محمد عبد الحافظ ناصف
محمد جبريل أحد أهم الروائيين المصريين الذين رحلوا عن عالمنا فى 29 يناير 2025 تاركا إرثا أدبيا كبيرا فى كل المجالات؛ قصة، رواية، دراسات أدبية، مقالات نقدية، أدب طفل، وتراجم لشخصيات أثرت فى الثقافة المصرية بشكل لافت علاوة على عمله الصحفى ونشاطه الثقافى الكبير، ولد جبريل بالإسكندرية وعمل بالصحافة بجريدتى الجمهورية والمساء بدار التحرير للطبع والنشر، اختير نائبا لرئيس اتحاد كتاب مصر فترة رئاسة الشاعر فاروق شوشة، صدر له 44 رواية بداية من الأسوار مرورا برباعية بحرى وقلعة الجبل والأسوار ومن أوراق أبى الطيب المتنبى وغواية الإسكندر والشاطئ الآخر، و13 مجموعة قصصية، وثلاثة كتب فى السيرة الذاتية، و16 كتابًا فى الدراسات الأدبية، حصل على جائزة الدولة عن كتابه النقدى الأهم «مصر فى قصص كتابها المعاصرين» الجزء الأول ثم صدر فى ثلاثة أجزاء، كما حصل على جائزة التميز من اتحاد الكتاب، وحصل مؤخرا على جائزة الدولة التقديرية فى الآداب ومرشحا لجائزة النيل فى الآداب لهذا العام من أتيليه القاهرة. ربما أكون من أكثر القراء لأعمال الروائى محمد جبريل الروائية والقصصية والنقدية والتسجيلية، منذ ما يقرب من ثلاثين عاما، منذ التقطت مجموعته القصصية «هل» من أمام كلية التربية القديمة بطنطا ومنذ أن ارتبطت مجموعة أدباء المحلة الكبرى من الثمانينيات والتسعينيات بعلاقة تقترب من الأبوة ولا تقل عن الصداقة الحميمة التى تقوم على الموضوعية، جميعنا يتذكر للرجل وقوفه مع جيلنا فى الأقاليم والقاهرة وما قدمه لنا فى ندوته الأسبوعية وفى صفحة شباب الأدب كل أحد وجمعة ومن بعدها صفحة قضايا أدبية حتى اليوم، ظلت علاقتى به ممتدة لم تنقطع حتى أخر يوم يطمئن فيها على روايته الأخيرة بيت الرمل التى صدرت عن قصور الثقافة وتم ارسالها للمعرض فى يوم الدفنة، كان حريصا على نشر إبداعه حرصه على الحياة لأنها الكتابة كانت بالنسبة له هى الحياة، أكد طالبا منى قبل موته بيوم واحد ارسالها له فى أقرب وقت فى بيته بمصر الجديدة، تواصلت مع المهندس رزق عبد السميع رئيس مجلس إدارة دار المعارف لكى ينتهوا منها فى أسرع وقت ونفذ وعده لكن القدر لم يمهل جبريل رؤيتها فى الحياة لكنها حتما رآها بعد أن صار بصره اليوم حديد.
رغم الفراق إلا أننى سعدت بإلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليه كابن يسمحوا له أن يرى والده لأخر مرة وأن يقبله ويحمله ويلمس جسده الطاهر قبل أن يسجى للأبد فى مستقره الأخير، شعرت وقتها أننى الأخير المحظوظ والمفجوع من أبناء جيلى فى المحلة الذى كتب له أن يودع أبا لجيل من الراحلين الشباب والشيوخ مثل فريد معوض وجمال عساكر وايهاب الوردانى ونشأت الشريف ومتولى الشافعى.. يا لله كلهم رحلوا قبل الأب وأنا الصديق الأصغر الأخير الباقى فى هذه الدنيا يتجرع وحده مرارتها، لو كان معى فريد معوض وجمال عساكر وإيهاب الوردانى لكنا بالطبع أمام بيته أو وقوفا على غسله لكننى كنت وحيدا ولا أحد فى لحظة يجب أن نكون جميعا بجواره، ما أقسى الحياة حين يرحل عنك المحبين والأصدقاء!!
