شوقي عبد الحميد يحيى
عندما كتب نجيب محفوظ رائعته الباقية “ثرثرة فوق النيل” فى العام 1966، جمع رموز المجتمع، ومثقفيها، فى عوامة، ليعيشوا التغييب عن الواقع، الأمر الذى قاد المجتمع إلى أكبر نكسة فى التاريخ المصرى والعربى فى العام 1967. ليأتى دأشرف الصباخ فى العام 2024 ليقدم، بسخرية تحمل المرارة أكثر مما تحمل من المتعة التى كان من الممكن أن تسود المجتمع بعد طول هذه السنين، التى تعنى، وللأسف، ان شيئا لم يتغير، وأن المجتمع لازال على حاله، فكانت روايته “مراكب الغياب”[1]. وهو عنوان قد يتبادر لذهن القارئ حين يقرأه، أنها المراكب التى تحمل البشر للغياب عن الوطن، او للمغادرة لمكان بعيد. غير أن القارئ، يكتشف مع صفحات الرحلة عبر العقول، الخاوية، والتى غيبها المخدر، فالأشخاص لم يغادروا الخمارة. فإذا كان نحيب محفوظ قد جعل العوامة هى المكان الذى يذهب إليه كل النماذج المنوط بها بناء رؤية المجتمع، او قادته للتنوير(المفروض)، فإن أشرف الصباغ، طاف بِشلته المكونة من رموز القاع، والهاربين من الحياة المعيشة، والعيش فى الوهم، سواء بالمعتقدات، او التغييب بالدين، أو لبس العديد من الأقنعة (الأفندية، كما قالت عنهم مديحة)، ليطوف بهم كل حارات وزخانيق القاهرة، وضواحيها، كمركز للتعبير عن السلطة، ومتن المجتمع، أو مركز القرار فيه، فضلا عن بعض الأماكن الأخرى التى تُثير العديد من التساؤلات، والخيبات التى أصابت المجتمع، مثل الوادى الجديد- وحكايايات البروفيسورمنصور الفيل- بما تم صرفه عليه، دون عائد، واليمن وما لعبته من دور سلبى فى المساهمة فى 1967{بماذا يمكن أن يكون “صابر” قد جاء به من اليمن الجنوبى، بفودكا روسية أم بقات يمنى؟}. كاشفا عن انتشار تلك البؤر، أو وسائل التغييب، والتوهان. وكأننا لم نزل نعيش نفس الحالة، او أن الزمن –رغم استمرار دوران الأرض حول الشمس- لم يغادرنا بعد. فنجد أنفسنا نطوف معهم، فى رحاب الأضرحة، وفى المقابر، أو الأماكن البعيدة عن العمران، حيث يُشيد الدراويش مملكاتهم، ليمارسوا الهيمنة على عقول العامة.
لذا جاءت الرواية، ليس بموضوع يتطور بالشكل التقليدى تصاعديا، وإنما بصورة عامة بشكل عرضى، تشكل فى النهاية الخطاب الذى يرسله الكاتب إلى قارئه، لذا غاب عنه الزمن (الإطار) وإن جاءت الإشارة إليه عبر الأحداث التى تم ذكرها بصورة ساخرة، فضلا عن الجو الذى يؤشر، بما لا يدع مجالا للشك، فى تحديده، مثل الإشارة إلى التهجير، والعودة بعد التهجير، الذى صاحب زلزال يونيو 1967. والإشارة إلى اليمن والوادى الجديد. كما جاء ما قد يشير إلى ذلك الزلزال، بشكل يستدعى قصة “اللكمة” فى أولى مجموعات بهاء طاهر “الخطوبة”، حيث دخل مجهول إلى مقر عمل فى إحدى المصالح، ولكم أحدهم، دون أن يعرف هو أو أحد من الموظفين، من هذا، ولما فعل ذلك. فاشرف الصباغ، بعد سهرة تكفل بها “صابر” العائد من اليمن، وبعدها توجهوا إلى زميلهم “نبيل” الذى خرج للعمل، وعلموا بعده أنه قد لقى مصرعه فى النيل، أمام ماسبيرو- وهى إشارة ذات دلالة- بينما “رجب الصافورى” لازال فى الوادى الجديد، ووجد “يونس القاضى” فاقد للوعى، واختفاء “نورا خطاب” {وفى زحمة الفقد والرحيل والسفر ماتت “أم حافظ” ميتة تشبه ميتة أحمد التايه، سقطت من البلكونة وهى تنشر الغسيل الذى كانت تنشره طيلة خمسين عاما دون أن يهتز لها جفن أو تكل لها يد، وكأنها سقطت بالصدفة.