د. لنا عبد الرحمن
ذات مساء من شتاء عام 2004 كنت في الإسكندرية، وعند محطة الرمل توقفت لشراء ما توفر من الكتب الجديدة من الباعة الذين يفرشون بضاعتهم على الأرض، حينها كان ذاك الطقس جزءًا مهمًّا من الرحلة. “معراج” هو عنوان المجموعة القصصية التي امتدت إليها يدي للكاتبة سمر نور، وبجانب العنوان كلمة “مجموعة قصصية تشكيلية”.
في ذات الليلة، قرأت القصص، وكل قصة متجاورة مع لوحة للفنانة التشكيلية حنان محفوظ، أحببت قصص المجموعة وما فيها من تقاطعات تتداخل فيها التساؤلات الوجودية والصوفية، الفانتازيا مع لغة ضبابية تطرح رؤيتها الخاصة للعالم، بدون افتعال أو زيف، كان حال القصص كاشفًا لبوح ينشج بصمت مخنوق، وروح متألمة بشدة، تتوق إلى حالة من الخلاص، مع العنوان الغامض “معراج”.
لما رجعت إلى القاهرة، سألت الأصدقاء القليلين الذين أعرفهم عن صاحبة قصص “معراج”، وكنت أتوقع العثور على إجابة، لكن أبدًا ما أفادني أحد بمعرفتها.
في معرض القاهرة للكتاب عام 2004، وكنت في طريقي للدخول إلى المقهى الثقافي، شاهدت فتاة سمراء نحيلة تحمل مجموعة “معراج” وتقف مع كاتب معروف، وتهديه نسخة. انتظرت حتى انتهت، ثم اقتربتُ منها وألقيت السلام، سألتها وأنا أشير للمجموعة القصصية: “أنت سمر نور؟”، كان رد فعل سمر حينها مزيجًا من الدهشة والارتباك؛ فمن هي هذه المجهولة التي تقتحمها بشكل مفاجئ. هذه الحادثة صرنا نتندر بها كثيرًا فيما بعد.
يومها، جلسنا على إحدى طاولات المقهى الثقافي، تعارفنا أكثر، وتبادلنا المعلومات السطحية التي يتبادلها جميع البشر في لقاءاتهم الأولى، بعدها ظللنا نتواصل هاتفيًّا، ونلتقي في أوقات غير متباعدة. لم يقف أمام تواصلنا الأولي أني أعتبر نفسي شخصًا قليل الكلام ولا يسترسل في حوارات طويلة إلا بعد مرور وقت، لكن سمر كانت تميل للصمت أكثر مني، ورغم هذا ظللنا معًا طيلة هذه السنوات، جمعتنا حساسية برج الحوت المفرطة، وتفاصيل أخرى كثيرة تكشفت بمرور الوقت، وسندت علاقتنا في كل المراحل.
كانت تجربة كتابة “معراج” بالنسبة لسمر تجربة تطهر من فقد والدها الذي مر على رحيله عدة أعوام، لكنها ما زالت مأخوذة في منطقة الحزن لغيابه، ولم تبرحها بعد.. هذا كان ملموسًا جدًّا في شخصيتها، الود واللطف كان يمضي جنبًا إلى جنب مع حالة من الألم والرغبة في الفرار التام من إزعاجات الحياة كلها، لطالما ظللت في تلك المرحلة أرى في صديقتي الجديدة تلك الطفلة التي تضع حكاياتها على الورق، وترغب في الهروب والاختباء في كهفها البعيد، كي تحمي هشاشتها من خربشات العيش اليومي وتتخلص من أذى لا يمكن التنبؤ بمصدره.
لكن لم تكن سمر وحدها، كنت أسير معها على ذات الخط الأفقي، في إحساسي المطلق بالاغتراب، في اكتشاف مدينة جديدة لها ألف وجه لا أعرفه، ورغم هذا كانت صديقتي التي ترغب في الاختباء والهروب حاضرة معي دائمًا في مواجهة هذا العالم، صادقة، أمينة، وفية، وقادرة على احتوائي بمحبة غير مشروطة.
***
المجموعة القصصية الثانية، “بريق لا يحتمل”، كتبتها سمر مع حضور رغبة بالانعتاق والتجرد من أعباء داخلية تُكبل الروح، في مقابل حضور الجسد الذي يبدو حبيسًا لإرهاصات لا راد لها. الجسد في القصص يأخذ أشكالًا متعددة، وتساؤلات مختلفة، كما في “جسد الأرض العاري”، وكما في غواية “بريق لا يحتمل”. يمكن اعتبار هذه المجموعة امتدادًا متشعِّبًا لقصص “معراج”، مع حضور أوسع لفكرة المكان وعلاقته بالذاكرة والحنين الذي تخشى عليه الكاتبة من الزوال؛ وكأن ثمة حاجة ملحة لكتابة هذه القصص بغرض القبض على تفاصيل “زمكانية”، لا تريد لها الانفلات والضياع. هذا نجده في قصص: “بيت ومدفأة”، “شاي العصاري”، “منذ خرجنا من الكهف.. إلى أن عدنا من جديد”.
