حسن عبدالموجود
العمل منح الكاتبة الإماراتية مريم الساعدى كثيراً من الحكايات. وإحداها جمعتها بزميل سودانى كان مستشاراً فى قسم الموارد البشرية. كانت تشرب قهوتها في مكتبه وتناقشه فى بعض الأمور، وتحب الاستماع إلى حكاياته. كان يخرج إلى الشارع ليدخّن أحياناً، إذ أن التدخين ممنوع داخل أروقة شركة النقل والمواصلات التى يعملان بها، وكانت تراه من شرفتها لكنها لاحظت أنه لا يقف فى الخارج إطلاقاً منذ فترة، وسألته عن السبب، فأخبرها أنه توقف عن التدخين، فسألته باندهاش، وربما بقلق: «ليه؟!» فقال لها: «أنا عندى خمسة وستين سنة، وعايز أحافظ على صحتى، فبطّلت من شهر تقريباً» وعادت لتسأله: «انت بقالك قد إيه بتدخن أصلاً؟!» فقال: «أربعين سنة!» وسألته مجدداً: «طب انت تعبت؟! عمرك اشتكيت بسبب التدخين؟!»، فقال باندهاش: «تخيلى أبداً، عمرى ما اشتكيت بسبب التدخين، عمرى ما مريت بأزمة صحية، أنا مدخلتش أبداً أى مستشفى!» فقالت بحكمة: «طب انت جاى آخر عمرك تبطل التدخين؟! مش انت كنت بتتبسط منه؟!» فقال: «أيوه طبعاً بيكيّفنى خالص» فقالت: «يبقى متسبش حاجة عمرها ما آذتك أبداً يا أخى!» فقال بحماس واقتناع: «والله معاكى حق!» ثم خرجا معاً إلى الشارع، واستمتعت بمشاهدته يشعل أول سيجارة معلناً عودته إلى التدخين!
ليست هذه هى الحكاية الوحيدة لدى صاحبة «مريم والحظ السعيد» و«أبدو ذكية» و«نوارس تشى جيفارا» و«مملكة النحل في رأسى». ذات صباح سأل موظف مصرى عن مكتبها، وجاء إليها وسألها: «انتى مريم الساعدى؟!» فقالت: «أيوه أهلاً وسهلاً»، فأخبرها أنه يعمل فى قسم المالية، وأنه يتابعها ويقرأ لها، وسعيد لأنه يعمل معها فى نفس الشركة. تقول: «وجدته يتابعنى بشكل مدهش، منذ نصوصى الأولى التى كنت أنشرها فى موقع القصة العربية، قبل حتى أن يجمعها كتاب. كان يتذكر كل شىء، أحداث القصص ذاتها، وحتى تعليقات القراء حولها. أصبحنا أصدقاء بسرعة. كان أمراً مبهراً بالنسبة لى أن يتابعنى شخص من خارج دوائر الكتابة، وهذا ما ما جعلنى أشعر فى لحظة أن بإمكانى الوصول إلى الناس. أصبح هو العين التى تقرأنى، ولهذا أتحمّل منه أى ملاحظة، بل إننى كنت أعطيه مقالاتى التى أنشرها بجريدة الاتحاد، وكذلك قصصى ليراجعها، وكانت تطيب له مطابقة شخصيات أعمالى بزملاء العمل، إذ أننى أستقى شخصياتى من الواقع، والواقع بالنسبة لى هو العمل. كان يضحك، ويعطينى مؤشراً على مدى نجاحى فى نقل ملامح رجل أو امرأة، كما أنه شاهد نفسه فى أكثر من نص، جاء إلىّ مرة وقال بينما يضحك: بقى انتى شايفانى كده؟!». وتضيف: «غادر الشركة، وكانت لحظة وداعه صعبة. لا زلنا نتواصل، لكنه بعيد طبعاً، كما أن عمله الجديد يلتهم معظم وقته، لكنه يظل طول الوقت علامة على أشخاص يرسلهم لنا الله فى لحظة صعبة، لحظة إحباط وكآبة، ليبددوا شيئاً من العتمة. لقد حدث هذا منذ أسبوع أيضاً. جاءتنى موظفة جديدة، فتاة جميلة، وسألت عن مكتبى بعد نقله إلى مكان آخر من الشركة، وسألتنى نفس سؤال الموظف المصرى، انت مريم الساعدى؟! أنا أقرأ لك وأتابعك جيداً، وهكذا شعرت بأن الحياة كما تكرر إحباطاتها فإنها كذلك تكرر منحنا لحظات الآمال العظيمة».
