مرزوق الحلبي: أثق بالشعر وصفائه ولغته وجماليّته في الدفاع عن “فكرة المدينة الفاضلة”

marzouq
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

أجرى الحوار بروفيسور باسيليوس بواردي*

يعود مرزوق الحلبي إلى قرّائه في العالم العربيّ من محبّي الشعر الباحثين عن الإبداع والفكر والجماليّ والمُدهش، وسط صخب المنشور والمبثوث والمصوَّر، من خلال مؤلّفه الشعريّ الثاني الجامع “الطريق إلى الآخرة”. وهو ثمرة مشروعه الشعريّ في السنوات الخمس الأخيرة ونتاج فعل انتقاء انتهى إلى 400 صفحة في إصدار أنيق الطبعة والتصميم، تزيّنه لوحة ذات دلالات تشتبك بعنوان المؤلَّف من إبداع الفنان السوريّ أيمن الحلبيّ.

يتوزّع المؤلّف على ثمانية أبواب متنوّعة تشكّل عتبات عالية لنصوص متنوّعة في أسلوبها وطولها ومواضيعها ولونها الشعريّ. وهي نصوص تقوم على التجريب وعلى بُنية متغيّرة للقصيدة في شكلها ومضمونها وتيماتها، قد تقصر أو تطول، وقد تقوم على الخطف أو الامتداد الملحميّ أو رسم المشاهد أو السرد. إنه شعر تجريبيّ فيه جرأة تذكّر بشعراء كسروا المألوف وابتعدوا في شعرهم وأخذوه واللغةَ إلى مواضع أعلى من الإبداع والمعنى.

لا يترك الشاعر موضوعًا لا يشتبك معه لإيمانه، كما يقول في المقابلة، بأنّ وظائف الشعر تتوسّع وتتعدّد في زمن تداعت فيه السرديّات الكبرى وانحرف المجتمع البشريّ في قواه المتنفّذة عن وصايا المدينة الفاضلة ومُثُلها. في هذه الحالة، يكون على الشعر- حسب الحلبيّ – أن يحمل الراية وينوب عن تلك المؤسّسات المجتمعيّة التي تداعت أو خيّبت الإنسان كالإعلام ودولة الرفاه؛ فلا أفضل من الشعر، في رأيه، قائدًا للحرب ضدّ الخراب والتوحّش ومُحدثيهما. في هذه المقابلة المطوّلة يستطلع موقع “ثقافات” جديد الحلبي شعرًا وفكرًا، وهو الذي اختار أن يُنافس في الشعر والإبداع والفكر والثقافة، وذلك في الساحة العالميّة لا في “حارته” ولا في مواطن الراحة.

س. كنت قد كتبت في صفحتك على الفيسبوك قبل ثلاث سنوات بالحرف: ليس للشعر “بَعد”، أثق بقدرته على الدفاع عن نفسه وحضوره وعن حفظ الودّ للمجاز والاستعارة والضباب والخير والحقيقة ومُريديها”ـ إلى هذا الحدّ تثق بالشعر في هذا الزمن الذي تتداعى فيه مراسٍ أخرى بعد انهيار السرديات الكُبرى؟

  • م. الحلبي: “في هذا الزمن المشحون بعدائيّةٍ واضحة لفكرة المدينة الفاضلة المنشودة، وللإنسان النبيل وللخير المأمول وللجماليّ المقرون بالمعقول والسامي، على الشعر أن يكون، كما تكون الحقيقة، عصيًّا على اندفاع الافتراضيّ وسيول الكلام العابرة كسيول البضائع والمال، من يد إلى يد، ومن سوق إلى سوق، ومن بورصة إلى أخرى. على الشعر ـ وهو قادر ـ أن يواجه هذا السيل من الصور المبثوثة والمضامين المزوّرة، وأن يكشف النجوميّة الزائفة وصناعتها وثقافة الصواريخ الناريّة والأضواء الخادعة. سيكون على الشعر أن يُقاتل هذه الكثرة وهذه الوفرة من “الأبالسة” و”المروّجين” وأثرياء “الريع الكلامي” في الشبكات، أولئك المتاجرين بالصور كما يُتاجر بعضهم بالسلاح والجثث أو بالبضائع المغشوشة على الحدود بين دولتين أو في الأحياء الفقيرة. سيكون على الشعر أن يُعيد إلى هذا العالم طيبته وبعض معقوليّته، أن يردّ الاعتبار للمعقول واللائق والمنطقيّ. الشعر هنا هو الشاعر الذي يفكّك ويبني، هو الذي يفتح ورشة ويشمّر عن ساعديْه ويُقاتل من أجل العدل والحقيقة والجماليّ. على الشاعر في الراهن، وفي كلّ الثقافات، أن يحلّ محلّ المؤسّسات المجتمعيّة التي انهارت أو التي خذلت الناس، مثل مؤسّسات الإعلام وغيرها من مؤسّسات الدولة. يبدو لي أنّ في الطريق إلى الآخرة، يصير للشعر وظائف ملحّة عديدة وعلى رأسها التأشير على البدائل. “

