ربما لجأ البلكي إلى إزاحة نصه نحو مرحلة تاريخية سابقة ربما ليعطي لإبداعه الحرية الكاملة في سرد ما يعتمل في صدره، دون أن يقفز الرقيب الذي يغفو داخله ليضع له سقفا لحريته.
“طوق من مسد”، رواية تستلهم الموروث الشعبي وتتناص معه في مواضع متفرقة؛ نلمح ذلك في لغة السرد التي جاءت متواطئة تماماً مع موضوع الرواية وجوهرها، ثم في ذلك الكم من الأمثال الشعبية والحكايات، والمعتقدات. وتتجلى قيمة ذلك الاستلهام في كونه يراجع كيفية توظيف التراث الأدبي في الرواية قيد الدراسة، ويرى الباحث أن قيمة استمرار ذلك التوظيف وأهميته تنبع من كون الرواية تقوم بحفظ التراث القديم وصونه في بنياته الجديدة المعاصرة، حيث أن حُسن توظيف هذا الموروث قد ينتج تفسيرات وتأويلات جديدة تخدم النص المُستدعَى مثلما تخدم العمل الروائي، ويتم ذلك من خلال الاستشهاد به أو تضمينه وتوظيفه في النص كي يقدم تفسيرات من شأنها أن تخدم الحدث الروائي. ولا يتحقق انسجام الكيان في عالم الرواية إلا بالخروج عن واحدية الخطاب ونمط الكتابة المنفردة إلى جمالية التعدد والتنوع وحُسن توظيف النص المُستدعَى في لحظة إبداعية قادرة على صهره في وحدة الرواية، حتى يبدو للقارئ أن النص الروائي الأصلي والنصوص الداخلة عليه ما هي إلا نسيج واحد يصعب فصله.
إن هذه النصوص المستدعاة متفارقة، متباعدة في مستوى الزمن واللغة، ومن شأن هذه المسافات أن تنهض بوظيفة الإغراء بالنسبة إلى القارئ فتدفعه إلى أن يملأ فجواتها، فينخرط بفاعلية وإيجابية في إعادة إنتاج النص الروائي. إن المعتقد الشعبي الذي يستلهمه الكاتب أحيانًا أو يتناص معه في أحايين أخرى يسير في المجرى ذاته الذي تسير فيه الأحداث فلا يبدو مقحماً دخيلاً على جسد النص ويمكن أن نستشف ذلك في أماكن عديدة من الرواية نأخذ منها على سبيل المثال :
“في طريق عودتها، تجنبت أن تمر على الصغيرين وهي جُنُب، حرصها لم يرفع المكتوب. فبدون أن تدري داست على يد أحدهما…” (*)
“وبعينيها تلاحق الهاموش العائم فوقها، التارك آثاره على جسدها البض في شكل دوائر حمراء متناثرة على ذراعيها، لم يفلح ورق الكافور المصحون في إنهاء وجوده بسبب كثرة الدوائر..”(*)
“كانت الظلمةُ شديدةً، ففتح جراب الكُوبرا، فقذفت فور خروجها جوهرتها، التي أضفت على المكان ضوءًا، ولما حرر بقية الثعابين أصدرت فحيحًا قويًا، جعله يخرج من هدومه ويرقص بينهم عاريًا” (*)
“تلك الصرخات يا راضي جعلتك تدوس في العتمة، ضاربا بالخوف عرض الحائط، لتقصد الأكواخ، وصورة القطين تسبق خطوات حمارتك، بلا ذيل كانا، إشارة كانت لك وحدك تقول لك اذهب إلى زهيرة وقل لها، الحيطة والحذر” (*)
ما أوردته هنا قليل من كثير، أستطاع الكاتب أن يصُبَّه بخبرته، في وعاء الرواية ليمتزج في سهولة بمائها. إضافة إلى توظيف الأمثال الشعبية بطريقة مفارقة أحياناً، وسخرية مُرّة في أحايين أخرى؛ لتتجلى لنا خبرة الكاتب في إبراز قضيته بشكل فنيّ عماده المحور الدرامي والبنية الأدبية المصاحبة للملمح التاريخي والثقافيّ، أو قد يجمع بينهما ليبرز طبيعة الفكر الشعبي. استطاع الكاتب أن يتخلص من تفاصيل كثيرة بمهارته في التناص مع الموروث الشعبي، ومع اللغة التي انسجمت تماماً مع سلاسة سير الأحداث كأن يقول:
