د. جمال فودة
يعد الوقوف على مصادر تشكيل الصورة الشعرية أمراً مهماً في تفسير دلالتها الإيحائية ب، إذ تكشف عن طبيعة نظرة الشاعر للواقع وأنماط استلهامه لهذا المصادر، وأبعاد المثل الجمالية التي يتغياها من وراء التعبير التصويري، فضلاً عن دورها في فض مغاليق النص الإبداعي من خلال “تحديد المثل التي تعتبر وافية الدلالة على حقائق الأشياء في كلام الشاعر، وتعيين الموازين الثابتة التي يقيس بها قيمها لمحاولة ضبط موقف الشاعر من الحياة، والتعرف على الصورة المثلى التي يقدرها لحقائقها، فدراسة مصادر التصوير لا تكشف الأصول الجمالية العامة التي ترتبط بها الحقائق الموصوفة بقدر ما تكشف عن المثل الجمالية ومدى استغلال الشاعر لطبيعة اللغة الشعرية”. (1)
وقد تنوعت مصادر تشكيل الصورة في الشعر العربي المعاصر تنوعاً ملحوظاً، وإن ظلت – رغم تنوعها – تدور في إطارين متشعبين، تتبلور خلالها جزئياتها وتتفاعل دلالاتها في بنية النص الشعري.
أولهما: المصادر التجريبية:
ونعني بالمصادر التجريبية ما جربه الإنسان بحاسته بمقتضى ملازمته له ووجوده في محيطه، وما يُحتمل أو يُرجح أنه جربه بمقتضى معاصرته له ووجوده في بيئته، وكذلك ما لم نتأكد من تجريب الشاعر إياه، أو نشك في تجربته، ونعتبره مع ذلك ممكن التجريب قابلاً أن يقع في طريقه، وتشترك الصور المنتزعة من المصادر التجريبية في شيء آخر هو حلولها في ذهن الشاعر بفضل الطبيعة لا بفضل الثقافة.
ومن ثم، فإن المصادر التجريبية تستقطب في دائرتها الطبيعة، ذلك العالم الذى يعيش فيه الشاعر، والطبيعة إما جامدة – تشمل كل ما ليس فيه شعور -، وإما حية متحركة تشمل عالم الطير والحيوان، ذلك العالم الذى يعد من لبنات القصيدة العربية والذى ساهم في إثراء بنية النص الشعري.
وغالباً ما نجد في كل صورة شعرية لقطة من الطبيعة، حتى لو كانت هذه الصورة قائمة على التناقض والعبث بقوانين الطبيعة، فهذا العبث دليل على وجود الصورة في وضع خاص ذي دلالة نفسية خاصة.
والطبيعة في الصورة الشعرية ليست خلفية للتجربة النفسية أو العاطفية، أو أداة لانتزاع صور بيانية مستمدة من عناصرها، بل هي خطوط وألوان أساسية في الصورة الفنية تمتزج بخطوط الموضوع النفسي امتزاجاً كاملاً، حيث يحس الشاعر بالطبيعة إحساساً عميقاً جارفاً يخالط دمه ويسري في عروقه، فإذا بحواسه متنبهة، وإذا بمشاعره متأججة بومضات نفسية وشعورية تذكي قريحته الإبداعية.
ثانياً: المصادر الثقافية:
وتشمل رصيد الشاعر الفكري وموروثه الثقافي، وتتبع هذه المصادر يكشف لنا عن جانب مهم من تكوين الشاعر الفني، ويقف بنا على مرامي النص الخلفية، فضلاً عما تحمله هذه المصادر من دلالات وإيحاءات تثري دلالة التجربة من خلال تحاور الماضي مع الحاضر ؛ ذلك أن العمل الإبداعي لا يأتي من فراغ وإنما لابد له من جذور وروافد تغذي بنيته.