س. معناه أنّ الشعر عندك ورشة مفتوحة، وقد لفتني أنّك تسمّي مُنجزك الثاني كما الأول، “مؤلّفًا” ـ ألا تعتقد أنك تعطي للشعر معاني أكبر مما يجسّدها؟

  • م. الحلبي: “اخترت أن يكون مشروعي الشعريّ مُمتدًّا وضاربًا في الأرض واللغة والثقافة والفكر. وهذا ما يتطلّب أن أكون مع الشعر في ورشة، أجرّب فيها وأُنتج وأُخطئ وأصيب، على أن يكون كلّ ما أفعله في هذا المضمار نابعًا من شغف ومحبّة للشعر ووظائفه وغاياته التي قد تتعدّد كثيرًا في سياقات محدّدة، كما هي الآن؛ فالشعر عندي مرتبط بالفكرة المُشرقة، بالرائع المُتمنّى، وبفكرة “المدينة الفاضلة”، وبما يُمكن أن ينشأ من قِران هذه المعاني بعضها البعض الآخر. أرى في الشعر كلّ المعاني المهدّدة بالإبادة والتصفية وأقترحه لُغةً تعيش فيها هذه المعاني عيشة كريمة وفي منَعةٍ وقادرة على المقاومة من موضع مُريح. الشعر كأيّ عمل إبداعيّ وفنّيّ يكتسب أبعاده ووزنه من المعاني التي يمنحها إيّاه الشاعر أو القارئ أو الناقد إذا وُجد. الشعر هو ما نُعطيه نحن لهذا الكيان وهذا الموجود من دلالات ووظائف وتمثيلات. أشعر بالفخر أنني من الذين يوسّعون دائرة معانيه أبعد من العقائد والآيديولوجيّات والنظريات الأدبيّة المتداولة. الشعر، بالتأكيد، أعلى وأبعد. من هنا أيضًا، أرى أنّ الشعر يولد من عمليّة تأليف تمتزج فيها المعرفة بالعذوبة والشعور بالفكرة المُشرقة، بالتاريخ والفلسفة، بمفهومي ومفهومك للذات وللوجود والهويّة، بقراءتي لذاتي وللآخر، للسلُطات التي تتحكّم بمصائرنا، لمباني القوّة والمراكز المُهيمنة المُستحوذة، وهكذا. قد تبدأ القصيدة من نقطة في الكون أو في الوقت أو في اللغة أو في الشعور، لكنّها تنمو وتكبر كجزء من قصائدي الأخرى، فتكون امتدادًا لما سبقها وبوّابة لما سيلحقها. الشعر هو فعل عقليّ بامتياز يروم الجماليّ بوصفه غايته الأخيرة مهما تكن المعرفة التي يقاربها. صحيح أنّ الشعر قد يبدأ من موهبة، لكنّني من الذين يوجِبون وجود الثقافة والعلاقة الوثيقة والمحرّرة مع اللغة كي ينضج الشعر.”