” من يأكل على ضرسه ينفع نفسه”، “عض قلبي ولا تعض رغيفي”، “اعلم أن الغنيّ ليس من ضرب السكين ولكن الغنيّ من أطعم المسكين يا ابن بائعة الجلَّة..”، “ذلك الموقف، جعله يوقن أن البلد مقبلة على أيام أحلك من قعور الأواني”(*)
تعرف سيزا قاسم المفارقة بكونها “الاتجاه نحو التراث من خلال استراتيجية الإحباط وخيبة الأمل من جانب، وتوظيفها بوصفها آلة تفكيك نصي عبر السخرية التي تمهد طريقا عريضاً إلى القلق والتأثر العميقين من جانب آخر”1. وقد تناص الكاتب مع عدد كبير من الأمثال الشعبية وذلك بتضمينها مع أحداث الرواية لتساير درامية الحدث وتكشف عن الصراع النفسي المتفاعل مع أحداث الموقف الدرامي، وفقا للسياق المعنوي للمثل:
“الرجل يُربط من لسانه.. وهذا الرجل وصفه القديس يوحنا عندما قال فليكن أصحابك بالألف وكاتم سرك من الألف واحداً”(*)
” قد يميل عليها أحدهم ويكاد كتفه يصطدم بكتفها، ويهمس قائلاً: يا خسارتك يا ليف من قلة تنسيلك” (*)
” هذا الوضع يتيح لبسيط رؤية إبطها القابض على نتف من الشعر الخفيف. يلمح ذلك ويقول: باب النجار مخلوع”(*)
” بيدها تهش ذبابة أستقرت على سطح الغطاء، وتهز رأسها وتقول يا فرحة ما تمت أخذها الغراب وطار” (*)
استطاع الكاتب – ببراعة- أن يُظهر لنا بيئة السرد وعاداتها وأعرافها في أسلوب سلس منساب، بلا حذلقات أو استعراض للعضلات كما جاء توظيفه للأمثال الشعبية من الروعة بمكان، حيث كشفت هذه الأمثال عن طبيعة العلاقات الاجتماعية وعراقتها وتبحرها في أعماق الواقع المصري للتعبير عن هذا الواقع بكل أزماته، والمتصل بطبيعة فكر أهله وحياتهم وأخلاقياتهم الراسخة في أعرافهم. طوق من مسد، “استأنست في صياغة رؤيتها بأنماط متعددة من المقتبسات النصية والتضمينات المرجعية التي تمازجت مع النص الأصلي وتراشحت فنهضت بوظيفة خلق التنوع والمغايرة داخل الخطاب الروائي.. وقد عمد الكاتب إلى استنبات تلك النصوص في حقل عملها الروائي مما أدى إلى توليد دلالات جديدة عمّقت تجربته وأكسبتها ثراء”2.
تعاملت اللغة في رواية ” طوق من مسد” مع طبيعة النص ورؤيته المرتبطة بالواقع الشعبي في فترة زمنية سابقة؛ فقدمت أحداثًا ذات دلالات تعبيرية أسطورية حيث ولج الكاتب إلى عالم الرواية مستخدماً تلك اللغة السردية التي استمدت مفرداتها من هذا العالم ولنأخذ مثلاً واحداً للتدليل على ذلك: “وبعد أن أتت الأفواه على مكونات السماط، قامت الأجساد بكسل الشبع إلى المكان المعد لغسل الأيدي، الواقف عند الكاشف، والذي راح يعطي كل من ينتهي من غسل يديه صُرة بها نصيبه مقدمًا من الفِردة التي يضاف ما يأخذونه عليها..” (*). إن تعدد الشخصيات في الرواية أدى إلى إيجاد بنية لغوية ذات مستويات متعددة ودلالة واسعة، حيث جاءت اللغة مُعبرة عن سلوك وانفعال الشخصيات، مما يمنح المتلقي مساحة واسعة لمعايشة زمن وأحداث الرواية. طوق من مسد لكاتبها الجميل ” مصطفى البلكي”؛ رواية جذابة، تخبز عالمها من طين الأرض ومن أجساد البسطاء.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) مقاطع متفرقة من الرواية.
د. معجب العدواني- موقع جريدة الرياض على شبكة الانترنت.
إبراهيم درغوثي. موقع ديوان العرب