***
في رواية “محلك سر”، انتقلت الكاتبة إلى عالم أكثر اتساعًا، مع اختلاف واضح في اللغة السردية التي بدأت تأخذ الإيقاع السردي المتناغم مع السرد الروائي، وتغيب عنه الجملة الغامضة ذات الإيحاءات المتعددة، والتي تشبه لغة النصوص المفتوحة، أو قصيدة النثر، مع الارتكاز أيضًا في الرواية إلى ألعاب سردية، سوف تغيب تمامًا عن روايتها الثانية “الست”.
تناولت سمر نور في “محلك سر” سيرة حياة بطلتيها لمى وصوفي، أيضًا عبر مراجعة الوعي، وسؤال الزمن الماضي للحصول على أجوبة عن أسئلة فرضها واقع لاهث في تحولاته القسرية في مصير البطلتين اللتين تنتميان إلى الطبقة الوسطى. يمكن القول إن تتبع الوعي الذي يحضر من بداية النص يرتبط سرديًّا بالزمن، الذي يبدأ مع مطلع سنوات الثمانينات وتحديدًا عام 1981 كبداية للتأريخ للعلاقة بين الصديقتين حتى العام 2010. لكن الزمن هنا ليس عاديًّا، بل إنه يرتبط بحدث مفصلي ومهم في تاريخ مصر مع استدعاء لحظة اغتيال الرئيس السادات. فالحدث السياسي هنا الذي يبدو هامشيًّا للوهلة الأولى كونه يحضر عبر ذاكرة الطفولة يشكل خلفية أساسية للسرد.
الطفلة لمى التي لم تتجاوز السادسة من عمرها تراقب عبر الشرفة ما يحدث في الشارع، حيث تتجاور صور بانورامية لتفاصيل صغيرة تشغل مخيلتها اللاهية عن عالم الكبار، وتتابع عبر الشرفة شاشة التلفزيون الذي انقطع إرساله في تلك اللحظة التي حولت تاريخ بلد بأكمله مع موت رئيسه، وهو يراقب العرض العسكري. في المقابل يفرض عالم الكبار تدخله السريع على مخيلة لمى مع قدوم الجار لاهثًا ليقول لها وهي واقفة على الشرفة: “اغتالوا الريس. فين أخوكي؟ بيقبضوا على اللي بيشتغلوا سياسة”. من هنا لا يمكن قراءة رواية “محلك سر” -مع دلالة العنوان- من دون ربط واقع البطلتين لمى وصوفي، بواقع مصر، فالرواية التي تنتهي عام 2010، مؤرخة لسنوات من المراوحة الجماعية للطبقة الوسطى، ترصد في جانب منها تضخم الخراب العشوائي، سواء من الجانب النفسي أو المكاني، فيؤدي ببعضهم إلى الجنون، أو إلى انهيار أماكن المدينة مع انزياح أفرادها ليسقطوا في مستنقع من الوحل. ومن حافظ على ثباته منهم سيظل مرهونًا لحركة ثابتة لا تتغير.
حشدت الرواية كثيرًا من التفاصيل والأحداث، بيد أن النواة الأساسية فيها تنطلق من رحلة الرجوع إلى الماضي. وفي العودة إلى عنوان الرواية “محلك سر”، الذي يمثل حالة البطلتين في عدم مراوحة مكان ما، وبالتالي الثبات عند نقطة واحدة، فهذه النقطة هنا تتفرع في اتجاهات عدة، أحدها تقدمه الرواية ويفيد بأن المراوحة تحمل مدلولًا سلبيًّا للدلالة على زمن راكد، بفعل الخراب السياسي والاجتماعي الذي يؤدي إلى قفزة متمردة على ذاك الثبات المميت. هذا الثبات هو الذي قاد البطلتين في النص إلى مساءلة الماضي عن السبب في بقاء حياتهما تمضي تحت مظلة مكانك راوح.
***
عادت سمر نور للقصة القصيرة مرة أخرى مع مجموعتها “في بيت مصاص دماء”، الحائزة على جائزة ساويرس في فرع القصة القصيرة، ولم تكتفِ في هذه القصص بالعمل على صوغ نسيج فانتازي للحكايات عملت على منواله في “معراج” و”بريق لا يحتمل”؛ بل إلى جانب الفانتازيا والخط السريالي الذي يضفر معظم القصص هناك محاور عدة مشتركة يمكن الوقوف أمامها على البنية الحكائية سواء من حيث الدلالات الرمزية، أو في تشكيل البناء النفسي للأبطال الذي جاء متشابهًا إلى حد كبير.
