مرحبا دولة: الكوميديا التي كشفت وجع لبنان

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مصطفى أيمن

 في الآونة الأخيرة، انتشرت على نطاق واسع مقاطع متنوعة من أحد أبرز المسلسلات اللبنانية الحديثة، الذي جاء ليحمل جرأة نقدية نادرة وموجعة في آن واحد. هذا العمل هو مسلسل “مرحبا دولة”، من إبداع الممثل والمخرج الموهوب محمد دايخ، الذي قرر أن يخوض مغامرة فنية صعبة، محاولًا أن يكون أحد “الأرواح المتمردة” التي تحدث عنها جبران خليل جبران، لكن بلغة العصر الرقمي.

اختار دايخ أن يواجه العبث السياسي والاجتماعي السائد في لبنان والعالم العربي من خلال السخرية والضحك، وهما أداتان طالما اعتُبرتا من أبلغ الوسائل في فضح الاستبداد وتعريته. فالضحك – كما رآه الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه – ليس مجرد حالة من الترفيه، بل وسيلة وجودية للتغلب على العدمية ولمواجهة أكثر الحقائق قسوة. كتب نيتشه يومًا: “ربما أعرف أكثر من غيري لماذا الإنسان وحده يضحك؛ لأنه وحده يعاني بعمق شديد لدرجة أنه اضطر لاختراع الضحك”. لكن يبقى السؤال: هل يكفي الضحك والسخرية لمواجهة منظومات القمع الراسخة؟

من نقوش الفراعنة إلى كوميديا دايخ

السخرية السياسية ليست اختراعًا حديثًا، بل هي تقليد ضارب في عمق التاريخ. فالمصريون القدماء نقشوا على جدران مقابرهم رسومات ونكات تسخر من الأرستقراطية والحكام. إحدى هذه النكات، المعروضة اليوم في المتحف البريطاني، تتناول جشع أحد الملوك وشهواته. ثم جاءت الحضارة الإغريقية لتؤسس أولى المسرحيات الساخرة على يد أرسطوفانيس، الذي لم يتردد في السخرية من الديمقراطية الأثينية ومظاهر الفساد الاجتماعي في اليونان القديمة.

انتقل هذا الإرث لاحقًا إلى الثقافة العربية والإسلامية، حيث ازدهر شعر الهجاء الذي فضح الحكام وعيوب المجتمع. برع في ذلك الجاحظ وشعراء العصر العباسي، الذين مزجوا بين الفصاحة والطرافة في هجائهم. ومع دخول الصحافة الحديثة، وجدت السخرية منبرًا جديدًا عبر المقالات الساخرة، وكان من أبرز رموزها في العالم العربي محمود السعدني وأحمد رجب. وفي العصر الرقمي، وجدت السخرية متنفسًا أوسع عبر منصات مثل يوتيوب وفيسبوك، لتصل إلينا اليوم عبر مسلسل “مرحبا دولة”، الذي قدّم نموذجًا مختلفًا عن الكوميديا، يمزج الضحك بالبكاء كما قال المتنبي: “وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ فهي الشهادة لي بأني كاملُ”، أو في سياق آخر “ضحك كالبكا”.

لماذا اختار دايخ السخرية من الشعب قبل السلطة؟

يُعيدنا محمد دايخ في عمله إلى أطروحات الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون في كتابه “الضحك”، حيث يرى أن السخرية تنشأ عندما نواجه سلوكًا آليًا متجذرًا في الحياة، وأن الضحك يؤدي وظيفة اجتماعية رادعة، تعمل كآلية تصحيحية ضد الانحراف.

لهذا السبب، لم يبدأ دايخ بنقد الطبقة السياسية مباشرة، بل وجّه سهامه أولًا إلى المجتمع اللبناني نفسه. تناول في الموسم الأول قضايا شائكة تمس حياة الناس اليومية: الحريات الفردية، التمييز ضد المرأة، الطائفية الاجتماعية، وصناعة الديكتاتوريات الصغيرة داخل البيوت والمؤسسات. ثم انتقل في الموسم الثاني إلى نطاق أوسع، ليهاجم المنظومات الدينية والسياسية في العالم العربي، مسلطًا الضوء على استغلال الدين لأغراض دنيوية، وعلى تواطؤ السلطة مع الطائفية والفساد.