منذ سنوات تبدو بعيدة كانت مريم، كلما دخلت مكتبها الصغير، تقول فى نفسها: «الحمدالله على نعمة العمل، لأنها توفر نعمة الاستقلال المادى على الأقل». كانت لديها آمال كبيرة بخصوص تحقيق الذات فى وظيفة تستثمر قدراتها وتقدّر إمكانياتها، لكن كبرت وأدركت مع الوقت، بعد أن تجاوزت مرحلة الشغف الساذج، كما تقول، أن الارتقاء فى السلم الوظيفى يستلزم مهارات أخرى غير الإمكانيات الشخصية فى إنجاز العمل. تعلق: «يستلزم مهارات التزلف والتسلق والكثير من غض النظر، وأنا شخص لم يمتلك أياً من هذه المهارات يوماً، بالعكس لطالما كانت صراحتى المفرطة سبباً فى فقدانى لمكاسب كثيرة حظى بها غيرى بكل بساطة. حاولت فى فترة لاحقة تعلم هذه المهارات، وكنت أحياناً أجرّب نفسى فأطرى المدير على فكرة ساذجة طرحها، لكن أذهب إلى البيت وأنا أشعر بأنى صغيرة جداً، وضئيلة جداً رغم طولى الفارع، ثم قررت أن أسوأ شىء يمكن أن يحصل للمرء هو أن يكون صغيراً فى عين نفسه، فتوقفت عن محاولة اللحاق بقطار التزلف الذى فاتنى وانتهى الأمر».
أصبحت الوظيفة، بالنسبة لها، مجرد نظام حضور وانصراف: «أنهض صباحاً فى وقت محدد يومياً وأبدأ العمل بعد بصمة الحضور، أقضى ثمانى ساعات دون القيام بأى عمل يُذكر، ثم أختم يوم الوظيفة ببصمة الانصراف. كثيراً ما رأيت فى أحلامى أننى أقطع إبهام بصمتى وأتركه لهم، فهو كل ما يهمهم، ولا شىء آخر من قمة رأسى لأخمص قدمى يعنيهم. لا يعنيهم عقلى، ولا فكرى، ولا ماذا يمكن أن أقدمه للعمل، ولو اقترحت أفكاراً للتطوير لا يهتمون بها، بل قد يعتبرها المسؤول المباشر تهديداً لمكانته، فكيف تخطر فكرة لشخص آخر سواه؟ وهكذا تسير رحى الوظيفة فى تكريس بيروقراطية تنادى الواجهة الرسمية بمحاربتها».
تنفست مريم دوماً من خلال الكتابة، رغم أنها مقلة جداً فيها، لكن مجرد إحساسها بأنها كاتبة، وليست مجرد موظفة روتينية تثبت الحضور والانصراف ببصمة من إبهامها، كان كافياً كى يشعرها بأنها ليست كمّاً مهملاً، أو وجوداً فائضاً عن حاجة المؤسسة. أنها إنسان مفكر، شخص مهم لذاتها. تقول: «لدى مهمة فى مجال الفكر والأدب والثقافة، حتى وإن ضايقت آرائى فى هذا المجال المختصين. اكتشف دوماً أن الحقائق تضايق الكثير من الناس، الناس لا يريدون أن يعرفوا الحقيقة، يريدون فقط من يخبرهم أن كل شىء ممتاز ويسير على أفضل وجه، هكذا يستمرئون الاتكاء على عروشهم الوهمية دون قلق من مسؤولية التقصير».
