غراس: ما أعرفه، هو أنه منذ وقت طويل، أي منذ رواية «طبل الصفيح»، كنت قد أقمت علاقة متينة مع نوع معين من الأدب كان يقودني الى إسبانيا، بل إلى ما نسميه في الفيلولوجيا الألمانية أدب التجوال (Littérature Picaresque)، وثرفانتس كان ممثلاً لهذا التيار الأدبي، لهذا الفن القصصي الذي تطور في إسبانيا في ظل الهيمنة العربية من مزيج يحتوي على مجموعة مكونات عربية ويشكل ثمرة انسجام بين ثقافات شديدة الاختلاف. تنقل هذا التيار القصصي بين بلدان عدة، رابليه في فرنسا، غريملشهاوزن في ألمانيا، لورانس شتيرن في بريطانيا، وحتى لو عارضني بعض المتخصصين في الأدبين الألماني والإنكليزي، يمكنني إدراج «عوليس» رائعة جويس ضمن هذا التيار. في روايتي «طبل الصفيح» كما في الرواية الأخيرة (قصة كاملة)، يتفرغ البطل فونتي للأدب، بصحبة شخصية أخرى، نوع من القرين أو الظل ضمن ثنائي يحمل خصائص فيزيولوجية متنافرة، ثنائي قادم من بيئتين مختلفتين، متقابلتين، بل متناقضتين، ولكن تنجدل مصائر الطرفين بجيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر في ما بعد. هذا ما شكل بالنسبة إليّ بداية انطلاقة للرواية، وبهذا المعنى أجدني مرتبطاً بالتقاليد الإسبانو ــ عربية لأدب التجوال.
غويتيسولو: هناك فكرة وحيدة تعبث برؤوس اليمين الأوروبي المتعصب اليوم: الاختزال. لكن المهم في أي ثقافة هو الإضافة. الثقافة، في الحقيقة هي مجموع كل المؤثرات الخارجية التي تلقتها. ادعاء البحث عن جذر وحيد لهذه الثقافة لا يؤدي الى هلاكها فقط، بل الى التطرف الأكثر غلواً والجرائم التي ترتكب من قبل المتعصبين. إن ما ذكرتموه عن الجذور العربية للثقافة الإسبانية يبعث على السرور. كما كتب أميريكو كاسترو عام ١٩٤٦: «أتكلم بحذر عن تأثير عصر الأنوار على «دون كيشوت»، لكني بالمقابل يهمني معرفة ما كان قد اكتسبه كاتبها أثناء سنوات أسره في دار الإسلام». ما أجده رائعاً أيضاً هو هذه اللعبة الممتعة بين الكاتب حين يؤلف الكتاب، والكتاب الذي يكون في طور الكتابة كما تظهر عند ثرفانتس. ليس فقط لأن الشخصيات التي تظهر في القسم الأول، تقترب من الجنون بفعل قراءاتها، بل لأن الشخصيات الأخرى التي تقرأ الكتب الرعوية وقصص الفروسية تظهر كأنها شخصيات لروايات أخرى. هنا تتقابل الحقب الزمنية في لعبة مرايا لافتة أتعرف إليها دائماً في روايات «ثرفانتسية» أقرأها عند ديدرو، وشتيرن، وفلوبير، الى بعض روائيي أميركا اللاتينية، من دون أن أغفل رواياتكم طبعاً
*غراس: في ما يخص نقاوة العرق، لدينا في ألمانيا قانون للتجنيس يعود الى القرن التاسع عشر. هذا القانون يحظر الجنسية الألمانية عن مئات الآلاف من الشبان المولودين في البلاد، ممن يتكلمون اللغة الألمانية أفضل من آبائهم القادمين من تركيا أو أي بلد آخر. حين أقرأ هذا القانون، أصطدم بجمل مثل «كي تكون ألمانياً، يجب أن تسري في عروقك دماء ألمانية». أنا قادر تماماً على التمييز في المذاق الجيد بين خمر وآخر، لكن تمييز ما هو ألماني أو غير ألماني في الدم لهو أمر متعذر.