محاولات التضييق والمنع

لم يمر العمل من دون عراقيل. فقد قررت السلطات اللبنانية التضييق على “مرحبا دولة”، خاصة بعد أن تناول في موسمه الأول صورة قوى الأمن الداخلي. في بلد مثقل بالفساد السياسي والمالي، جاء المسلسل ليضع الإصبع على الجرح، فتم منع فريق العمل من استخدام بعض المواقع والديكورات، وصولًا إلى رفع دعاوى قضائية ضد المسلسل في موسمه الثاني بحجة “تهديد السلم الأهلي”.

المفارقة هنا أن لبنان يعيش منذ عقود على وقع الطائفية والحروب الداخلية والاعتداءات الخارجية، ومع ذلك اختارت بعض المؤسسات الرسمية مواجهة مسلسل ساخر بدلًا من مواجهة أزمات الكهرباء والاقتصاد والعدالة الاجتماعية. هذا السلوك يكشف – بشكل غير مباشر – أن العمل قد أصاب كبد الحقيقة وأربك السلطة.

استقبال الجمهور العربي

ما إن بدأ عرض الموسم الثاني حتى غزت مقاطعه منصات التواصل الاجتماعي. تميز هذا الموسم بجرأته واتساع دائرة نقده لتشمل أنظمة عربية أخرى، بالإضافة إلى فضح التجارة بالدين عبر شخصيات القسيس والشيخ اللذين تحولا في المسلسل إلى رمزين لتحريض الفتنة الطائفية.

لاقى العمل صدى واسعًا بين الشباب العربي، لأنه لامس واقعهم المليء بالخيبات، وكشف بجرأة عن أن الفساد ليس حكرًا على لبنان وحده، بل هو مرض مستفحل في معظم بلدان المنطقة. نجح “مرحبا دولة” في أن يكون مرآة حقيقية لمجتمع مأزوم، وفي الوقت نفسه مساحة للتنفيس عبر الضحك.

أثر المسلسل وأبعاده

قد يرى البعض أن الكوميديا لا تغيّر الواقع، لكنها في الحقيقة تترك أثرًا بعيد المدى. فالفكاهة الساخرة تعيد صياغة الوعي الجمعي، وتدفع الناس للتفكير خارج الصندوق. في لبنان، حيث اليأس أصبح لغة يومية، جاء هذا المسلسل ليذكّر الناس بأن النقد ممكن، وأن الضحك يمكن أن يكون شكلًا من أشكال المقاومة.

يشبه “مرحبا دولة” في جوهره تجارب عربية سابقة استخدمت النكتة كسلاح في مواجهة القهر، مثل نكات الانتفاضة الفلسطينية التي صوّبت سهامها إلى الداخل والخارج معًا. لكنه يتفرد بجرأته في تفكيك البنى الدينية والسياسية معًا، وهو أمر نادر في الدراما العربية.

يمكن القول إن “مرحبا دولة” ليس مجرد مسلسل كوميدي، بل هو تجربة فنية تمثل محطة جديدة في مسار السخرية السياسية بالعالم العربي. عمل جمع بين متعة الضحك ووجع البكاء، وبين النقد اللاذع والأمل الضمني في مستقبل أفضل.

محمد دايخ لم يقدّم فقط حكاية تلفزيونية، بل أطلق صرخة جيل يرفض الاستسلام للواقع المرير. جيل يريد أن يحيا بكرامة، وأن يعبّر عن غضبه بالضحك بدلًا من الانكسار. وهنا تكمن قوة هذا العمل: أنه أعاد للكوميديا معناها الأصيل، بوصفها أداة مقاومة وفضح، لا مجرد ترفيه عابر.

  

مقالات من نفس القسم