«ملامح ظلي».. قصيدة تبحث عن خلاصها في الماء والذاكرة

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أحمد رجب شلتوت

  يواصل محمد الشحات مشروعه الإنساني واللغوي بوعيٍ شعري ينهض على مساءلة الذات والوجود، وإعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والعالم. وهو في ديوانه «ملامح ظلي» الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يبلور الشاعر خلاصة تجربة ناضجة في بناء القصيدة الحديثة، حيث يتقاطع الحلم والذاكرة، ويتحوّل الظلّ إلى كيان رمزيّ يتكلم ويجادل صاحبه، في حوارٍ داخلي يفيض بالقلق والتأمل، ويكشف عن توقٍ عميق إلى المصالحة مع الذات ومع الزمن.

 مرايا الوجود

 يفتح العنوان «ملامح ظلي» الديوان على فضاء تأويلي واسع؛ فهو لا يتحدث عن الذات مباشرة، بل عن انعكاسها، والظلّ هنا ليس ظاهرة فيزيقية فحسب، بل تجسيد للوعي الإنساني المنقسم بين الرغبة في البوح والخشية من الانكشاف، يتبدى هذا الازدواج بوضوح منذ القصائد الأولى، مثل «محاوراتي مع ظلي»، إذ يدخل الشاعر في حوارٍ متوتر مع ظله، يسأله ويطارده، كأنما يريد أن يرى وجهه الحقيقي في مرايا الغياب. يقول في أحد المقاطع:

أوقفني ظلي / كي يتحسسَ ضوءَ  الشمسِ / وحجمَ السحب ووقتَ السيرِ / وهل سيكون أمامي أم خلفي / امتثلَ الظل لوقعِ خطايَ

    هنا يتحول الظلّ إلى ضميرٍ شعري موازٍ، كائنٍ يتقدم على صاحبه أو يتأخر عنه، في إشارة إلى الانقسام الداخلي الذي يعانيه الإنسان المعاصر بين صورته في الخارج وصوته في الداخل.

  ويتسع الديوان تدريجيًا من حوار الذات مع ظلها إلى مراقبة العالم في تفاصيله اليومية. فقصائد مثل « ملامح من الحياة اليومية»، و«مصالحة»، و«هل مررت من هنا؟» تكشف عن شاعرٍ يتعامل مع المشهد الإنساني بوصفه امتدادًا للذات، وليس نقيضًا لها،

  في قصيدة « ملامح من الحياة اليومية »، نقرأ صورة الشاعر وهو يتأمل العالم من خلف نافذة الحظر، يرصد إيقاعات العزلة والخوف، ويعيد رسم خرائط الحياة الصغيرة التي تتنفس تحت القيد. اللغة هنا مشهدية تتناوب فيها الصورة والفعل في نسقٍ متقطع يشبه دقات الزمن في لحظة الاضطراب، هذا الانتقال من الذاتي إلى الجمعي يتم عبر التجسيد الشعري. فالبيت المغلق، الماء المسكوب، والمصباح المنطفئ تتحول إلى رموزٍ لزمنٍ متصدّع، وإلى استعاراتٍ عن هشاشة الوجود الإنساني حين يواجه وحدته.

 ذاكرة الفقد

   من أبرز ملامح الديوان حضور الماء والنهر. في قصائد مثل «وصية للنهر» و«الخوف على النهر»،  و”حزن النهر”، يكتب الشاعر سيرته في مجرى النهر بوصفه ذاكرةً كونية، ومجازًا للحياة والموت والعبور، والنهر عند محمد الشحات كائنٌ يتنفس ويشيخ ويتألم. نقرأ مثلا:

«هل كان لنا أن نحيا / منذ الميلاد / ولا يعبرنا النهر؟ /ليمْرح داخلنا / يسكننا»

   بهذه البساطة المشحونة بالدلالة، يختزل الشاعر الوجود الإنساني في فعل العبور، وكأن النهر هو الامتحان الأزلي للإنسان في مواجهة قدره. ولعل اختيار النهر، وليس البحر، دليل على نزعة تأملية أكثر منها درامية؛ فالنهر يحتفظ بجريانه الدائم، بما يشبه دورة الوعي، بينما البحر فضاء للمطلق والانفجار،

كما أن «وصية للنهر» تستدعي بُعدًا أسطوريًا شفيفًا؛ فالنهر الذي «يحمل» و«يهدأ» و«يهمس» يذكّرنا بنهر النسيان في الأسطورة الإغريقية، وبنهر الخلود في المتخيل الصوفي. وهنا يلتقي الجمال الروحي بالشعر الحسيّ، في لغةٍ تتقاطع فيها نبرة الابتهال مع إيقاع الحزن العميق.

 وطأة الزمن

يولي الشاعر في «ملامح ظلي» الزمن عناية كبيرة، وذلك بوصفه ساحة الصراع بين الكائن وفنائه. في قصائد مثل «خماسية للحياة» و«هل مررت من هنا؟» و”ليلك مثل نهارك”، يصبح الوقت مادةٍ محسوسة يمكن لمسها أو جمع شظاياها كما تُجمع أوراق العمر المتناثرة، يكتب في “خماسية للحياة”»

 “كلما مر جزءٌ من الوقتِ / كنتُ أرى رجفتي / خفت أن تنتهي رحلتي/ وما زلت أبحث عن بعض وقتي”

   هنا يتجلى الوقت ككائنٍ مفقود، والشاعر كمن يحاول استعادته عبر الكتابة، كأن القصيدة هي الملاذ الأخير ضد المحو. لهذا يمكن القول إن «ملامح ظلي» هو أيضاً كتاب في مقاومة الفناء، إذ تتكرر فيه مفردات مثل: “الرجفة”، “المرور”، “العودة”، “البصمة”، وكلها تشير إلى وعيٍ بالتحول الدائم ورغبة في تثبيت غير القابل للثبات.

