اعتمدت سينوغرافيا المسرحية بشكل أساسي على خلفية متحركة، مكوّنة من تداخل الشذرات المماثل للعبة (بازل) بين زوايا وقطع مجتزأة من لوحة (دالي)، ومن صور لممثلين عالميين على مسارح مختلفة أثناء تأديتهم لدور (هاملت)، وأيضًا من لقطات فوتوغرافية لطفولة الكاتب، والتي تم أخذها داخل صالون بيته في أحد أعياد الميلاد، أو مع أسرته في اليوم التالي .. كانت هذه الخلفية تتبدل أحيانًا ليحل مكانها جثث وأشلاء صور كاملة للمصوّر (جويل بيتر ويتكن) بالأبيض والأسود، تحت تركيز راقص لمزيج ضوئي من الدوّامات الذهبية، والحمراء، والزرقاء، تقترن بانبعاث الدخان في الفراغ السفلي للمسرح بما يقارب التشكيل البصري لأغنية (Leila The Queen of Sheiba) لفريق (Dolly Dots) عام 1981 ولكن مع السيمفونية السادسة لـ (تشايكوفسكي)، وقصائد (ديلان توماس).
كان يجلس في الصف الأول سعيدًا، وإن لم تمنعه السعادة من هز قدميه طوال وقت العرض .. قبل بداية المسرحية كان قد تعثّر في أحد الثنيات السخيفة للسجادة الحمراء المفرودة في ممر المسرح وسط الصفوف، ورغم عدم وقوعه إلا أنه سمع ضحكة لاذعة تضربه في ظهره، لم يلتفت لمعرفة مصدرها .. لكنه في الخطوة التالية التي أعقبت هذه العرقلة البسيطة، وتحت تأثير ربكتها المفاجئة اصطدم بالمخرج الذي كان قادمًا من الاتجاه العكسي بخطوات عصبية سريعة، تتسق مع حرصه المتوتر ـ اللائق بالمخرجين ـ على إحكام السيطرة الضرورية في اللحظات الأخيرة قبل فتح الستارة .. سقطت السيجارة (الكليوباترا) من يد المخرج بفعل الاصطدام، فالتقطها سريعًا قبل أن تحرق نارها السجادة، ثم اعتدل ليرمق الكاتب المسرحي بضيق، ويقول له بصوت مرتفع، أخرجته اللهجة نافذة الصبر قليلاً عن حدود الدعابة: (ما تقعد في حتة يا عم) .. ابتسم مؤلف العرض بإحراج مهين، محاولاً ـ كالمعتاد ـ أن يبدو ما حدث على ملامحه كأنه مزاح تقليدي، وهو يتابع بأذنيه الضحكة الأولى وقد تناثرت إلى ضحكات عديدة أكثر قوة، آتية من مسارات مختلفة وسط كراسي المتفرجين.
نهض من كرسيه، وصعد إلى المسرح لتحية الجمهور مع بطل المسرحية ومخرجها، وبالطبع كان قلبه يدق بعنف مع التصفيق قبل غلق الستارة، وهو يفكر في تعثره بالسجادة، واصطدامه بالمخرج .. كان يتساءل بعينيه التي تدقق في الوجوه المحدّقة باتجاهه من أسفل: هل يصفق الآن أولئك الذين سمع ضحكاتهم الساخرة قبل العرض؟ .. عاد ليقف في ركن قريب من الممر ليراقب انطباعات وتعليقات المتفرجين الأخيرة التي يتبادلونها أثناء مغادرة المسرح حينما وجد ثلاثة أشخاص يقتربون منه .. كانا شابين وفتاة بأعمار متقاربة في منتصف العشرينيات .. الشاب الأول له شعر قصير جدًا، يمشطه للخلف، ووجه هزيل بشارب رفيع، وكان يرتدي بنطلونً جينز أزرقًا فاتحًا، وجاكيت صوف رماديًا، مغلق بسوستة حتى منتصف الصدر، فوق قميص أبيض، كما لمح (حظاظة) سوداء في يده اليمنى .. الشاب الثاني كان ذو شعر ناعم، ممشط بالعرض مع فرق جانبي، واضح ومتقن، وكان يضع نظارة طبية، وله شارب أكثر ثقلاً مما لدى الشاب الأول، كما كان يرتدي بلوفرًا تريكو أخضرًا، تُظهر رقبته المستديرة ياقة القميص البيج خلفه، مع بنطلون أسود من القماش العادي الخفيف .. الفتاة كانت ذات شعر فاحم قصير، وتضع مكياجًا بسيطًا، ولها أنف أفطس إلى حد ما، وكانت ترتدي فستانً لبنياً بذراعين واسعين، ينتهي كلاهما بإسورتين لونهما أبيض، وينزل إلى ما أسفل ركبتيها .. صافحوه بابتسامات كبيرة مهنّئة، وهم يبدون إعجابهم الشديد بالعرض ثم قدموا أنفسهم له .. كانوا مجموعة من دارسي الفلسفة المهتمين بتاريخ الفن، ويجمعهم شغف التأويل الفلسفي للفن التشكيلي، وقد كانت مفاجأة غريبة جدًا، وسعيدة لهم في نفس الوقت ـ بحسب ما أخبروه ـ اكتشافهم التطابق العجيب بين التحليل الذي جسّده في المسرحية للوحة (إلحاح الذاكرة)، وتفسيرهم الخاص لهذه اللوحة وفقًا لأفكار (إيمانويل كانط) عن (العقل التأملي)، و(بنية الإدراك)، و(نقد الميتافيزيقا)، ثم طلبوا منه ـ لو لم يكن وقته مشغولاً ـ أن يخرج معهم من المسرح للتمشية في شوارع (المنصورة) لشرح هذا التطابق بشكل تفصيلي .. كان فرحًا وممتنًا أكثر من أي لحظة مضت على وجوده داخل المسرح القومي الذي تجاوز عتبته عصر اليوم .. كان قد لاحظ بألم مألوف انتباههم لاحمرار وجهه، واللجلجة المضطربة في كلماته .. الانتباه الذي مر داخل ملامحهم كطيف شاحب لابتسامة جماعية متهكمة، تبدد لؤمها الخافت على الفور حتى لا يجذب بصره، ولكنه لم ينجح في ذلك .. كان ماهرًا في اصطياد الانطباعات الهازئة مهما كان ضعفها أو سرعة اختفائها لأنه ببساطة كان يتوقعها دائمًا، ويترقبها طوال الوقت .. شاهد وراءهم امرأة جميلة، ذات شعر أسود طويل، وجسد فاتن تحتضن بطل العرض، وتقبّله، ثم تمد أصابعها البيضاء بمنديل ورقي لتمسح (الروج) من خدّه فتذكّر كيس المناديل في جيب بنطلونه، والذي اشتراه من دكان (أبو كمال) في شارع (سينما أوبرا) قبل مجيئه إلى المسرح، ولم يفتحه بعد.
*تحت الطبع