رأسي الموسيقى

 

(5)

أنا ماهر في الصيد

في كفي يقع الذباب والفراش

وبين أصابعي تعشش العناكب

في أذني

يصيد الشمع الهوام والنمل

لأني جالس مثل كهف

ساكن

ورهافتي تدعوالكائنات للطمأنينة

لا جلبة

لا ضجيج

البئر في عيني حي

ماؤه رقراق وعذب

تشرب العصافير

إنسان بكر

خارج من الجنة بلا ذنب ولا عورة

وعريي يدعوالكائنات للمكوث

لساني أخضر

وفي صدري شجرة

والشغور في قلبي

يدعو الكائنات للمحبة

(6)

بريء

مثل ظلي الذي لم يمسك خنحرًا أبدا

صادق

مثل ظلي الذي لم ينطق كذبة واحدة

نظيف

مثل ظلي الذي لم يمسسه بشر

حر

مثل ظلي الذي لم يقيده أحد

أسود

مثل ظلي الحزين

 

 

(7)

ليست مبالغة في تقدير الوحدة

ولا رغبة في التماهي مع القطيع

ربما علة قديمة في النطق

أو بوار في سوق الكلام

لهذه الأسباب البسيطة والأقرب للبداهة

لا تمشِ إلا جوارَ السور

أدخلوها عنوةً إلى الأسطورة

وهي لا تعرف من قذفها بالداخل على وجه التحديد

ولا من علمها السحر الأسود وهي طفلة

ليست مبالغة في تقدير الخوف

ولا رغبة في اكتساب قليل من التعاطف

لكنها تقسم أنها تستيقظ كل صباح

وآثار جلد وحروق تملأُ جسدها

لكنها للحق تستمتع بلذة الألم

تبتلع العالم في الصباح

لكن العتمة تلتهمها تماما في المساء

وتبصقها في مواجهة البحيرة المسكونة

أين خبأوا جمالها؟

ومن فقأ العينين بكل هذه القسوة

ليست مبالغة في تقدير الكذب

ولا رغبة في إدخال معنى على ضلال الحياة

لكنها تقول إنها تخلق بحرًا على مائدة من تحب

ويتكاثر في قبرها الأصدقاء

 

 

(8)

بدأت حياتي سندريلا

ملقاة في الجب أتفادى شرر الأشرار الأذكياء

ثم تطورت بي الحياة

فصرت سندريلا عجوزًا في ثياب أنيقة

تصلح واجهة لسيدٍ قاسٍ يتصنع الكرم والمحبة

أنتظر أن يأتي الدور على ذريتي

في جُبٍ مظلم بين يدي حواة وأوغاد

وذكور يسلقون الطيبين في ماء غرورهم

ويمضون منتصرين في عالم ظالم

الأمر ليس هرطقة ولا يحزنون

لكني ملاكة في الليل

وأفاقة في النهار

أعمل على اختبار الاحتمالات

تغيير جلدي كل ساعة

وقياس قدرة روحي على التلون

وفي الليل

لا أقوى على إخفاء أجنحتي

والحنان المنثور من أصابعي

ريح وريحان

وترياق للمساكين

نور

نور كثيف يطوي المسافات

يقرب البعيدين

يُنوِّل الغلابة مرادهم

ويجعل للحيارى دليلا من أحلامهم الصادقة

الليل لي

وأنا شفافة وهائلة

جناحان من نور

وقلب من محبة خالصة

ماء كثير يغمر الغرباء

مديح للحبيب الغريب الحزين

وفي النهار أحترق

أرسم من الرماد طرقًا للجحيم

تلالًا للانتقام والمغبة

هنا خنجر

هناك ملحمة من الحقائق المؤلمة

ملاكة تعمل بنصف دوام

وشيطان يصلح للتخطيط فقط

 

 

(9)

 

المساء الجميل

يأتي بجناحين

وبحرص أمي يضعهما على كتفيّ

وأنا سعيدة

أطير على سريري المحدود

أغني لحبيبي

“يا جميل مثل قطعة السكر

يا حلو مثل الذكريات الملفقة

يا حنون مثل ما نراه حين نغمض أعيننا عن الحقيقة”

هذا هو الليل الحقيقي

فرس أسود يطير بعصبية

لا يمسك به أحد

والملاك الذي يقبض على الجناح

نجا

والمساكين الذين عماهم الظلام

نيام

هذه رقصة قديمة

الحياة بعد أن أدبها الهجر والعتاب

والخوف من هاجريها

أولئك الذين عبروا البوابة طواعية

وأغلقوا الباب خلفهم بإحكام صارم

” تك.. تك.. تك”..

من بالبال؟

سلام من المراوغين الذين مروا

وعادوا

والأفاقين الذين ألقوا بخور الأمان

ولم يمروا

وهذا سريري

مرمر وعود وحبهان

وأجنحة من فضة وحرير

جنية تلون الأشياء فتكون

مدد مدد مدد

 

(10)

 

لست مضطرًا للبقاء هنا دوما

تضمد جراح الضواري

التي طالما حذرتني منها

تمسح الدماء عن وجهي

من صفعات الأوغاد الذين

أقع في حبهم دوما

لست مضطرا للغناء لي كل يوم

“كل شيء سيكون على ما يرام”

أنا كبيرة بما يكفي

لأعرف أن لا شيء سيصير أحسن

لستَ مضطرا لتبرير غيابك

الطريق كان متسعا لنا دائما

وأنا فضلت الحواري الضيقة

والأرض الوعرة بمفردي

كنت تجمع الورد وتأتي

أختار الأشواك وأبكي

وأغمض عيني عن جمال اللون

والرائحة

اليوم

أنت لست مدينا لي بشيء على الإطلاق

والسنين التي طبعت علاماتِها على قلبيْنا معا

ربطتنا دون دراية منا للأبد

غير أنك لست مضطرا للاعتراف بهذا

وأنا أميل للخسارة بطبيعتي

ولي ميل فطري للكآبة

اليأس الذي أتقنه

ليس خطيئتك

وأنا سعيدة على حالي هكذا

أو على الأقل راضية

أميال من الخراب تتنامى في صدري مع الوقت

ثم يأتي صباح رائق فأبتسم

وأنت لست مضطرًا لشيءٍ أبدًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من ديوان “منهك كأنه المعجزة” صادر مؤخرًا عن سلسلة إبداعات ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة 

مقالات من نفس القسم

علي مجيد البديري
يتبعهم الغاوون
موقع الكتابة

الآثم