اللغة والصورة:

   يعتمد محمد الشحات في هذا الديوان على لغةٍ شعرية مركّبة تجمع بين الكثافة والإيحاء، وبين البنية التجريدية التي تقترب أحياناً من التشكيل البصري، واللغة المشهدية التي تخلق صوراً متحركة، ففي «محاوراتي مع ظلي» مثلاً، تتوالى الأفعال في حركةٍ داخلية لولبية: «أسرعتُ – لحقتُ – نظرتُ – جررتُ»، كأن القصيدة تُكتب بحركة الجسد قبل أن تُنطق بالكلمة، وفي المقابل، حين يتحدث عن الماء أو الضوء أو النهر، تتخذ اللغة إيقاعًا هادئًا متدرجًا، فيما يشبه تنفسًا شعريًا بطيئًا، يعكس وعي الشاعر بعلاقة الإيقاع بالمعنى، كما أن الصور كثيرًا ما تُبنى على المفارقة: الظلّ الذي يسبق صاحبه، النهر الذي يوصي الشاعر، الزمن الذي يمكن لمسه.

من الحسيّ إلى الميتافيزيقي

   يتنقل الشاعر على امتداد الديوان،  بين العالم الحسيّ الملموس وبين أفقٍ ميتافيزيقي يتأمل المصير الإنساني. فقصائد مثل «الطاعون يقتل علنًا» و«لن تأتيك العاصفة» و«ملجأ يحتوينا» تشتبك بوضوح مع تجربة جائحة كورونا، لكن من منظورٍ يتجاوز الواقعة إلى تأمل هشاشة الوجود الجمعي في مواجهة المجهول، القصيدة هنا تحول الخوف إلى معرفة. يكتب في إحدى القصائد:

«فيا صاحب الملكوت / ألا افتح لنا باب بيتك / فلا ملجأ يحتوينا سواك»

   بهذه اللغة التي تمزج بين التضرّع والوعي، يفتح الشاعر أفقًا روحانيًا يذكّرنا بالتراث الصوفي، حيث يتحول الاضطراب إلى طريقٍ نحو الصفاء، والخوف إلى لحظة وعي بالحدود القصوى للإنسان.

مثلث المعنى

   يتوزع الديوان في بنية شبه دائرية؛ تبدأ بالذات والظلّ وتنتهي بالنهر والمصير، كأن الشاعر يعيد كتابة رحلته في مرايا متعددة، تتجلى هذه البنية أيضًا في الإيقاع الداخلي؛ فقصائده لا تخضع لتفعيلة واحدة أو نظامٍ وزنيّ تقليدي، بل تقوم على إيقاع النَفَس والتكرار والتوازي. كثير من المقاطع تُبنى على الجملة القصيرة المتكررة أو شبه الجملة، وهو ما يمنح القصيدة موسيقى خافتة تشبه نبض القلب أو وقع الخطى

كما أن الترتيب الزمني للقصائد (من 2019 حتى 2020) يوحي بأن الديوان يمثل يوميات شعرية لزمنٍ مضطرب، فيه الحلم والمرض والموت والبحث عن المعنى.

  تدور قصائد الديوان حول مثلثٍ رمزيّ يتكوّن من الظلّ (الذات)، والماء (التحول)، والوقت (الزوال)،

حيث الظلّ هو المرآة الداخلية، وفيه تتجلى أزمة الهوية والتشظي، والماء يمثل سريان الوجود وتحوّله، وهو في الوقت ذاته خطر الغرق والنسيان، بينما الوقت هو الفضاء الذي يحتويهما، لكنه أيضاً العدوّ الخفي الذي يهدد وجود الذات، وفي تفاعل هذه العناصر الثلاثة، ببدع الشاعر نسيجًا جماليًا، يمنح القصيدة طاقة تأملية فائقة. فحين يقول:

«أوصيكَ / فشرْيانك لا تتركه / واحملني حين أُغادر / كي ما   أسكن قرب النهر»

   يبدو وكأنه يكتب وصيته الشعرية والإنسانية، كاشفًا عن وعيٍ عميق بمحدودية الجسد وخلود الكلمة،

  وعلى الرغم من المسحة الفلسفية والتجريدية في الكثير من القصائد، يبقى صوت الإنسان واضحًا في هذا الديوان؛ الإنسان الذي يخاف ويحبّ ويشتاق ويحاور ظله ليكتشف نفسه، بهذا المعنى، تظل تجربة محمد الشحات امتدادًا لمشروعه الشعري الطويل الذي يوازن بين الشجن الإنساني والبحث الجمالي، بين التجربة الشخصية والأسئلة الكونية.

   وأخيرا ففي «ملامح ظلي»، يكتب محمد الشحات نصه الأجمل عن الإنسان الذي يراقب نفسه في ضوءٍ يتناقص، ويبحث عن نجاته في ظلٍّ يضيع، ويجد في اللغة بيتًا بديلًا للطمأنينة.

 

 

مقالات من نفس القسم