س. ما الجديد في مُنجَزك الثاني وهو من 400 صفحة؟ ماذا سيجد مُحبّو الشعر في هذا المُنجَز ولم يجدوه في مُنجزك الأوّل “في مديح الوقت”؟

  • م. الحلبي: “سيجدون فيه خمس سنوات أخرى من عمري بتجاربها ومُدرَكاتها ومواضيعها، بفرحها وخيباتها، بالشخصيّ الحميم وبالكونيّ الواسع. خمس سنوات أخرى في تجربة الشاعر كفيلة أن تملأ كتبًا. صحيح أنّني الشاعر نفسه في المؤلّفَيْن، لكنني أشعر أنني بلغت مرتبة أخرى ومواضع أخرى في المؤلَّف الجديد. وجدتني مثلًا، مضطرًا للخوض في الفلسفة أو في “الحكمة” فوثّقت تجاربي بمعناها “خلاصات” و”مُدرَكات”. وجدتني واثقًا أكثر، ممّا كنت، بالشعر وبزرقة السماء وبنفاذ الفكرة المُشرقة. وسّعت في هذا المُنجَز علاقتي بالتاريخ والرموز والمعرفة عمومًا، ووصلت أماكنَ ومعانيَ وحدودًا لم أصلها من قبل. وضعتُ قدميّ على الطريق إلى الآخرة. قد يجد محبّو الشعر استحضارًا للصوفيّة وفكرتها، وخوضًا صريحًا في الراهن، ومحاولة للاستشراف. أمر آخر لاحظته في هذا المُنجَز، وأنا أوضّبه وأختار قصائده، أنّني أميل فيه إلى الإيقاع والموسيقى أكثر ممّا في المؤلَّف الأوّل. أذكر أنني قصدت ذلك في نصوص بعينها، لكنّي وجدت أنّ الإيقاع حاضر بقوّة دون أن أتعمّد. هي التجربة ربّما، أو هي العِشرة مع الشعر واللغة، أو قد أكون اقتربت من غنائيّة بعدما كنتُ تأمُّليَّ النزعة فيما سبق. في هذا وذاك، حرصت على أن أكون أكثر ثقافة ومعرفة عمّا كنتُه قبلًا، وحرصت على أن أواصل التجريب واقتحام مناطق جديدة في الشعر واللغة. باختصار، هو نتاجٌ لدمجي بين الشاعر والمثقّف المُشتبك الذي لا ييأس ولا يرفع الراية البيضاء، وإن شعر بالخيبة هنا والانكسار هناك والتعب والخذلان. أعرف أنّ الشعر باق يشهد علينا ويرسم صورتنا.”

س. هل أنت راضٍ عن الصورة التي يرسمها لك هذا المؤلّف؟ أو عن صورتك كشاعر ومثقّف كما تقول؟

  • م. الحلبي: “في اللحظة التي سأرضى فيها عن صورتي سأتوقّف عن كتابة الشعر، وعن الفعل الثقافيّ، وعن كلّ شيء. أنا في ورشة ممتدّة ومفتوحة وهي التي تُنتج صُوَري على شكل نصوص شعريّة أو خطاب أُسهِم به ضمن ثقافة العالم في راهنه. أسعى كي أبلغ ما هو أعلى وأبعد دائمًا، أو كي أتجاوز نصّي وذاتي كشاعر ومثقّف (كما اصطلحنا على وصف ذلك). أطير من الفرح عندما أكتشف فكرة لم أعرفها من قبل، أو عندما أخطّ مجازًا لم يسبقني إليه أحد. أشعر بالدهشة كطفل كلّما بلغتُ في أثناء الكتابة نُقطة لم أكن أتخيّل وجودها، أو كلّما أطاعتني اللغة ومنحتني استعارة تبتزّ منّي ابتسامة. أسعد، وأعيش ساعات من السعادة، كلّما اكتشفت مفكّرًا أو فيلسوفًا أو وقعت على كتاب آسر. على أيّ حال، شُحنة سؤالك ستكون أكبر، وكذلك الإجابة عليه، إذا ما وجّهته للقرّاء. فالصورة النهائيّة للشاعر أو المثقّف هي وليدة الاشتباك بينه وبين القرّاء، بينه وبين الفضاء العام.”

س. القرّاء أو الجمهور هم طرف في معادلة الكتابة أيًّا كان نوعها، شعرًا أو معرفة أو فلسفة. ما هي طبيعة علاقتك بقرّائك، بالجمهور؟ أيّ مكان يحتلّونه عندك في مشروعك الشعريّ الثقافيّ، خاصة مع انتشار القول على ألسن مبدعين ومبدعات “إنّني أكتب لذاتي”؟

