حاورته: نضال ممدوح
تنقل الكاتب ممدوح رزق٬ بين الأجناس الأدبية المتعددة٬ حيث صدرت له العديد من المجموعات القصصية والشعرية والروايات والمسرحيات والكتب النقدية كما كتب سيناريوهات لعدة أفلام قصيرة. حصل على جوائز عديدة في القصة القصيرة والشعر والنقد الأدبي. ترجمت نصوصه إلى الإنجليزية والفرنسية والإسبانية. حيث صدر له: إثر حادث أليم٬ خيال التأويل٬ هل تؤمن بالأشباح؟٬ قراءات في كلاسيكيات القصة القصيرة٬ هفوات صغيرة لمغيّر العالم٬ خيانة الأثر٬ دون أن يصل إلى الأورجازم الأخير٬ بعد صراع طويل مع المرض٬ فأر يحتفل بخطاب الحقيقة٬ الفشل في النوم مع السيدة نون٬ مكان جيد لسلحفاة محنطة،غيرها. في هذا الحوار يكشف “رزق” عن عالمه الإبداعي بخاصة القصة القصيرة وقضاياها ومستقبلها بين الأجناس الأدبية.
ـ من كتاب القصة القصيرة الذين قرأت لهم قبل أن تكتب هذا الفن الأدبي؟
تشيكوف .. موباسان .. مارك توين .. يوسف إدريس .. يوسف السباعي .. نجيب محفوظ، وغيرهم .. كانت هذه القراءات خلال المرحلة الإعدادية، وقبل كتابة محاولتي القصصية الأولى عام 1990، ولكن لا أعتقد أنه في هذه الفترة كان هناك ما يضاهي تأثير قصة “الشقاء” لتشيكوف .. عندما قرأتها أول مرة تأكدت من أنني سأكون كاتب قصة قصيرة، ومازلت أتصوّر حتى الآن أنها من أقوى المحرضات لقارئها على كتابة قصته القصيرة.
ــ ما الذي لفتك إلي الإهتمام بالقصة القصيرة ؟ وكيف بدأت تجاربك الأولي في كتابتها؟
القصة القصيرة تجسّد طبيعتي الشخصية منذ الطفولة أكثر مما يفعل أي فن آخر: العزلة .. المراقبة .. تخيُّل الحياة والموت وفقًا لتفاصيل صغيرة، وأحداث هامشية أو غير ملحوظة .. كانت التجارب الأولى انتقالًا تدريجيًا من إعادة سرد الوقائع العامة إلى كتابة ناجمة عن التأملات الذاتية لما هو ضئيل وعابر .. أول محاولة لكتابة قصة قصيرة مثلًا كانت بعد الغزو العراقي للكويت، وكان دافعها الرغبة في إنتاج نسختي القصصية من الحكاية المتكررة والسائدة آنذاك عن المغترب المصري الذي أُجبر على التخلي عن أمواله وممتلكاته أثناء الهروب من الغزو .. كان منطقيًا أن تستند هذه المحاولة إلى العاطفة الجماعية التقليدية في ذلك الوقت، ثم أعقبتها محاولات أخرى كانت أقرب لاستكشاف الواقع الخاص، والكيفية التي تقتنص بها بصيرتي القصصية لحظاته المهملة، وتحويلها إلى إمكانات أساسية للوجود الذي يتضمن هذا الواقع .. اعتبر “انكسار” هي قصتي القصيرة الأولى، والتي كانت تلك المحاولات تمهيدًا لكتابتها .. كانت هذه القصة ترميزًا مكثفًا لنفسي وللعالم من خلال الآخر المتمثل في رجل لا أعرفه، رأيته في الواقع ذات يوم جالسًا فوق كرسي متحرك، وكان عليّ دفعه خارج حدود هذه الواقعية نحو حلم أو مشهد خيالي مع نجمة لها خواص إنسانية .. نٌشرت هذه القصة بجريدة “المساء” عام 1993، مقترنة بتقديمي من القسم الأدبي بالجريدة إلى الساحة الإبداعية ككاتب أضيف إليها بقوة، وكان عمري وقتها 16 عامًا.