أو ألقت بنفسها عمدا من نفس الأتوبيس الذى كان يقوده سائق مسطول لم يصطفِ احدا من الواقفين على المحطة إلا أحمد التايه، فدخل فيه وكأنه يقصده هو بالذات، لم يُصب أحد من الجيش الذى كان يقف على المحطة وقتها ولو بخدش واحد، كأن أحمد هو الذى ألقى بنفسه أمام الأتوبيس، او توسل إلى السائق أن يرحمه من حمولة الأمل وعبء انتظار المراكب}ص80. وكأنى بالكاتب قد حذف كلمة (بالخير)، لكنها هذه المرة، مراكب الأمل بالخير الحقيقى المنتظر. حيث تحمل كل تلك الأحداث، والموت الغريب، والذى يبدو أنه إنتحار لكل هؤلاء، إلى إشارة معينة، وقد تتضح بصورة أكثر إذا ما تأملنا، أن (الجيش) الواقف بالمحطة لم يُصب بخدش واحد، و{أن يرحمه من حمولة الأمل). كلها تشير إلى واقعة نزلت على المصريين -والعرب- وقع الصاعقة، ضاع معها الأمل، الكاذب، وخابت الأمال فيه، بعد أن كان مغيبا، فو يونيو 1967.
ولم يكن تغييب الزمن –ظاهريا- ليمنع الكاتب من الاستمراربه، حتى يصل الماضى بالحاضر، فينتقل بأحد أفراد (الشلة) وهو السارد، ليعيش الزمن الآنى، حيث يعيش ما يعيشه ناس الهامش من تغير، حين يقول{ عدت لارتياد الحانات الرخيصة والبارات الرخيصة واحتساء المشروبات الرخيصة بعد أن كنت قد أقلعت عنها… أقلعت عن احتساء المشروبات الكحولية الرخيصة التى يفخر بها المثقفون الطفليليون أصحاب الثياب الرثة والأفكار الرثة والرؤوس الغريبة التى تبدو مدببة أحيانا وملطحة فى أحيان أخرى، ومسطحة فى أحيان ثالثة.. غادرتها منذ غادرت أكذوبة العمال والفلاحين التى لاكها المثقفون المضحكون خفيفو الظل وصبيان الأحزاب السرية والعلنية}ص124. حيث نتبين من تعدد الرؤوس للمثقفين، التلون وفق الأحوال، كما يمكن أن فهن منها التشتت والتشرذم والانقسام. فقد درج الكاتب على أن يلقى بالسنارة فى مياه البحر، ليصبح أمامها العديد من ألوان الحيوات المائية، التى يمكن –جدا- أن تلتقط إحداها، وهو ما يصنع الثراء فى إبداعاته.
تبدأ الرواية، حيث يكشف الكاتب بثقافته حول النظريات الأدبية والجغرافية، متخذا من المكان فرصة الخلاف والاختلاف فى الرؤى، كما يمزج الخارج الروسى، الذى استعمله فى الكثير من أعماله، كرمز لتلك الفترة التى ازدهر فيها الاتحاد السوفيتى، رابطا بينها والواقع المصرى الذى تعلق بالاتحاد السوفيتى، فترة لم يكن من إنجازاتها إلاالضياع والتشتت، مزجا سلسا، تشعر بأن البيئة واحدة، حيث يشير الحوار إلى تلك الفترة التى كان مشروع التوريث فيها على أشده، كاشفا فى الوقت نفسه، من طرف خفى، إلى ملاك مصر الذين كان لهم التخطيط لما حدث بعد ذلك