  • م. الحلبي: ” لا أستخفّ بالمقولة التي أشرتَ إليها. صحيح، في بُعد ما من عمليّة الإبداع، أنت تُبدع نفسك ولنفسك، تُريد أن تجعلها أنبل وأسمى وأجمل، أفضل بكلّ المعاني. بيد أنّ الشعر، كأيّ فنّ آخر، غايته الحوار مع المتلقّي أو حثّه على شيء أو استفزازه أو مواجهته بالأسئلة، على أمل أن يُغيّر علاقاته بالأشياء والظواهر والموجودات وبنفسه والآخرين، أو على الأقلّ أن يُفكّر فيها من جديد. ولأنّ للشعر عندي وظائف عديدة ويخوض في حقول وتجارب لا تنتهي، يهمّني كيف يقع شعري ونتاجي كلّه عند القُرّاء، أو لدى الذين ينكشفون عليه. أحيانًا، أكتب لهم كما أكتب لي وأريد لهم أن يمرّوا بما أمرّ به أنا أثناء الكتابة والتأليف من ارتباك وحيرة ووجع ودهشة وتأمّل وبحث واكتشاف، أريدهم أن يسيروا معي كلّ الطريق إلى نصّي وفكرتي التي استقرّت في النصّ. من هنا، يهمّني أن ألتقي القرّاء وأسمع وجهة نظرهم وإشاراتهم. يهمني أن أوضّح أو أتواسط بينهم وبين النصوص كي أسلّمهم المفاتيح. يسرّني أن أكتشف أحيانًا كثيرة وصول الكثيرين من القرّاء، القريبين منّي والبعيدين عنّي، إلى هذه المفاتيح بقواهم الذاتيّة ودخولهم نصوصي وعالمي الشعريّ ولغتي بدون واسطتي. عُقدت على شرف مؤلّفي الأوّل نحو عشرين أمسية موسّعة ومختصرة، وهو ما سيحصل هذه المرّة، أيضًا. في نهاية الأمر، أريد أن يكون معي حشد من الناس وأنا ذاهب إلى تثبيت الحقيقة في رؤوس الجبال وترسيخ قدميْ العدلِ على الأرض، وهو ما أخفقت فيه كلّ الشرائع والعقائد بما فيها تلك التي نشأت عن الحداثة وما بعدها.”

س. لاحظت أنك في نصوص المؤلّف تجتهد في مقاربة الراهن على مستوى الكون وأفكاره والتيارات والقوى التي فيه. كيف تستطيع مقاربة مسائل بهذا الحجم في نصّ شعريّ، أو كيف تستطيع أن توطّن المسائل الكونيّة والإنسانية الشموليّة في الشعر؟

  • م. الحلبي: “من طبيعة الشعر، إذا وسّعنا حدوده، أن يتّسع لكلّ شيء، لكلّ هواجسنا وأفكارنا ورغباتنا وتأمّلاتنا ومعارفنا. الشعر لُغة فوق اللغة، أوسع من المُعجم بكثير لأنه يقوم على التخليق والتوليد والتجريب والمغامرة. هذه الأفعال والإمكانيات المُتاحة في الشعر تجعله أوسع حدودًا ممّا يعتقد البعض. يبقى السؤال هل فعلتُ ذلك مع الحرص على المكوّن الجماليّ أم أنني أهملته لصالح الفكرة؟ وهو سؤال حاضر دائمًا في عمليّة التأليف. في نهاية الأمر، الشاعر يقوم عن وعي باعتماد خيارات شعريّة ولغويّة وأسلوبيّة، يُجرّب. آمل أنّني وفّقت. من حيث المبدأ، هل يستطيع الشاعر أن يُصدر مؤلَّفا دون أن يخوض في الحروب الراهنة في غزة أو سوريا أو أوكرايينا وغيرها، أو دون أن يتطرّق إلى الشرّ المُطلق الذي انزلق إليه مجتمع ما بعد الحداثة، أو إلى سيرورات العولمة بوصفها قوًى هائلة تهدم كلّ شيء في طريقها إلى تحقيق الربح؟ أو هل يستطيع الشاعر أن يكتفي في عالم ذاهب إلى منتهاه بوصف لقاء حميم مع حبيبته؟ هل يستطيع أن نسمّي أحدهم شاعرًا دون أن يخوض في معمعان الربيع العربيّ وما أعقبه من ثورات مضادّة وطواغيت؟ الشعر ابن سياقاته كلّها، يواجه مصيره ومصير الإنسانيّة على جبهات عدّة. والشاعر إمّا أن يكون جزءًا من هذا الكون على كلّ ما فيه من هموم وقضايا، أو أن يكون منفصلًا منعزلًا. بعبارة أخرى، إما أن يختار الشاعر الحضور في العالم ليُنافس في ساحة الأدب العالميّ، أو أن يختار صالون بيته أو شلّةً من زملائه المتقاعدين المتبطّلين يتبادل معهم ما يخطّونه ثمّ يذهب كلّ منهم إلى بيته مسرورًا. أنا اخترت الفضاء الكونيّ الرحب، ولديّ ما أقوله لهذا العالم، ولا أخشى المنافسة في هذا الحيّز ولا المسؤوليّة المترّتبة عن ذلك.”

