محمد العبادي
في عام 1968 قدم المخرج الأمريكي “جورج. إيه. روميرو” فيلمه الروائي الأول: “ليلة الموتى الأحياء.Night Of The Living Dead “.. فيلم رعب مستقل صنع بميزانية محدودة للغاية..على الرغم من ذلك كان الفيلم علامة فارقة في تاريخ أفلام الرعب.. بل وفي صناعة السينما كلها.
على المستوى المادي استطاع الفيلم أن يحقق نجاحا هائلا لتصل مبيعاته لعشرات الملايين، لكن الأهم أن “ليلة الموتى الأحياء” فتح المجال لتطوير سينما الرعب وإعطائها قبلة الحياة في وقت كانت قد اختنقت به في تيمات ومواضيع محدودة بلا تجديد.. أسس الفيلم لنوعية أفلام “الزومبي” التي أصبحت نوعا خاصا من سينما الرعب ينتج منه عشرات الأفلام والمسلسلات سنويا.
وفي عامنا هذا وبميزانية محدودة أيضا يأتي “مكان هادئ. A Quiet Place” من إخراج “جون كراسينسكي”.. يأتي في ظروف مشابهة لوقت “الموتى الأحياء” ليفتح بابا جديدا لسينما الرعب.. ربما يكون باب النجاة.
فلا يخفى على المتابع الذكي أن سينما الرعب تتجه بقوة نحو أزمة ضخمة قد تهدد وجودها نفسه في المستقبل..حيث تعاني سينما الرعب – وربما السينما التجارية بشكل عام– من حالة “نضوب” للأفكار والأنماط الجديدة.. ما جعل الإنتاجات الجديدة مجرد تكرارات متشابهة مع أعمال قديمة متميزة.. بل وظهرت أكبر علامات الإفلاس في إعادة إنتاج الأعمال الناجحة القديمة (نسخ جديدة من الشيء “It”، حديقة الديناصورات، كينج كونج، الجمعة13… وغيرها كثير).. وعمل أجزاء جديدة من النجاحات الحديثة (طوفان من السلاسل التي تبدو بلا نهاية: Saw, Conjuring, Annabelle, Senister, The Ring… وغيرها).. صحيح أن النجاح التجاري لا زال حليف هذا النوع من السينما حتى الآن.. لكن من العبث أن يستمر المنتجون في طريق التكرار هذا إلى الأبد.. فالجمهور سريع الملل ويبحث دوما عن الجديد والمختلف.
من هنا كانت أهمية تجربة “مكان هادئ”.. تجربة طازجة ذات لغة سينمائية مختلفة.. لا نبالغ إن اعتبرناها نوعا جديدا من الرعب.
تدور أحداث الفيلم في عالم مستقبلي حيث يتعرض البشر لهجوم من كائنات ذات سمع فائق القوة.. تهاجم أي مصدر للصوت.. فيصبح الطريق الوحيد للنجاة هو الصمت التام.
فكرة الفيلم كانت نقطة قوته الكبرى..فكرة جديدة وذكية من كاتبي السيناريو “بريان وود” و”سكوت بيك”، طورها معهما مخرج وبطل الفيلم جون كراسينسكي لتنتج لنا تجربة قوية مليئة بالترقب والتعاطف الإنساني.. اعتمد السيناريو بشكل أساسي على الصورة للتعبير عن المحتوى.. وتضاءل دور الحوار إلى أقل درجة.. بل إن لغة التواصل الرئيسية بين الشخصيات عبر الفيلم هي لغة الإشارة.
وعلى مستوى الصورة.. استطاع المخرج جون كراسينسكي أن يكرس لأصالة فكرة الفيلم بتقديمها بشكل مختلف عن أفلام “الوحوش” التقليدية، فلم يعتمد على تقديم مشاهد مفزعة مليئة بالدماء والأوصال المقطعة.. بل اعتمد على الفزع الناتج عن الترقب.. أفزع كراسينسكي مشاهدينه مما لا يرونه وليس مما يرونه.. واعتمد في المونتاج دوما على إظهار النظرات الموجهة لمصدر الخطر قبل إظهار مصدر الخطر نفسه.. ليدعم حالة الترقب والاستباق.
أثبت شريط الصوت كذلك أن المخرج– رغم خبرته المحدودة–نجح في أن يستخدم كل المكونات المتاحة لصنع تجربة سينمائية جديدة ومختلفة.. جاء الصمت مسيطرا على شريط الصوت بالطبع.. واستخدمت الأصوات باقتصاد وحرفية.. حتى صارت أشد الأصوات خفوتا ذات أثر هائل على المتفرج.. لكن استخدم المخرج الموسيقى التصويرية متعمدا لتخفيف الضغط النفسي على المتفرج .. فكانت الموسيقى التصويرية البسيطة للفيلم رسالة ضمنية بكسر الإيهام.. ليبقى المتفرج في خانة “المتفرج” ولا يتورط في خانة “المشارك” في الحدث.
دعم الفيلم التميز الكبير في أداء الممثلين.. خصوصاً “إيميلي بلنت” في دور الأم.. نجحت في أداء دور معقد على مستوى الأبعاد الداخلية للشخصية المليئة بالمشاعر.. وعلى مستوى الأداء الخارجي خصوصا في تتابع مشاهد الولادة.. فأجادت في التعبير عن ألم المخاض المكتوم.. خوفا من أن تسمعها الكائنات.. كذلك الاختيار الذكي لممثلة شابة صماء “ميليسنت سيموندس” لأداء دور الإبنة الصماء.. أعطى مصداقية ليس فقط لأدائها.. ولكن ساعد على إضفاء الواقعية في الأداء بلغة الإشارة من كل الممثلين.
ربما نكون الآن أمام ميلاد نوع جديد من الرعب السينمائي.. خصوصا مع ظهور أخبار التجهيز لجزء ثان من الفيلم، لكن هل ستنضج التجربة لتكمل طريقها.. أم سيدخلها سادة هوليود في نفق المط والتكرار والابتذال هي الأخرى؟.. الزمن فقط هو من سيجيب.