عملها الحالى فى مجال العلاقات العامة، فى مؤسسة لا علاقة لها بالفكر والثقافة، حاولت كثيراً الحصول على وظيفة فى مجال يتعلق بالكتابة لكن دون جدوى: «أحالوا السبب دوماً للشاغر الوظيفى غير المتاح، ربما هذا صحيح. وربما لأنى أكثر وضوحاً من أن يحتملنى هيكل متذبذب بين الإرادة الثقافية والتخوف على المكتسبات الشخصية». وتضيف «لو نحيّنا جانباً كل المعارك الإدارية الصغيرة التى لا أجيد خوضها وأترفع عنها كموظفة ترفّع الصقر عن الجيفة، إلا أنى أستغلها ككاتبة مادة خصبة لنصوصى ومقالاتى. تظل الوظيفة روتيناً جيداً للكاتب العشوائى. فكرة الالتزام بجدول يومى ثابت للاستيقاظ والنوم يجعل الوقت نظامياً أكثر، صحيح أنى تمردت كثيراً على هذا الروتين، لكن وجوده هناك كحقيقة ثابتة مطمئن، كذلك اللقاءات المحتملة مع الناس فى العمل، الاحتكاك بالآخرين، فنجان القهوة اليومى كطقس من طقوس الحياة، وتلك الشجرة فى الخارج التى أتأملها يومياً من نافذة مكتبى، أرى فيها أيامى الذاهبة، وسيلان وقتى، ومشاعرى التى لا يقدّرها أحد فى المكان، لكن لها صدى طيب فى أماكن أخرى كثيرة مهدّتها نعمة الكتابة».
مريم خريجة قسم الأدب الإنجليزى، كانت تحب لو أنها تخصصت فى الإعلام أو القانون، لكنها كفت عن التفكير هكذا، إذ أنها شخصية، كما ترى نفسها، حساسة جداً تجاه الواقع: «الواقع كان يجرحنى، الضوء والضوضاء، وكل تلك الضجة فى الخارج، فى المجال العام، كان وقعها ثقيلاً على روحى، وكنت لذلك ممتعضة، لكنى تعلمت التخلص من الامتعاض الآن. أردت دوماً أشياء حقيقية بشدة، صادقة بنصاعة، لكن هذا لم يكن واقعياً فى أرض الواقع. لذلك هربت إلى دراسة الأدب. فى الأدب خيمة ظليلة لروح الكاتب الهشة. تخرجت ببساطة وثقة، قلت سيستقبلنى العالم برحابة صدر، لكن لم يستقبلنى أحد. اكتشفت أن العالم يريد أشخاصاً يمتلكون علاقات اجتماعية ذات نفوذ وفقاَ لمبدأ الشللية، وشبكة علاقاتى كانت تتكون من فكتور هوجو ومارجريت ميتشل وهمنجواى وجين أوستن وشارلوت وإيميلى برونتى وتشارلز ديكنز وتولستوى ودستويفسكى وطه حسين وتوفيق الحكيم وكلهم أشخاص أموات. فمن يهتم لشبكة علاقات عامة من الأموات؟ العلاقات الحية تحتاج أشخاصاً يحتملونك، وليس من السهل احتمال كاتب يقول الحقيقة دوماً. الناس تريد أن تنام، دعهم هكذا. دخلت فى النوم كثيراً أنا نفسى ولكن مع نفسى. النوم الوحيد، هرباً من نوم الجماعة. لذلك لم أكتب كثيراً، أحاول الآن استغلال فراغ الوظيفة لتكثيف الكتابة، أى: أكبّر دماغى، باللهجة المصرية الدارجة، وأضع رأسى فى الكتابة وكفى. بالتأكيد هذا عمل يحتاج طاقة وتركيزاً، والتركيز يحتاج تدريباً، والتدريب يحتاج صبراً، والصبر يحتاج تضرعاً إلى السماء. يا مُسهّل».