س. أعود إلى المؤلّف، أدهشتني عمليّة التبويب لجهة جماليّة عتبات الأبواب، “نعمة المجاز” و”محنة الآلهة” و “باب الغريب” و”غواية السرد” “باب الخيبة” و”درب المسرّات”، كلّ باب منها يصلح أن يكون مجموعة شعريّة منفصلة. لماذا تصرّ على هذا الشكل للإصدار، مؤلّف جامع قد يُنهك القارئ أو يُربكه، فلا يعرف من أين يبدأ؟

  • م. الحلبي: ” أنا على العموم مع كلّ ما يُمكن أن يُربك ويُحيّر، لأنه يبعث على الدهشة والسؤال والفلسفة. لكن ليس هذا القصد. لا أرتاح من إشهار المجموعات في وجوهنا كالمسدسّات. لا أستحسن التجزئة والنشر بالمفرّق كجزء من ثقافة السوق والتسويق. لأنه يُفقد الشاعر قدرته على مراجعة ما أبدع وعلى نقد تجربته والتأمّل في نصوصه. النشر السريع المتتالي المتتابع هو الذي يُفقد العمل الشعريّ زخمه أو عُمقه لأنّ السؤال في هذه الحالة سيكون سؤال الكم، كم النصوص الصالحة لأن تشكّل مجموعة لتُنشر. أنا من مذهب آخر في النشر يقول بضرورة التأنّي كي يكون لديّ متّسع من الوقت لأقرأ وأنقد وأراجع وأصحّح وأشطب وأحذف وأنتقي وأختار وأتنازل عن نصوص وأهملها؛ فأنا لا أعدّ مجموعاتي ونصوصي، بل أضعها في الاختبار وأنقدها، لست في عجلة من أمري. شيء ما في الشعر ينبغي أن ينضج ويستوي. تعلّمت من تجارب غيري، من الذين ندموا على كتب أصدروها ومجموعات أطلقوها قبل أن تختمر أو يختمروا هم. المؤلَّف الجديد يحتوي ما انتقيت من نصوصي التي ألّفتها في السنوات الخمس الأخيرة وليس كلّ نصوصي. أمر آخر أودّ الإشارة إليه، وهو ما يحصل للشعراء. عندما يرحلون تبدأ عملية جمع نصوصهم في “مجموعات كاملة”. قرّرت أن أعفي الذين بعدي من هذه المهمّة وأريحهم من الاشتغال بـ “مجموعتي الكاملة”. ها أنا قُمتُ بذلك من أجل الشعر ومن أجلهم ومن أجل قرّائي، وهم أحرار في قراءة مؤلّفي من الباب الذي يُريدون. كلّ أملي هو ألّا ينشغل أحد بكبَر المؤلّف بقدر ما ينشغل بمضامينه الشعريّة. وآمل، طبعًا، أن تعلق في أذهانهم فكرة أو قصيدة أو شطر منها. يسرّني أن نتّفق ولا يضرّني أن نختلف”.