{استأنف الأصدقاء أحاديثهم التى انقطعت قبل عدة دقائق. فعلى اليمين يدور نزاع حول الشكلانية الروسية، ونقاش حول الأدب الروسى ما بعد السوفيتى، وعلى اليسار يدور جدال حول الصراع بين أمريكا والصين بعد انهيار الاتحاد السوفيتى وهبوط روسيا إلى مصاف الدول الإقليمية التى تمتلك أسلحة نووية، وحوار ثالث حول ارتفاع أسعار الكهرباء والغاز والمواد الغذائية. ونقاش هامس آخر يتسم بالسخونة حول موضوع التوريث. فيقول أحدهم إن التوريث قادم لا محالة. يرد الآخر بغيظ وغضب: لا توريث ولا يحزنون. هل تعتقد أن اتحاد ملاك مصر نائم! نحن فى انتظار ورقة الإخوان ثم السلفيين.. وبعد ذلك سيلعبون الثقيلة، ويشيلوه ويحطو أى حد}ص8. فيشير إلى التباين فى النقاشات عن الوضع الداخلى، الذى كان له دور لا يُنكر فى أن تصبح مصر مطمعا، سهلا، للعديد من الغزوات الخارجية على مصر ونهب مصادر ثروتها {ومراكب رجب الصافورى ليست كمراكب الأنجليز والفرنسيين تأتى حاملة البارود والطائرات أو المساعدات الإنسانية والقمح والبطاطين ولصوص الآثار والعلماء الذين يجيدون القراءة والكتابة فك الطلاسم }ص9. حيث كان الشعب مغيبا، إما بموروثه الثقافى الممتد عبر القرون، او بفعل حكامه، فأصبح الهروب إلى المغيبات التى تُنسيه ما هو فيه، او الخطر وراء تلك الغزوات {عندما كانت المراكب تأتى فى سنوات الصبا. كنا نظل نجرع كميات هائلة من الكحول المحلى الرخيص إلى أن ننسى أسماءنا، ولا يعد أى منا يتذكر أين يسكن. وعنئذ تظهر المواهب القيادية لرجب الصافورى فيمنحنا وعوده المقدسة بالمبيت فى مكان آمن، فتطمئن قلوبنا ونجرع المزيد}ص10. بينما الشعب لاهِ فى العديد من المشاغل التى تُنسيه ما هو فيه، سواء من الداخل أو الخارج، ويمدهم الموروث بالحمد على كل شئ، وان الصبر مفتاح الفرج، والحكام يسعون لتأكيد تلك الرؤية، سعيا وراء مصالحهم، والإبقاء على الأمور كما هى، فبدا الشعب ساكنا، صابرا فى انتظار الفرج، والمدد من عند الله {فالمصريون يولدون وكأنهم معلقون فى ساقية كبيرة وعليهم أن يتحركوا دوما. ويواصلون الرحيل والنزوح داخل بلادهم، سواء بسبب الفقر أو الحرب أو ظروف العمل. وكثيرا ما يتحركون فى المكان الواحد بانتظار مراكب الصبر… وهم يظنون أنهم يتحركون، وأنهم قاب قوسين أو أدنى من تحقيق كل الأمنيات}ص26. بينما الأحزاب، حتى حزب الشعب الذى من المفترض أن يدافع عن أؤلئك الذين لا يملكون الدفاع عن أنفسهم، أو المطالبة بحقوقهم وكذلك حزب الشعب(اليسارى) انقسم {فاستيقظت القاهرة مرة أخرى على أخبار بانقسام حزب الشعب، وإعلان “إجلال الناظر” عن حزب “الشعب الجديد” بينما يظل “يسرى شرف” رئيسا لحزب “الشعب القديم”. ومع الوقت انفرط الحزبان إلى ثلاثة أحزاب، ثم أربعة وستة..}ص88.
وكان من نتيجة ذلك أن أصبح الهروب –هروب الوعى- هو وسيلة العصر، حيث يبرر كل لنفسه أسباب اللجوء، وأنه مساعد له فى عمله {المراكب لا تحمل الخمر والحشيش ولا تأتى بعشاء فاخر فقط. فالحيلة أنجبت أيضا الفن والكتابة والموضوعات الصحفية وألقت بهم على المراكب. فكان رشاد يكتب عن القرى والنجوع ويجرى تحقيقات عن أحوال الناس، ويلتقى بشعراء وكتاب. ويصور رجب الموالد وأضرحة أولياء الله الصالحين والمداحين، ويتعرف على الناس ليضاعف أصحاب المراكب فى المستقبل. لم يفرق رجب أبدا بين سلفى أو إخوانى، ولا يسارى أو يمينى، ولا مسلم أو مسيحى، كان الجميع فى نظره مراكب، إما آتية بالخير أو راحلة بالشر}ص30. فالمهم، ان يظل مغيبا عن الواقع –الذى يرفضه-.