انشغلت الكاتبة خلال هذه القصص في التعبير عن المكان المكتظ والزمان الفارغ، وازدحام المكان ليشغل حيزًا نفسيًّا ضاغطًا يؤدي إلى تلاشي المساحة الخاصة وسط الجموع، فقدان الأمان الذاتي والتيه في البحث عنه حتى الموت، الانتحار، فقدان الذات، أو الجنون.
تنقسم قصص المجموعة بين خطين، فانتازي تمامًا كما في القصة التي حملت عنوان المجموعة، وفي قصة “وثالثهما الديناصور الأخير” و”حفلة بينوكيو” و”الحفرة”، وقصص أخرى يتداخل فيها الواقع مع التخييل، كما في “ابنة صانع التوابيت”، “أجنحة الطائر” و”مقعد في الأوتوبيس”.
لكن يشترك جميع أبطال هذه المجموعة في إحساس الحصار، هم رهناء عزلة مفترضة، واقعية حينًا، ومتخيلة أحيانًا، لكنها موجودة داخليًّا وخارجيًّا بحيث تشكل لهم عائقًا أمام الحياة. إلى جانب التناص في العنوان مع فرجيينا وولف في قصة “غرفة تخص صبري وحده”، فالانتحار الذي أودى بحياة البطل هو النتيجة الطبيعية لغياب المساحة الذاتية بالنسبة للأفراد. والبطلة الساردة التي لا نعرف لها اسمًا، مشغولة أيضًا في الحديث عن تلاشي مساحتها الذاتية، هي صحافية في صفحة الحوادث تذهب لكتابة تحقيق عن قضية صبري النقاش المنتحر، ومنذ تلك اللحظة تتغيّر حياتها تمامًا، تترك منزل أسرتها بحثًا عن مساحتها الذاتية، وبعد زواجها تعود للشكوى من غياب الحيز الخاص بها.
استعانت الكاتبة بالدلالات الفانتازية في قصصها، والرموز المستوحاة من قصص الأطفال والأغنيات، لتجد مرآة عاكسة لأشعة الشمس، فلا تقدم صورة الواقع كما هو، بل يظل على القارئ ضرورة اقتحام الجدار ليكون جزءًا من الصورة، حيث يتداخل النفسي مع الاجتماعي في القصص بأسلوب يبتعد تمامًا عن المباشرة، مع انشغال القصص بالكشف عن غياب الحيّز والحصار الذي لا يرتبط فقط بالاغتراب الداخلي عن الجموع وغياب الخصوصية، لكنه يحمل اعتداءً مباشرًا يمارسه المجتمع على الذات الفردية، ويؤدي إلى حياة أرواح حبيسة داخل قمقم غير مرئي.
***
مع روايتها “الست”، التي تختلف عن كل أعمالها السابقة عادت سمر نور إلى الرواية مرة أخرى. في رواية لصيقة بالذات، وبمواجهة الوحوش الداخلية والعمل على ترويضها مباشرة، بدل تجاهلها أو إنكار وجودها، وإنكار حالة الرعب التي تسببها؛ بينما تبدو الكتابة التي تحضر بشكل متجرد وسيلة للمقاومة، تقول: “كنتُ أكتب لأقتل وحوشي، وكانت تلك هي الوسيلة الوحيدة للتعامل مع كل هذا الوجع.. من يعرفني يعرف أنني بعيدة تمامًا عن قصص الحب، لن تجدها في نصوصي سوى لمامًا، كأنها لقطة مهزوزة لحدث لم يقع بعد”.
في هذه الرواية تحضر فكرة الحرية، مع قيام البطلة بخطوة الاستقلال في شقة صغيرة منفصلة عن أسرتها. انطلاقًا من هذا الحدث المحوري تتبلور رؤية الساردة للحياة، حيث يحضر عالم الحواس بتنوعه وثرائه. “الست” هنا، ليست شخصًا، بل حالة بحث عن الأنوثة وتجلياتها في كل التفاصيل البسيطة: الألوان، الروائح، الأغنيات، الطهو، الأفلام، الملمس الناعم والخشن للأشياء، الفراغ الخصب الذي ينتج عنه تأمل النجوم في رحلة إلى واحة سيوه. يمكن القول عن رواية “الست” إنها رواية العودة إلى رحم الذات، والاختباء من صخب العالم كله.
……………….
*نقلاً عن “ميريت الثقافية”