والباحث في الشعر العربي المعاصر يجد كما هائلاً من الصور الشعرية المستقاة من نبع المصادر التراثية بكل ما تضمه من دلالات وأجواء ومواقف معبرة، حيث جاء توظيف هذه المصادر واستلهام خصوصيتها من خلال فهم واع ٍ ورؤية ثاقبة تحمل مضمونا ً فكرياً وتبلور موقفاً اجتماعياً أو ذاتياً في إطار صورة رمزية موحية.
إن استخدام الشاعر لهذه المصادر الثقافية في تشكيل صوره الشعرية “يكسب شعره العمق والثراء، وذلك عندما يحرك فكر القارئ ووجدانه، ويثير في ذهنه الأجواء التراثية ملتحمة بالتجربة الحديثة ومتعانقة معها، فضلاً عن استقطاب حواس المتلقي الذى يثيره لمس جذوره، كما أن استخدام هذه المصادر ينقذ الصورة من السقوط في فخاخ النثرية والتقريرية، وذلك حين يصبح لها أكثر من بعد تُدرك من خلاله، إضافة إلى أن هذه الرموز تنأى بالتجربة عن البوح والتدفق”. (2)
وهكذا تتشكل الصورة بأدوات فنية متنوعة، تتفاعل مع غيرها من العناصر لتكوين الشكل الفني العام، من خلال علاقات خفية ينشئها خيال الشاعر بماله من قدرة سحرية على مزج الأشياء المتباعدة والمتنافرة في بوتقة التجربة الشعرية لتصبح مجموعاً متآلفاً، حيث “يفكك العالم كله و يجمع أجزاءه وينظمها، ويخلق منها عالماً جديداً بمقتضى قوانين تنبعث من أعماق النفس”. (3)
ويلجأ الشاعر إلى استخدام الخيال كوسيلة لارتياد عوالم جديدة والتأليف بين ما فيها من متناقضات من خلال استشعار الوحدة النفسية الكامنة وراء هذه المتناقضات، حيث يضفي الشاعر من ذاته وشعوره على الأشياء، فتصبح حية نابضة تشاركه تجربته، ومن ثم يتوقف جمال الصورة على سعة خيال الشاعر وبعد مداه وقدرته على استثارة المخزون النفسي من المشاعر لدى المتلقي.
فالخيال ـ إذن ـ هو “القوة القادرة على الخلق والتوحد، فهذه الأجزاء المتفرقة في الطبيعة لا ينقلها الشاعر كما هي، ولا يهدف بفنه إلى الربط فيما بينها تحت مقولة عقلية أو فكرة منطقية واحدة، ولا يقصد إلى تحقيق فكرته واقعياً بتصويرها، وإنما يقصد إلى جعل عمله الفني أو لوحته الفنية التي تستمد أجزاؤها من الطبيعة موضوعية بتصويرها، إذ يعيش الشاعر الموضوع بكل وجدانه، ويخلع عليه عاطفته ويستغرق في تأمله، ثم ينتهى إلى حقيقة جوهرية تنكشف له فيه، ثم ينتج عن هذا كله رسم صورة متخيلة في مجموعها تتحقق الوحدة الحيوية الكامنة وراء هذه الجزئيات، ولا يتأتى ذلك كله إلا من التحام الذات بالموضوع”. (4)
ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ
(1) محمد الهادى الطرابلسى: مـصـادر التصوير قي شعر ابن زيـدون. مركــز الـدراسات الاقتصادية والاجتماعية. تونس. 1979م. ص 110
(2) أحمد عبد الحي: شعر صلاح عبد الصبور الغنائي ” الموقف والأداة “. الهيئة المصرية العامة للكتاب.القاهرة.1988 م 0ص289
(3) عبد الغفار مكاوى: ثورة الشعر الحديث.الهيئة المصرية العامة للكتاب. الـقـاهـــرة. 1972م. ص 96، 97
(4) محمد زكى العشماوى: قضايا النقد الأدبي بين القديم والحديث. الطبعة الأولى. دار الشروق.القاهرة. 1994 م ص 79، 80