حاوره: محمد حربي الكومي
مهمة صعبة ومستحيلة أن تكتب وتتحاور عن “الموت”. وتعزى الصعوبة إلى عوامل كثيرة: فالموت موضوع ينطوي على مفارقات ومتناقضات، وهو من ناحية أخرى مزعج ولا يشجع على الحديث أو التفكير، فماذا يحدث لو كان موضوع فيلم سينمائي؟ “جنة الشياطين” هو الفيلم الثاني للسيناريست مصطفى ذكري بعد فيلمه الأول “عفاريت الأسفلت” 1996، مع المخرج نفسه أسامة فوزي والفنان نفسه محمود حميدة. ويرى ذكري أن “جنة الشياطين” تكملة لـ”عفاريت الأسفلت” أو الوجه الآخر للعملة. فالبطل الرئيسي في الفيلم الأول “عفاريت الأسفلت” هو الجنس، والموت يؤدي دوراً ثانوياً، ويلقي بظل شاحب على العاطفة. ولكن في “جنة الشياطين” البطولة للموت، والجنس ظله الشاحب جداً. هنا حوار مع ذكري:
< ثمة مراوحة بين فكرة الموت الطبيعي – العضوي – والموت الروحي في “جنة الشياطين” والتركيز على الموقف الوجودي للإنسان في صورة منير رسمي طبل. هل وجدت صعوبة في التعامل مع مثل هذه الأفكار المجردة لسينما تعتمد في المقام الأول على الفيلم التجاري والجماهيري؟
– بالطبع كانت هناك صعوبة في تناول تلك الأفكار، لأن الرواية “الرجل الذي مات مرتين” للبرازيلي جورج أمادو لم تفعل ذلك، بل قدمت إلينا جزءاً من حياة منير رسمي كوكنيكاس الذي هو “طبل”. فنحن نرى جزءاً من حياته المنتظمة الروتينية القائمة على مقدار من المحافظة والالتزام الشديد. وقد رأيت أن هذا الجزء ضعيف درامياً، خصوصاً إذا اعتبرنا أن الدراما هي لحظة اتخاذ القرار، لحظة اختيار “طبل” أن يحدث انقلاباً في حياته وينزل إلى الشارع وبين الناس. واللحظة الأكثر فعالية هي موته الطبيعي – العضوي. وبذلك تولدت صعوبة أنك تتعامل طول الوقت مع جثة تريد أن تعرف تاريخ صاحبها من دون أن يكون لديك معلومات يقينية سابقة. من هنا كانت الدراما. ومن هنا كانت الصعوبة. لذلك جاء زمن الفيلم أقل من المتعارف عليه في السينما المصرية، إذ أن أحداثه تدور في يوم ونصف يوم ليس إلا.
< لماذا اخترت ديانة البطل المسيحية، هل لأنها اعتبرت الموت أعظم الأعداء ويجب قهره؟
– لم أكن أقصد أي معنى أكبر من الموقف الدرامي، وإن كان يحدث أحياناً أن يحمل الموقف الدرامي معاني أكبر من التي يقصدها الكاتب. لكنني اخترت ديانة البطل المسيحية، لأنني لم استطع الاستغناء عن طقوس الدفن المسيحي التي وردت في الرواية، والتي كان لها دور كبير في دراما الفيلم، مثل التابوت والبزة السوداء. كلها تفاصيل لها علاقة بالدراما ولم أقصد معاني ماورائية. كان همي التركيز على الموقف الوجودي، والوجودية ليس شرطاً أن تكون تعاملاً مع الماورائيات. ركزت على لحظة الدهشة من الموت، وهذه هي اللحظة الدرامية الكبرى، وعدم قدرة أصدقاء “طبل”، بوسي وعادل وننه، على تجاوز الموت، لذلك ستجد أن هناك تصديقاً وعدم تصديق، في الوقت نفسه، لموت “طبل”. وهكذا، تبدأ الدراما بعدم الاعتراف، وعندما تخفت نصل إلى الاعتراف والتسليم بالموت. لذلك آثرت أن تكون الدراما فوق الواقع. فهي ليست فانتازيا لأن صوت الفانتازيا عالٍ، وليست واقعاً صلباً. وتفاصيل الدفن المسيحي ساعدت على تأكيد تلك الفكرة، وأيضاًَ بعض الحركات التي يؤديها “طبل” مثل ابتسامته الساخرة، عندما يخرج لسانه، أو الحركة الخفيفة من اصابع يديه. كل ذلك لأؤكد فكرة تسمو على الواقعية.