وتقول: «أنا ممتلئة بالحب، لا أريد لمن يقرأ حوارنا أن يعتقد أنى عرفت الكراهية. الناس يسيئون الفهم كثيراً، ويقفزون سريعاً للأحكام المسبقة ويستريحون لتصنيفك فى إطار معين دون عناء التعرف عليك عن قرب ومحاولة فهمك. يظنون لمن يشير إلى خلل ما أنه ينتقد بدافع كراهية لا اهتمام. أنا كنت أمتعض فقط. تخلصت تماماً من الامتعاض الآن. هذا يغسل المرارات. تعلمت أن أحوّل الامتعاض إلى شفقة، وهكذا حين تشفق على البشرية تستوعبها، تصير مثل أم، والكاتب فى المجمل (أم) حتى الكتّاب الذكور. الأم فى مفهومها الأشمل؛ مثل (الأرض الأم) أى الاحتواء والتسامح والحرص والاهتمام والحب والرعاية رغم كل العقوق. الكاتب لا يمكن أن يكون إلا كذلك، حين يحاول أن يحوّر ذاته لتندمج فى الإطار المجتمعى يشعر بالغربة. غربة الكاتب عن ذاته سيئة، موجعة، هو غريب فى كل الأحوال، لكن هذه أسوأ أحوال الغربة».
وهى ترى أن «الإنسان عبد لعاداته» ولذلك تشتاق لروتين الوظيفة لو حصل لها ظرف وابتعدت فترة، تشتاق للمرات التى تسير فيها بخطواتها البطيئة تجاه مكتبها، وللأبواب الثقيلة التى تدفعها بعد كل ممر، لصوت المصاعد فى اتجاهها للطابق الثانى حيث القسم الذى تعمل به، تشتاق لتحية الصباح من زملاء ينتمون إلى مختلف الجنسيات. كانت الوظيفة دوماً مكاناً ملائماً للاقتراب من الآخر دون سوء فهم، تعرفت على أشخاص من ثقافات مختلفة، واقتربتْ منهم إنسانياً، كانت محاوراتها معهم هى أفضل ما يحصل فى اليوم. أسألها لماذا تتحدث بصيغة الماضى؟ فتقول: «لأن الوضع تغير الآن، فى تجديد إدارى كبير رحل الكثير من الأشخاص، وقفت هناك على الرصيف مودعة، أقول لقد كان لنا هنا أصدقاء».
تحكى: «اليوم أتصادق مع الأشجار التى تحيط بمقر العمل، وبعضها مزهر، أتأمل تلك الزهور كثيراً، أتحدث معها وأنا أحمل كوب قهوتى الكارتونى، أخبرها أن موقعها على غصن الشجرة جيد وأن عليها ألاّ تتذمر من ذلك وتطالب بالتحرر فقد تسقط أرضاً وتدهسها الأقدام دون أن ينحنى أحد ليقدّر جمالها، ولن تكون هذه نهاية سعيدة لزهرة. كنت أتصادق مع نادل المقهى فى مقر العمل، وسعاة المكتب، لكن توقفت عن ذلك لأنهم سريعاً ما يرحلون، وأنا يؤلمنى الرحيل، رحيل أصدقائى. ربما على المرء أن يكتفى بمصادقة الورد والشجر ليجنب نفسه الخوض فى سيرة الرحيل».
وتقول: «مؤخراً افتُتح مخبز صغير فى المدخل، وهكذا أصبحت رائحة المخبوزات الطازجة تنتشر فى أرجاء المكان وتستقبلك بمجرد أن تخطو إلى داخل المبنى المكون من تسعة طوابق. أنا أعشق الخبز، وكثيراً ما قلت لأصدقائى: لو كان الخبز رجلاً لتزوجته. والآن فى كل صباح صار لدىّ هدف أسمى أستيقظ لأجله، إذ أن رائحة الخبز الطازج تنتظرنى هناك، فى مدخل العمل».