إن أجدادي هم من السلافيين المتحدرين من دانتزيغ، لذلك إن أفضل نتائج الثقافة نحصل عليها بالاختلاط. ثم إن النظام الرأسمالي بحد ذاته يتصرف مثل قوة متعصبة فريدة: كل ما لا ينتمي إلى منطق السوق يتم إقصاؤه ومحاكمته. كل شيء يتقزز في البورصة وفق قاموس كامل جديد من المصطلحات مثل عولمة، شركات عابرة للقارات، كما لو أن هذه الأشياء وصفة جاهزة أو قدر محتوم. لنعد الى ما أثرته في نقطتك الثانية حول الأدب، تتم اليوم كتابة عدد هائل من المقالات التي تدعي الإتيان بجديد، أعتقد أنّ ثرفانتس هو الرمز الأول لما بعد الحداثة. الأدب هو حوار مستمر، إحياء لثيمات تم إغفالها من الزمن، مع مرجعيات ساخرة وملاحظة دقيقة لكل الاحتمالات الداخلية المدمجة داخل الثقافة ذاتها، مثل إلغاء مفهوم الوقت. بما يخص المجالات الأخرى، في العلوم أو التاريخ، يمكننا الاعتماد على التسلسل كشيء محقق، باستخدام الماضي أولاً، ثم الحاضر ــ لو لم يكن أحد يعلم متى يبدأ هذا الحاضر ومتى ينتهي ــ ومن ثم المستقبل. في المقابل، نعرف أنه في ميدان الأدب، يمكننا تجاوز هذا التقسيم الكرونولوجي للزمن وأن أفكارنا أو المونولوج في داخلنا يتربص بها الماضي والقلق من المستقبل في آن معاً، وأن الحاضر أشبه بجرفٍ لا يكف عن الانزلاق. بالكاد نعيشه، يكون الحاضر قد غادر للتو. هنا إذاً موضوعات يمكن للأدب تناولها وتحويلها الى واقع جديد بفضل الوسائل الفنية والوسائط الجمالية المتعلقة بالقص.
غويتيسولو: إنه التمييز، بين ما يسميه الرسام الإسباني الكبير أنطونيو سورا «الطفرة العصابية» للموضة وقوة الحداثة. يعتقد كثيرون خطأً أن عملاً أدبياً أو فنياً هو حديث إذا تم ابتداعه أو نشره منذ فترة وجيزة. لقد ذهبت أخيراً لزيارة المتحف الكلاسيكي الإغريقي في أثينا. بصراحة، كل تماثيل أبولون وفينوس لم تعنِ لي شيئاً، لقد كانت جميلة لكن ساكنة، بينما ما رأيته في متحف الفن المصري كان حديثاً بالنسبة إليّ للغاية. أظن أنه يمكننا العثور على هذه الحداثة في كل الحقبات السابقة، ما يمكن كل كاتب من بناء «شجرة» أدبه الخاص. يجب على كل كاتب ألا يقتصر على مقارنة نفسه بمجايليه الأحياء (وهو ما يأخذ غالباً شكل عداوات وخصومات تافهة)، بل كما يقول اليوت يجب مقارنة نفسه بالكتّاب الأموات. أظن أنك من الكتّاب الاستثنائيين، الذي سعى منذ البداية الى قياس عمله بأعمال كبار الكتّاب في اللغة الألمانية، مثل توماس مان، ألفريد دوبلين أو آرنو شميت.
غراس: تعلمت شيئاً عظيماً من هانس ريختر، زعيم المجموعة ٤٧ وهي مجموعة كانت تعنى بالأدب بعد الحرب العالمية الثانية: أن أكون متسامحاً، وأن لا أحكم على نص من خلال جملة وحيدة، وأن لا أقول ببساطة هذا جيد وهذا سيئ، بل الذهاب الى المحاججة وإعطاء الأسباب التي تضفي قيمة على عمل أدبي وتنفيها عن آخر. أعطاني ريختر أيضاً نصائح رسخت في داخلي الأهمية القصوى للصداقة بين الأدباء. هناك كتّاب عظام رحلوا، لكنهم بالنسبة إليّ ما زالوا أحياء، بل أحياء أكثر من كثيرين ممن هم بيننا اليوم. هذا جعلني أعرف مثل الكثير من أصدقائي أن الثقافة ليست مادة مكتفية بذاتها: للثقافة ماضيها وجذورها، وتستلزم العمل المضني لكتّاب كثيرين بمن فيهم الكتاب المجهولون، بحيث تتعزز الروابط في ما بينهم حتى يظهر نوع من النضج. يصير ممكناً بعدها أن يحافظ أحد الكتّاب على راهنيته مع الوقت، والفضل في ذلك لا يعود إليه بصورة شخصية، بل الى العمل المشترك لأجيال متعاقبة من الكتّاب.
غويتيسولو: في نهاية هذا الحوار، أتفق تماماً مع ما قاله غونتر غراس حول أننا لسنا بشجيرات معزولة، لكنا نعيش في وسط غابة فسيحة. الوقت وحده يحدد إذا ما كانت شجيراتنا ستبقى ضئيلة أو أنها ستتحول الى شجرات باسقة.
………………….
*الحوار كاملاً نُشر في كتاب خوان غويتيسولو Cogitus Interruptus (منشورات دار فايار الفرنسية، ١٩٩٩)، ونشرت مقتطفات منه في «لوموند دبلوماتيك» عام ١٩٩٩
*نقلا عن صحيفة “الأخبار” اللبنانية