معاناة “لباس”

hani ishak
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

هاني إسحاق

لكل منا معاناته وآلامه التي لا يمكننا تقليصها، حتى ولو كانت مجرد نقص في كمية الكراميل على فطيرة السينابون. المعاناة هي التي تبني الإنسان أو تهدمه، وهي التي تشيد أو تهدم الحضارات. لن نطيل في هذا الحديث الفلسفي السطحي، ولننتقل إلى معاناة “لباس”.

من هو “لباس”؟ بل الأصح، ما هو “لباس”؟ “لباس” هو “الآندروير” للرجال، خاصة عند القرويين، الجزء السفلي من ملابسهم. كان “لباس” يتفاخر بين إخوته من الألبسة في “دستتهم” الجديدة على التروسيكل الذي كان يبيع الملابس في السوق. ليجد نفسه في يد صاحبة يد عجفاء، خشن ملمسها، تتخللها الأخاديد والشقوق.

بعد أن يساوم البائع مع صاحبة اليد (وليس اليد، فاليد لا تستطيع المساومة)، يجد “لباس” نفسه ملقى في حقيبة مع أشياء مشابهة لأغراض عريس جديد، وبينما يدور في ذهنه كلام الدعوات للعريس بالتوفيق.

تمر الأيام، و”لباس” مغمور وسط الملابس، مدفون في وسطها مع قطعة صابون.

وأخيرًا جاء اليوم المنتظر: زفاف صاحب “لباس”. ولسوء حظ “لباس”، كان لصاحبه أصدقاء من المدينة يعرفون تحية العريس ليلة الدخلة. وهي تحية، يندى القلم من كتابتها، ولا يستطيع الكاتب أن يصرح بها خوفًا على مشاعر القراء.

فلا أستطيع القول مثلاً أن أصدقاء العريس يقدمون له تحية غريبة، أو أن هذه التحية تكون بالأصبع الأوسط وفي منطقة معينة للعريس. لا، لن أقول ذلك احترامًا للقراء.

لكن الذي انجرح في النهاية هو بنطال العريس، وأسفله “لباس”. ولم تكن هذه بداية معاناة “لباس”، فقد كانت سوائل العريس غير البولية تغرقه قبل أن يجتمع بعروسه.

ولسوء حظ “لباس”، أُثقل بطن العريس بما لذ وطاب، وأُثقل عقله بسجائر (معمرة) تحتوي على (حشيش). وأصبح القولون والأمعاء في حالة طرب جماعي، يصدران أصواتًا وروائح كادت أن تحرق “لباس” في ذلك اليوم الميمون.

صبيحة ليلة الدخلة، تعرض “لباس” وأصدقاؤه “الألبسة” لعقاب جماعي، ألا وهو الغسل والنشر لعدة مرات متتالية، حتى خال “لباس” أن حياته ستكون غسيلًا ونشرًا. ثم اكتشف أن هذا العذاب كان لإظهار فحولة العريس الذي لم يمس أي من الألبسة، فقد كان يلبس جلبابًا على اللحم، فقط جلباب.

ومع مرور السنوات، تأقلم “لباس” على تلك الحياة، فمقدمته إما بها بول أو ماء آسن، ومؤخرته تتعرض لحروق وحروب كيميائية. وعند مناطق معينة، أتربة كثيرة وعرق وبكتيريا وفطريات جلدية وملوحة، تاركة خطوطًا واضحة تحيط بكيس الصفن (كنز وعزة صاحبه). ولسوء حظ “لباس”، كان صاحبه قليل النظافة الشخصية.

ثم يأتي الغسيل، ويواجه “لباس” ذلك النوع الرهيب من السوائل المدعو كلور، وهو مادة كاوية تؤدي إلى إتلاف أنسجته مع ما علق بها من أوساخ. وتبدأ أنسجته في التمزق، ليتم التخلص من الأوساخ والقطع المهترئة.

ليتمنى “لباس” أن يغادر مؤخرة صاحبه إلى غير رجعة. فهل بعد هذه المعاناة يأتي الموت الرحيم؟

حدث بسيط دغدغ أنسجة “لباس”، لكنه نسيه في خضم معاناته.

فما هو هذا الحدث؟

في يوم من الأيام، زار أحدهم صاحب “لباس” في منزله، ومن موضعه في مؤخرة صاحبه، كان “لباس” يسمع كلامًا غريبًا بدأ يعيه.

الزائر: “إحنا عايشين في قعر الترنش.”
(ولمن لا يعرف معنى الترنش: هو بديل عن شبكة الصرف الصحي، حيث تكون غرفة لتجميع فضلات المراحيض لحين امتلائها، ثم تُجمع بواسطة عربات خاصة ويتم التخلص منها).

صاحب “لباس”: “عيش عيشة أهلك.”
الزائر: “أنت مش فاهم، ومحدش فاهم، ومحدش سامع.”
صاحب “لباس”: “أنا سامعك وفاهمك.”
الزائر: “فيه دنيا تانية غير الخرا اللي إحنا عايشين فيه.”
صاحب “لباس”: “اللي على النت، والإعلانات التليفزيونية، والكتب؟”
الزائر: “طب ما أنت عارف أهو.”
صاحب “لباس”: “وهنوصلها إزاي؟”
الزائر: “بالقراءة بالعلم، ونختار اللي يدخل دماغنا، مش نحشيها بأي حاجة.”
صاحب “لباس”: “بص يا صاحبي، أديني تلات سنين متجوز، خرجت منهم بحكمة: إحنا زي “اللباس” اللي في طي.. كل اللي داخل لينا ظراط وفسا، والباقي أنت عارفه.”
الزائر: “والعمل؟”
صاحب “لباس”: “أنا بطلب من ربنا إنها ترسى على الظراط والفسا، ومتوصليش لأبعد من كده.”