صدر للأستاذ جبريل فى الفترة الأخيرة عدة روايات قرأت بعضها منها «مقصدى البوح لا الشكوى» ورواية «حكايات الفصول الأربعة» و«أحمد أنيس.. ظلى الضائع»
وأرى أن محمد جبريل مشروعا أدبيا كبيرا قائما على فلسفة حياة ظل متمسكا بها حتى أخر لحظة من عمره، فقد كان يؤكد دائما أن ما يغيب عن إبداعاتنا الفلسفة المتكاملة، فلسفة الحياة التى تستطيع أن تربط الأفكار بالانطباعات. فعدد كبير من الروائيين يرون أن العمل الإبداعى يجب أن يقتصر على المتعة، على تحقيقها، واستثارة اهتمام القارئ ومتابعته، ومشاعره. حيادية الإبداع مسألة يصعب تقبّلها. ثمة مبدعون يعتزون بحيادية إبداعاتهم، وهـو قول ينطوى – فى تقديره – على قدر من المبالغة، أو من النية الحسنة. ويرى جبريل أن المبدع يجب أن يكـون منحازًا لقيمة، أو لقضية، أو لقيم، أو لجماعة. وهذا الانحياز يبين عن نفسه على نحو ما فى مجموع أعمال المبدع، وهو ما يسميه بفلسفة الحياة، والمقاومة – بصوت هامس ما أمكن – هى ما يسعى لأن تعبر عنه فلسفته الحياتية. وبالطبع، فإن الفكرة الفلسفية تصبح – فى اللحظة التى تدخل فيها إلى العمل الفنى – خاضعة لقوانين العمل الفنى، وليس قوانين العمل الفلسفى.
تتميز معظم روايات محمد جبريل باستلهام التراث برؤية خاصة لها فلسفة ومنطق يختلف عن كثيرين فى تناول التاريخ والتراث؛ بحيث تتحرك الكتابة الروائية عنده على مستويين حين تتناول التراث والتاريخ؛ مستوى الماضى ومستوى الحاضر، كل منهما يستشف من خلال الآخر روحا ما ويضيف إليه، مستوى الوقائع ومستوى الرمز الذى يطرحه ليؤكد فكرة ما، بينما يستلهم فى سيرته الروائية عن الإسكندرية الشعبية ممثلة فى حى بحرى التى عاشها طفلًا، وأبدعها أدبيًا، فضلًا عن انشغالاته الاجتماعية والنفسية والفلسفية، واجتماع الأبعاد الواقعية والشعرية والصوفية فى ما يطلق عليه الواقعية الروحية، والجمع بين الكتابة القصصية وعلم الاجتماع الأدبى والصحافة فى دراساته.
وقد أكد على ذلك عدد من النقاد المصريين والعرب مثل د. على الراعى الذى قال عن روايته «الشاطئ الآخر» بأنها خفيفة الوطء، حافلة بالمعنى، ضاربة فى التراث، راسخة القدم فى أرض الواقع، الكل فى رواية محمد جبريل الحافلة يسعى إلى بلوغ الشاطئ الآخر، ومن ثم عنوانها، هذه رواية تجمع فى اقتدار بين الرومانسية والواقعية فى اتزان فنى جميل. وعن روايته «مد الموج» كتب د. عبد الرحمن تبرماسين (الجزائر) أن جماليات المكان عند جبريل لا تدل على الثبات، بل تدل على جغرافية متحركة، متقنة الرسم من قبل المبدع الذى ينقلك من حارة إلى أخرى عبر أزمنة وشوارع لها بعدها التاريخى والزمانى، ولها هالة حضارية تتفاعل فيها عواملها الثقافية المختلفة. وعن روايته «كوب شاى بالحليب» كتب د. ماهر شفيق فريد: لا حاجة بى ولا بغيرى إلى أن أنوه بما تنم عليه هذه الرواية القصيرة من دلائل القدرة الفنية الفائقة، فهى مما يعرفه كل قارئ تابع مسيرة جبريل. إنه يجمع بين كثافة النسيج الواقعى ورهافة الجمالى الذى يستخدم الرمز والصورة والمجاز بقصد وحساب، وهو من القلائل الذين برأ عملهم من الحشو والتزيد، فكل كلمة فيه موظفة توظيفًا دقيقًا، تقع فى موقعها الصحيح، لا