س. لُغتك هي لُغتك، بمعنى أنها ليس بعيدة عن اللغة المتداولة ولا هي مبتذلة أو متذاكية، هي في العادة ميسّرة لا تعقيد فيها ولا إعجاز، لكنها تعجّ بالدلالات والصور والمعاني، كيف يتأتّى لك ذلك؟

  • م. الحلبي: “اللغة منجى الشاعر أو مقتله. عشت أكثر من نصف قرن من التجريب كي أهتدي إلى لغتي هذه. لم أكن أعرف ما أريد ولم يكن لدي فكرة مُسبقة عمّا أبحث عنه في اللغة ومعها. وصلت إلى ما وصلت إليه بالتجريب وبالتعلّم من تجربتي أنا ومن تجارب غيري. في الأصل، نفرت من التعجيق والتزيين والتغريب والإعجاز، وتطيّرت من الفذلكات أو التذاكي اللغويّ، نفرت من الاستعلاء على غيري بمعرفتي اللغويّة، نفرت من التباهي بما أحفظه ومن تقديس اللغة. وربّما كانت هذه المنطلقات هي التي أوصلتني إلى لغتي. كنتُ أعرف أن عليّ إنتاج لغتي بممارسة فعل لغويّ حرّ يعتبر اللغة كيانًا حيًّا يحتاج إلى عناية كي يواكب الزمن ويسبقه… هكذا تعلّمت من أدباء ومبدعين عاشرتهم أو قرأت لهم. كان إميل حبيبي مثلًا، وقد عملت معه نحو ستّ سنوات كاملة في جريدة “الاتحاد” الحيفاويّة، يحثّني على الاعتناء بلغتي كي تصير أنيقة ورشيقة وبهيّة الطلعة. أعتقد أنني أفلحت على نحو ما في أن أكون شاعرًا بلُغة تخصّني، ميسّرة ودودة مع القارئ، وهي في الوقت ذاته قادرة على النهوض بأعباء الشعر ومسؤوليّاته”.

س. كيف ترى إلى نفسك في هذا الكون الفسيح وضمن أدب العالم وشعره كابن الثقافة العربيّة ولُغتها؟

  • م. الحلبي: ” أراني منافسًا على قدم المساواة مع شعراء هذا العصر العرب وغير العرب وشريكًا من موقعي في إنتاج أدب عالميّ تُرجم بعضه إلى الإيطاليّة والإنجليزية والفرنسية والصربيّة والعبرية (كوني أعيش في فلسطين الداخل) ويتمّ تدرسيه في الجامعات. لديّ ما أضيفه وأسهم به. ليست هناك ثقافة أفضل من ثقافتي أو نصّ أعلى قيمة من نصّي أو من نصوص زملائي العرب. فعبد الرحمن منيف ومحمود درويش عندي، مثلًا، أحقّ من كل الحائزين على نوبل في الآداب في العقود الثلاثة الأخيرة. بمعنى أنّني أقيّم أدبنا العربيّ من محيطه إلى خليجه على نحو يتساوى ويتفوّق فيه على آداب بلغات أخرى، قد لا يكون أفضل، لكنّه بالتأكيد ليس أقلّ من أيّ أدب في أيّ لغة أخرى. واسمحوا لي أن أضيف، وإن بدوتُ نرجسيًّا، خاسرون هم الذين لا يعرفون لغتنا ولا أدبنا أو لا يُترجمونه. لقد آلت السرديّات الكُبرى إلى تهافت وأفول، ومنها سرديّة الاستعمار والتفوّق، وانحسرت الإمبراطوريّات بشكلها التقليديّ عن أوطاننا وبات العالم مغايرًا، تغيّرت المباني والمفاعيل التي تحكم الكون وانفتحت فرص وإمكانيات، وعلينا أن نأخذ زمام الأمور في ساحة الأدب والثقافة، كما في غيرها، وأن نُسهم بقسطنا في الأدب العالميّ. نحن كمبدعات ومبدعين عرب جزء من هذا العالم وأدبه، فهيّا كنّا جزءًا حيًّا وفاعلًا. وهنا لا بدّ من مشاريع تنطلق من العالم العربيّ غايتها ترجمة ونقل الأدب العربيّ إلى لغات أخرى بدل أن ننتظر مركزًا أكاديميًّا أو باحثًا غربيًّا شغوفًا بثقافتنا ليفعل ذلك. نحن شركاء في هذا العالم، نُنتج أدبًا نوعيًّا ومميّزًا، فهيّا بنا نصدّره إلى كلّ ثقافات العالم. أعتقد أنّها وظيفة السفارات العربيّة ودوائر الثقافة في أقطارنا ومؤسّساتها.”

 ……………………..

**بروفيسور بواردي هو أستاذ اللغة العربيّة وآدابها، باحث في الأدب الحديث، متابع عن كثب لمشروع الحلبيّ الشعريّ منذ بداياته.

 

 

 

 

مقالات من نفس القسم