هنا كانت ضربة كبيرة من مؤخرة صاحب “لباس”، فَأعادته إلى حالته اللباسية الأولى. لا يسمع ولا يفهم كلام البشر، فقط يسمع كلام الملابس الداخلية. لا يتهذب بحكمة البشر، بل يتهذب بحكمة الملابس الداخلية.

سمع “لباس” بعض الأحاديث، وحسبها من دروب الأساطير، لكن الأيام أثبتت أن دروب الأساطير تصل إلى عالم الواقع المرير ببوله وضراته. فعندما انشق “لباس” لنصفين أسفل كيس الصفن، لصاحبه حتى فلقة مؤخرته، تم غسل “لباس” ووضعه في المطبخ للإمساك بالأشياء الساخنة والملتهبة.

كم من حروق تعرض لها “لباس”، وكم من أجزاء منه تحولت إلى رماد.

فهل تكون هذه المرحلة نهاية عذاب ومعاناة “لباس”؟

لقد كان القدر كريمًا ولم يدخر كرمه في معاناة “لباس”. فقد تم وضعه في المرحاض…

هنا نترك “لباس” وحيدًا في غرفة التعذيب تلك، حتى تنتهي تلك المرحلة الرهيبة ببولها وبرازها ودورات حيضها، ومسح بقايا تلك الأشياء من قاعدة المرحاض…

يعود “لباس” بذاكرته إلى الوراء، حين كان لباسًا جديدًا يتفاخر بين أصدقائه في دستتهم على التروسيكل، ويشكو من تلك اليد العجفاء التي أمسكته لتبدأ رحلة معاناته…

وأخيرًا، يستفيق “لباس” على واقع يبدو جميلاً، ها هو أخيرًا ملقى مع القمامة، منتظرًا أن يُلقى خارج منزل المجانين… أخيرًا إفراج، أخيرًا “لباس” حر في أحد الخرائب.

لم يكن “لباس” يخشى الصراصير أو الفئران، حتى وإن أكلت منه أجزاء، فغالبًا لن تعود لتشممه بعد ذلك. كان خوفه الأعظم من الإنسان، ذلك السادي العجيب.

لقد وجد أخيرًا راحته العظمى في تلك الخرابة، ولكن…

وأه من كلمة “ولكن”، لم يتركه الإنسان. فقد التقطه جامع أقمشة قديمة ليضعه في جوال، ثم إلى مخزن صغير، فمخزن أكبر، ثم إلى عربة نقل، فإلى منطقة “عكرشة” الصناعية.

كان “لباس” يظن أن “عكرشة” مجرد أسطورة تتداولها الملابس القطنية.

ولكن، ها هي “عكرشة” بأجهزتها التي تقطع القماش المهترئ إلى أنسجة صغيرة تشبه القطن، بعد أن يتم غسله بمادة الكلور الجهنمية، ليصبح “لباس” ندف قطن بيضاء تباع كقطن جديد.

وأخيرًا، استقر “لباس” في حشوة قطنية على أريكة داخل أحد المراكز الثقافية…

إنه عالم جديد، عالم معلومات وثقافة. ليعرف “لباس” أنه لم يكن له حياة من قبل…

أصبح “لباس” نهمًا للمعرفة، نهمًا للعلم والثقافة والفلسفة. أصبح يعرف النسبية وتمدد الكون وغزو الفضاء، عرف العقد الاجتماعي لجان جاك روسو، عرف شكسبير، استمتع بالإلياذة والأوديسة، عرف أرسطو وأفلاطون، عرف الحضارة البابلية والأشورية، انبهر بالحضارة الكيمتية القديمة، وفجر الضمير. عرف دورات الحياة للكائنات الحية وغير الحية، عرف الجزيئات والذرات والجسيمات والكواركات، ونظرية الأوتار، عرف الطاقة والمادة.

وتشبعت جزيئات “لباس” بالأمل. وفي لجة انبهار “لباس”، حدث حريق ليلتهم المبنى الثقافي بما فيه.

وفي لحظات “لباس” الأخيرة، تدور ذكرياته كشريط سينمائي، مع شريط من التساؤلات:
هل… هل… هل… هل سينجو؟ أم هل سيتحول إلى صورة من صور الطاقة ليعيد دورة حياته في مادة… مادة جديدة؟ وهل لو أصبح طاقة، سيستطيع أن يعرف ويعلم مثل تلك المعلومات؟

نهمه للمعرفة كان نهمًا حقيقيًا، نهمًا لا يشبع، نهمًا لا يذوي.

لكن نهم النيران كان الأسرع…

وهنا لا أستطيع، أنا الكاتب، أن أدخل عالم الطاقة. لكنني أُنهِي هذه القصة، فقد أخذت حيّزًا أكبر من اللازم.

أُنهِيها بهذه الجملة: لقد انتهت معاناة “لباس”… أو بدأت.

مقالات من نفس القسم