تقبل تقديمًا ولا تأخيرًا، لا إضافة ولا حذفًا، لأنها ثمرة اختيار صارم وتأمل متدبر وحس مرهف وتوازن يكاد يكون كلاسيكيًا فى صفائه ونقاوته. وعن روايته «زمان الوصل» كتب د. عبد المجيد زراقط (لبنان) إن الأنا حين يعانى الغربة فى الوطن، أى عندما يشعر بالفقد، يخرج ليعوضه، ويسعى ليبحث عن الوطن فى الغربة، وقد يجده، وعندما يجده يشعر بفقد آخر، فيعود ليعوضه، وهكذا فى حلقة تدور، وليس فيها من زمان وصل دائم، ما يطرح سؤالًا حضاريًا كبيرًا: لم لا يكون فى هذا العالم مكان يدوم فيه زمان الوصل، أى لم لا يكون فى هذه الدنيا وطن لا يشعر فيه الإنسان، أيًا يكن، بالغربة؟ وعن كتاب «البطل فى الوجدان الشعبى» كتب د. فاخر صالح (سوريا): يقدم لنا جبريل لوحة للوعى الإنسانى نحو تلك الأحقاب الزمنية التى لا تزال معلوماتنا عنها محدودة إلى حد ما، عندما كانت حياة الإنسان شديدة الخضوع للتراب والأرض، ملتصقًا بالقيم، يدرك جواهر الأشياء، ولهذا كانت الأرض بالنسبة للبطل فى الوجدان الشعبى بمثابة الأم الولود التى ينطلق منها كل شىء. وعن روايته «نجم وحيد فى الأفق» كتب د. خالد عباس: إنها رواية الداخل، استكناه النفس البشرية وعوالم الميتافيزيقا، لا رواية الخارج المحصور فى الحدث الواقعى، فالروية تنفلت من إسار الحبكة التقليدية، وتنفلت إلى عالم تأملى فلسفى صوفى، يتجاوز قضايا الهم اليومى، وترتكز بنية الرواية على شاعرية اللغة وشفافيتها، وتتكئ خصوصًا على الصورة والإيقاع والرمز. ويرى د. حلمى القاعود أن رواية محمد جبريل «زهرة الصباح» حلقة جديدة من حلقات البحث عن الأمل، والحلم بالنجاة من خلال إقامة العدالة والمساواة والرحمة، ورفض الشر والقسوة والانتقام الأعمى، ليعيش الناس فى أمن وسلام وطمأنينة. وكتب د. حامد أبو أحمد عن رواية «إمام آخر الزمان»: إنها تحطم الأصول التقليدية المعروفة لفن الرواية، كى تقدم رواية جديدة ذات طابع عربى إسلامى خالص. وكتب د. جاك جومييه (فرنسا): إذا أردنا أن نقيّم فن محمد جبريل، علينا أن نركز على تكنيكه الذى يثير من خلاله القضايا التى أصبحت تتناولها السينما بكثرة، والتى تبرز من خلالها قضية التعبير عن القيم السيكولوجية غير المباشرة، وذلك بأن تتكلم المواقف دون حاجة إلى العبارات. وعن كتاب «مصر فى قصص كتابها المعاصرين» كتب د. رفعت السعيد: نحن جميعًا نحاول، لكننا ومهما فعلنا، لا نستطيع أن ننظر إلى مصر إلا بعين واحدة، عين المؤرخ، أو الكاتب، أو الشاعر، أو الجغرافى، أو السياسى، غير أن واحدًا منا وصل إلى حالة الكشف وتجاسر ونظر إليها بعينيه، محمد جبريل حملق فى وجه مصر، وتجرأ فنظر إليها بعينين اثنتين، عين الأديب وعين المؤرخ، فما أروع هذه الرؤية.
وهكذا نرى تعدد الرؤى النقدية الفاحصة والدارسة المتعمقة لأعمال محمد جبريل المتعددة؛ قصة قصيرة ورواية ودراسات أدبية وسير ذاتية لكشف كل شىء داخل هذا المشروع الإبداعى الكبير الذى تعدى الستين كتابا، أسهم بها للمكتبة العربية وسوف أتناول تلك الرؤية لقامة محمد جبريل من خلال التعمق فى عدد من الأعمال والروايات والقصص والسير الذاتية التى شكلت بعضا من ملامح مشروع جبريل الكبير على مدار عقود.