ــ هل قرأت شيئا عن أصول هذا الفن القصصي أو طرائق كتابته ؟
بالطبع، فضلًا عن توجيه طلاب ورشتي القصصية إلى هذه القراءات ومناقشتها معهم، مثل “الصوت المنفرد” لفرانك أوكونور، و”القصة القصيرة” لايان رايد، و”أركان القصة” لإدوارد مورجان فورستر.
ــ ما الذي يجعلك تختار إطار القصة القصيرة للكتابة دون غيره من أطر التعبير الأدبي؟ هل يتعلق الأمر بحالتك النفسية أم بطبيعة الموضوع الذي تعالجه ؟ أم أن إمكانية النشر هي التي توجهك إلي هذا الإختيار؟
بالتأكيد ليس إمكانية النشر، وإنما لأن القصة القصيرة بالنسبة لي تمثل الأسلوب الغريزي للتفكير في الزمن، أي طريقتي البديهية لاصطياد الظلال الخاطفة للفناء، حتى عندما أكتب رواية أو قصيدة أو مقالًا نقديًا، إذا ما اتخذ الموضوع أو الفكرة شكلًا أدبيًا آخر؛ هناك دائمًا قصة قصيرة مختبئة في عمق هذا الشكل.
ــ ما الذي تهدف القصة القصيرة عندك إلي توصيله للقارئ؟ وهل تتمثل قارئك وأنت تكتب ؟ ومن قارئك؟
لا تستهدف القصة القصيرة عندي توصيل شيء معين للقارئ .. ربما أريد أن يجرّب خياله اللعبة التي أنشأتها دون توقف مهما تزايدت جروحه الناتجة عن ذلك، أو أن يستغل الفخ الذي استدرجته إليه كي يتسلل إلى ذاكرته عبر موضع الطعنة التي تلقاها، أو انتهاز ما يعتبره اعتداءًا على أمانه الشخصي كي يتفحص آلامه كما لم يفعل من قبل .. أكتب لقارئ واحد، هو أنا في لحظة الكتابة، أي أنني أكتب القصة القصيرة التي أريد قراءتها في ذلك الوقت، وربما يمتلك آخرون الرغبة نفسها، لكن القارئ الذي أتمثله يتجاوزني بصورة مبهمة، فأنا أخاطب أيضًا الاحتمالات المجهولة لذاتي، والمتوارية داخل الشخص الذي يكتب قصته القصيرة .. الاحتمالات التي تعرفني أكثر مما أعرف نفسي، وقد يحاول قارئ للقصة أن يشاركني في اكتشافها.
ــ ما مدي الزمن الذي تستغرقه كتابتك لإحدي القصص القصيرة؟ وهل تواجه أحيانا بعض الصعوبات في أثناء الكتابة؟ مثل ماذا؟
لكل قصة قصيرة زمنها الخاص، هناك قصة تُكتب في دقائق قليلة، وهناك قصة تُكتب في سنوات، ليس نتيجة صعوبات، وإنما لأنها تتطلب بعد كتابة كلماتها الأولى أن تنتظر وقتها المناسب للاكتمال .. يمكنني استبدال الصعوبة بمتعة الانهماك، لأن الحياة لا توجد إلا أثناء كتابة قصة قصيرة، لذا فالكتابة هي الجهد الذي لا أريد أبدًا أن أتوقف عن بذله .. المشقة الفعلية بالنسبة لي هي التفكير فيما لم أكتبه، وحتمًا عند محاولة التحدث عما كتبته.