< اعتمدت في فيلمك الأول “عفاريت الأسفلت” الزمن الدائري في السرد السينمائي واقتربت منه في “جنة الشياطين”. هل لأنه انسب لموضوع فيلمك أم ثمة تجربة جديدة؟
– في “عفاريت الأسفلت” الشكل الدائري في الدراما. وهو موجود في “ألف ليلة وليلة” وليس من اختراعي. إنه أسلوب صعب لأن الدائرة رمز رياضي مجرد. فعندما تبدأ برسم دراما من لحم ودم، يهرب منك الشكل الدائري ويبتعد. لذلك لجأت الى التكرار في العلاقات الانسانية، وتكرار المواقف. ولكن في “جنة الشياطين” لم يكن هناك الشكل الدائري في الدراما. قد يكون موجوداً في بناء المشهد نفسه، لكنني لجأت الى السرد المعتاد. فالذي يهمني في المقام الأول الموقف الوجودي لا تأسيس الشخصيات في مهن ووظائف أو دراسة الناحية الاقتصادية والاجتماعية. وأكثر ما يهمني الوجود الانساني وذلك الموقف الوجودي.
< في “جنة الشياطين” اقتربت من الوجود الانساني، وفي “عفاريت الاسفلت” اقتربت من الجو الأسطوري والملحمي. هل أسلوب السرد السينمائي هو الذي يفرض شكل السيناريو ومناخه؟
– لا أفكر في ذلك اثناء الكتابة، فأنا انتقائي، أختار ما أحب بغض النظر عن أن الانتقائية قد يكون فيها بعض خلل. لكنك تقدم في النهاية توليفة من عناصر مختلفة لا تندرج تحت تصنيف معين. فقد قيل مثلاً إن في “عفاريت الأسفلت” نظرة طبيعية نظراً إلى احترام قوانين الوراثة. فالابن يرث الربو عن الأب عن الجد، ووجود علاقات إنسانية متشابكة، لكنك لا تستطيع أن تقول إنه فيلم “طبيعي”. أخذت الشكل الدائري في السرد من “ألف ليلة وليلة”، وهو شكل ساحر وجذاب ويولِّد جواً أسطورياً. ونظراً إلى أن شخصيات “عفاريت الأسفلت” كثيرة – وهذا ما تتطلبه الملحمة – هي ذات مصائر محددة وقدرية وتقع في الخطيئة ليس باختيارها، ولكن قدرياً، ومن دون تبرير أو تفسير اقتربت من جو الملحمة.
< لا نرى في أفلامك تركيزاً على الجانب الاجتماعي أو الاقتصادي للشخصيات. لماذا؟
– لا أهتم بالنواحي الاجتماعية أو الاقتصادية. فأنا في السينما لا أقدم بحثاً اجتماعياً، وأرى أن هذه اشياء اجتماعية لا فنية في المقام الأول. لذلك أركز على الموقف الوجودي أكثر من أي أمر آخر. وهناك كُتّاب قادرون على تقديم الحال الاجتماعية والاقتصادية افضل، مثل صنع الله ابراهيم، لكني لا أحب هذه الناحية ولا استطيع تقديمها.
< كيف يتم الاهتمام بقطع الأكسسوار لتوظيفها درامياً، كما حدث لسنَّي “طبل”؟
– بدت سنّا طبل أكسسواراً، وهما ليس لهما وجود في الرواية. ومع الكتابة بدأت تظهر أهميتهما، إذ جعلت منهما مواقف درامية عدة، مثل رهان طبل عليهما في القمار، وسرقة أصدقائه لهما واكتشافهم أنهما مطليتان بالذهب وليستا ذهباً حقيقياً. وهكذا. أنا أحب توظيف كل شيء في الدراما، وأحب السينما التي توظف الاكسسوار درامياً، وهذا حلم أسعى إلى تحقيق ولو أجزاء منه. لكل ما تراه على الشاشة دور درامي لا مجرد زخرفة للصورة، لذلك لا تجد في “جنة الشياطين” أي تحديد صارم للمكان أو الزمان، بل مجرد حال وجودية تحمل عندي فراغاً لأنني لا أريد أن أضع أي شيء ليس له ضرورة درامية.
< هل للاستعانة بعمل أدبي لبناء نص سينمائي قواعد؟ وإن كانت موجودة، ما هي؟
– ليس هناك قواعد، ويا للأسف. لكن هناك مقولات ثابتة تهدم في استمرار. فيقال مثلاً “إن العمل الادبي الروائي ذا الأهمية الثانوية يصنع فيلماً جيداً”، وخير مثال على ذلك هيتشكوك صاحب الافلام المشهورة التي اعتمد فيها روايات من الدرجة الثانية. لكن هناك رواية “لوليتا” الراقية جداً التي قدمها ستانلي كوبريك في فيلم رائع بالاسم نفسه. هنا هدمت القاعدة أو المقولة. وهناك مقولات أخرى كثيرة، لكن المخرجين المبدعين في حال هدم دائم للمقولات والثوابت، ثم أن لكل سينارست طريقة مختلفة في اعتماد الأعمال الأدبية، ولا بد من أن يكون هناك حافز له كي يستعين بعمل أدبي.