يوسف نبيل
ناولته كوب ماء، وبعد أن رشف بعضه أخذت عيناه تستجديان التحدث… وهل تظن أني لا أريد التحدث؟ لكني لم أجرِّب التحدث مع أحدهم قبل موته بمدة قليلة. أشعر وكأن مشاعري قد جفت وأني غير قادر على التواصل البشري ثانية. تنتظر مني أني أعيد جسور التواصل مع إنسان آخر من جديد، وهي مقضي عليها بالتمزق بعد مدة بسيطة! يا لفرط القسوة! لكني عندما أنظر إلى عينيك أدرك قسوة أفظع سأقوم بها إن لم أحدثك صادقًا، وهو ما أتوق إليه يا مجدي على أي حال رغم شبح الموت.
لا أستطيع نسيانه في عدة مشاهد يختلط فيها الحب بالتعذيب… إنه أبي. فراشي الصغير موجود دائمًا في الناحية اليُمنى بالقرب من موضعه على فراشه، وغير مسموح لأمي أن تضع فراشي بجانبها، وهو ما لم تسع إليه على أي حال. هو من يوقظني وهو من يضعني على الفراش قبل النوم. في أيام العيد الصباحية نستيقظ في الموعد المحدد كعادة كل عام، ويخرج إليَّ القميص الجديد ويلبسني إياه. صيفًا أم شتاءً لابد وأن يغلق كافة أزرة القميص حتى الزر الأخير المحكم على العنق. ينظر إليَّ باعتزاز ويربت على كتفي وننطلق في رحلتنا الصباحية التي تمتد حتى الغروب. من منزل إلى منزل ندور ونمر… أستقبل كافة قبلات أهله ومعارفه السمجة حتى أشعر وكأن خديَّ قد تورَّما، ومهما حاولوا أن ينتقلوا بدفة الحديث إلى موضوع آخر فلابد أن يُعيد أبي الدفة للتحدث عني… أنا الطفل المعجزة الذي ليست لديه معجزة واحدة! لم أكن حتى أتمتع بأي جمال جسدي أو جاذبية أو خفة دم. يتحدث عني طوال ساعات طويلة مع أهله ومعارفه… يقول كل شيء. يتحدث عن ملابسي وطريقة تصرفي ولغتي الراقية وأخلاقي الحميدة واختياراتي الرائعة وطاعتي العمياء واحترامي لأمي وتفوقي الدراسي ونظافتي الشخصية ورائحتي الحسنة وعدم إهداري لوقت طويل داخل الحمام وعن أحلامي التي يحلمها هو لي بدلا مني وعما سأفعله حينما سأدخل كلية الصيدلة، وعن تديني الشديد وحرصي على الصلاة قبل النوم، وعن فراشي القابع بجانبه، وبرازي خفيف الرائحة، وشربي لكمية معقولة من الماء وجلوسي مستقيم الظهر وسرعة وانضباط مشيتي، ورائحة عرقي العطرة، وحرصي على استخدام أدوات المائدة بشكل صحيح.
حينما نصل المنزل بعد الغروب أشعر بإرهاق مفزع، أتذكره بقوة في كل ليلة عيد قبل أن يوقظني أبي للقيام بهذه الرحلة من جديد.
لازلت أذكر زياراتنا لفرع شديد الفقر من عائلته، وإصراره على الإشارة لثمن الحذاء والقميص الجديد اللذين اشتراهما من أجلي. يحدق أطفال هذا المنزل في ثيابي وأشعر بارتباك شديد لم أفهم كنهه وقتها، لكني أعرف الآن أن ثمة قسوة مفرطة كانت تجري لإفسادي عنوة.
عند حمل أمي مرة ثانية لم يقل اهتمامه بي للحظة، وعند يوم الولادة كان يمسك بيدي بقوة خارج غرفة المستشفى. كل ما أدركته أن ثمَّ أمر خاطيء بالحمل قد حدث فاصطحبوا أمي مسرعين إلى المستشفى في قلق عظيم. خارج غرفة العمليات كان أبي يمسك بيدي، بينما يجول جدي بصحبة جدتي في فضاء الممر بقلق عظيم. كلما أفلت من يده وأركض صوب جدي وجدتي يناديني بحزم ليعود يمسك بي، ثم همس في أذني:
- لا تقلق… ستظل الأول.
وحينما خرج الطبيب وإحدي الممرضات من غرفة العمليات وقالوا لأبي وجدي أمرًا ما لم أسمعه، أخذ جدي يبكي بكاءً شديدًا لم أره يبكيه من قبل، بينما ظل أبي صامتًا وأتي مسرعًا إليَّ ليمسك بيدي التي أفلتها لثواني قليلة، وقال لي بصوت خفيض:
- كما أخبرتك… ستظل الأول. أمك لم تنجح في إنجاب طفل آخر، والحمد لله.. كانت فتاة لكنها ماتت.