ــ هل استطعت من خلال ممارستك لكتابة القصة القصيرة أن تستخلص لنفسك بعض العناصر الحرفية التي تسعفك عند الكتابة؟ مثل ماذا؟
استخدام هذه العناصر في عملي يتم بطريقة عفوية، ولكن في ورشتي القصصية أقوم بتدريسها كأداءات مقصودة لتخطي عائق، أو لتغيير مسار، أو لفتح أفق غير متوقع .. تتعلق هذه العناصر على سبيل المثال بكيفية الإخفاء والكشف، وبتوظيف الذاكرة لتقويض بنية الواقع، وكذلك باستعمال المشاهد المتنافرة ظاهريًا لتكوين صدمة.
ــ هل تهتم في كل قصة قصيرة تكتبها بأن يكون لها مغزي بالنسبة إلي الأوضاع الاجتماعية المعاصرة؟
لا أهتم بذلك على الإطلاق .. أحيانًا يكون هناك تعمّد في قصة ما لكتابة ما ينطوي على هذا المغزى، وفي الأغلب يتم على نحو ساخر، وبالتأكيد يكون قائمًا على ما يتجاوز البُعد الاجتماعي الذي يتناوله.
ــ كيف يكون مدخلك إلي القصة القصيرة؟ وهل يتجه اهتمامك إلي الحدث أم إلي الشخصية؟
ليس هناك مدخل ثابت، فكل قصة تقرر ما يغاير إرادة قصة أخرى، كذلك الأمر فيما يتعلق بالحدث أوالشخصية .. كتابة القصة القصيرة تكشف دائمًا عن هذا التوحد بينهما، أي أن يكونا كيانًا واحدًا .. كيف يخلق الحدث شخصيته، وكيف تخلق الشخصية حدثها، وبالضرورة كيف يدفع كل منهما الآخر إلى عدم الاستقرار عند ما كان عليه.
ــ هل تعين الزمان والمكان للحدث (أو الأحداث) التي تتضمنها القصة القصيرة أم تتركها بلا تعيين؟
نادرًا ما أحدد الزمان والمكان، وإذا حدث ذلك يكون لدافع يرتبط بأثر معين لهما، وليس لمجرد التحديد.
ــ هل تري فيما أنجزت حتي الآن من قصص قصيرة أنه يمثل مراحل تطور متعاقبة ؟ فإن كان فكيف تري نتيجة هذا التطور؟
أنظر دائمًا إلى وصف “التطور” في الكتابة بحذر يكاد يكون عدائيًا؛ ذلك لأنه يرتكز كليًا على حكم القيمة .. يستطيع أي فرد أن يستعمله كمعيار شخصي، لكن يروق لي استبداله بـ “الملائمة” مثلًا، بمعنى أن كل قصة تتسق مع لحظتها، وهذا لا يعني أفضلية القصة التي كتبتها اليوم عن القصة التي كتبتها منذ ثلاثين سنة؛ فإذا كانت قصة اليوم هي الأقرب لي، فذلك لأنها تمثل ما أكونه الآن، وهذا لا يتعارض مطلقًا مع الخبرة التقنية التي تتنامى بمرور الوقت.
ــ إذا كنت قد انصرفت عن كتابة القصة القصيرة إلي غيرها من الأجناس الأدبية فمتي حدث هذا؟ ولماذا؟
لم أنصرف عن كتابة القصة القصيرة في أي مرحلة من حياتي، وكل نص كتبته في جنس أدبي آخر، كان اكتشافًا جديدًا للطريقة التي تتجسّد بها القصة القصيرة في أشكال مغايرة.
ــ كيف تري مستقبل هذا النوع الأدبي؟
لا أجيد التحدث عن المستقبل، لكن أتصوّر أنه لو انتهى العالم في أي لحظة، فإن ذلك سيحدث بينما هناك شخص يكتب قصة قصيرة .. وبالتأكيد أتمنى أن أكون أنا هذا الشخص.
………………
جريدة “الدستور” ـ 28 مارس 2020