لم أفهم شيئًا لكني شعرت بخوف شديد، واضطراب مفزع حينما لاحظت حالة أبي المزاجية الحسنة، وبكاء جدي وقلق جدتي الشديدين. لازالت ذكرى هذا اليوم عالقة في ذهني، وكنت أسترجعها كلما نذهب إلى أحد أقاربه أو معارفه فيفخر بي قائلا:
- رجل… سيكمل مشواري.
ما يزيد من قسوة زمن الطفولة عدم الفهم… كنت أشعر بالاضطراب والخوف والتعاسة دون أمل في تفسير مُرض، فالقائم على تفسير الغامض من الأمور هو سبب الغموض. أذكر ليالي طويلة كنت أشعر بحزن وخوف يجتاحاني دون سبب أو مبرر، وكان ذلك يمنعني عن تناول الطعام تمامًا، ووقتها كان يشعر بالجنون حتى أنه يأخذ سيارة خاصة ويذهب بي إلى النيل ويحاول أن يُلطِّف عليَّ الأمور لأتناول الطعام. في بعض تلك الأوقات لم تكن أمي لتلحق بنا من الأساس. وفي أوقات مرضي كان يتحول إلى إنسان آخر… مخلوق ضعيف، تنتابه نوبات هستيرية من البكاء، وكان شيئًا يدفعني لمواصلة التظاهر بالمرض حتى بعد تعافيَّ منه.
منذ سن مبكر فرض عليَّ الصيام. بدأنا بالصوم الصغير ثم الكبير والرسل والعذراء ويونان…. كافة الأصوام. أمرني بالرجوع إليه عند رغبتي في شراء أي نوع من أنواع الحلوى كي يقرأ المكونات ويرى ما إن كانت تشمل أي طعام غير نباتي أم لا. لم أتمكن أبدًا من فهم سبب تغيير الطعام من حيواني لنباتي، ولا سبب مدة هذه الأصوام الهائلة. كان يشعر بعذاب شديد في التخلي عن اللحوم في هذه الفترات، لكنه في الوقت ذاته يخشى آثار الدهون والكوليسترول أكثر… يخشى المرض وتطارده أشباح الضعف والموت. أذكر في أحد الأعوام ذهب إلى أديرة عديدة عند بعض الرهبان المشاهير كي يصلوا من أجله حتى لا يموت أثناء عملية إزالة الزائدة الدودية.
حتى سن متأخر كان يحرص على انتظاري أمام المدرسة حتى أخذ أصدقائي يسخرون مني، ولم أنجح في منعه عن ذلك سوى بعد مشاجرة هي الأعنف منذ مولدي، أصابته بالذهول لأيام متتالية. وفي أحد أيام انتظاره لي رآني أخرج من المدرسة بصحبة أحد أبناء جيراننا ويُدعى ألبير. سألني عن هويته فأخبرته، فأمرني باتخاذ الحذر من التحدث معه في أي أمور دينية. لم أفهم في البداية فأخبرني أنه بروتستانتي، فسألته ومن هم بالتحديد البروتستانت فغضب غضبًا شديدًا وهو ينعتهم بالضلال والخداع والمكر والسرقة. نهاني بشدة عن أي اقتراب من أي كنيسة لهم. حاولت في نفس اليوم أن أفهم بالتحديد الفوارق بين الأرثوذكس والبروتستانت فلم يجبني بشيء سوى أنهم ضالين. كان يكرر دومًا أنه شديد التعصب ويفتخر بهذا التعصب للأرثوذكسية القويمة، وأن أمور العقيدة شديدة التعقيد ولها رجالها، ويمكنني أن أرجع لبعض الكهنة المتبحرين في علوم اللاهوت والعقيدة.
عندما انتشرت الفضائيات كرَّس أغلب أوقات فراغه لمشاهدة برامج الأب زكريا ومن على شاكلته ممن يهاجمون الإسلام في برامجهم. كان يهز رأسه كلما تعالت حدة النقد غارقًا في النشوة. إن لم يسمع أحدهم الصوت ونظر إليه وهو يهتز طربًا سيظن لا محالة أنه يستمع إلى إحدى أغاني أم كلثوم. ينهي البرنامج وينظر إليَّ قائلا:
- إنه دين كراهية… مقزز… مقزز… كم أكرهم!
في البداية كنت أنخرط في مناقشته، ورويدًا رويدًا امتنعت تمامًا بعد أن أدركت عبث المحاولة. وتدريجيًا أخذ الحبل يلتف حول عنقي كاملا، وما من منفذ سوى بعمل جنوني.