وكان من نتيجة تلك الحالة، أن تحدث نكسة يونيو 1967، فمن الأمور التى لا تدع مجالا للشك فى أن نكسة يونيو، تركت وراءها الكثير والكثير من الضحايا، وفرقت الأحباب، وغادر الصحاب، فها هى (الشلة) التى شكلها الكاتب لتعيش حالة التغييب، مات منها من مات، وتفرقت بالأحياء السبل، بل ثارت المناقشات الحادة، بل وجهات النظر المتباينة. فينتهز الكاتب الفرصة، ويعلن عن موقف آخر من النفاق والازدواجية. فقد مات “رضا الجمال”، فيصرح السارد { يموت القريبون، وكأنهم اتفقوا مع مصائرهم بحيث يكون كل من يحبونهم بعيدين فى تلك اللحظة الثقيلة. بعضهم يسمح لنا بحضور الجنازة كعلامة على درجة القرب، والبعض الآخر يرفق بنا فيمنحنا فرصة الحضور لعزاء من أجل أن نُظهر محبتنا له أمام الآخرين، والبعض الثالث يمهلنا بكرم نادر، حتى ذكرى الأربعين، لكى نستجمع شجاعتنا ونطلق أكبر قدر من عبارات العزاء والمواساة ونثبت للآخرين، وربما لأنفسنا أيضا، أننا كنا الأقرب للفقيد}ص97. فحتى فى حالة الفق والموت، لا يخلو الأمر من الازدواجية، والعيش باكثر من وجه.
ويقع الخلاف بين “رجب الصافورى” و”رشاد عامر” وكأن الفجيعة المتمثلة فى الموت، أفاقت الجميع، وليسأل الأخير عن الجرح، مؤكدا أن{جرح القلب هو الغضب الأخرس، والخرس المهيمن على بركان الغضب}ص100. ولتشع العبارة بالمسكوت عنه، عن الغضب الكامن فى الصدور، يكتم عليه الصمت، فيزداد ألما للنفس.
وكما تعودنا مع الكاتب، يخرج من الحيز الضيق إل سعة العالم ليؤكد صدق ما استنبطه من أحوال البلاد والعباد. {ليس هناك فى دول الغبار البشرى أسوأ من أبناء آدم اسميث، إلا أبناء كارل ماركس ولينين. دورانهم حول بعضهم البعض يعطى انطباعا أسطوريا بدوران أبناء إبراهيم حول بعضهم البعض وضد بعضهم البعض. يتعاركون على شئ ما لا يعلمه حتى الشيطان نفسه… رشاد نفسه يشارك مينا أندراوس فى صالون للتجميل، وفى الوقت نفسه يتحدث عن حقوق العمال والفلاحين وتأميم الملكيات, وإلغاء الدولة}ص39. فاستخدام اسم (آدم) يعود بالذهن إلى ابو البشر جميعا، ومن بعده كان “آدم سميث” (5 يونيو 1723 – 17 يوليو 1790) صاحب أقدم نظرية إقتصادية رأت ربط الاقتصاد بالحياة، تحكمها المنفعة. ولا شك أن المنفعة تختلف من الإنسان العادى، إلى الإنسان ذات المسئولية. لذا يعتبر هو أبو الاقتصاد اليمينى. بينما كان كلٌ من كارل ماركس ولينين هم أول الشيوعية والتى نادى بملكية الدولة، ونفت أن يكون للفرد كيان مستقل. فجاء إبراهيم- وهو أبو الأنبياء- ليتأرج أبناؤه بين الاتجاهين، فلا أظنه بخفى عن أحد، الاختلاف، أو بمعنى أدق الخلاف بين الأديان الثلاثة(اليهودية، والمسيحية والإسلام) وما فى داخل كل ديانة منها من شُعب ومذاهب وملل، بينها من الخلافات ما يؤدى إلى الحروب والضغائن. والكاتب بلغته الساخرة، يلعن الإثنين معا (آدم سميث وكارل ماركس)، فكلاهما كان وراء خلق الخلافات.
السخرية
السخرية، جزء أصيل فى كل كتابات أشرف الصباغ، وكأنها صفة لصيقة بكل ما يتحدث به. ومن خلال السخرية، يسوق الكثير من الانتقادات التى تكشف عورة من عورات المجتمع. فبعد أن يتحدث عن أن القراءة، شئ عادى فى حياة السوفييت، ينتقل إلى الوضع فى مصر، وكأنه يعقد المقارنة، ولما هم هناك يقراون، بينما نحن هنا مغيبون. فهنا، يتحدث عن “مكتبة أم مديحة”، ومجرد ذلك اسم “أم مديحة” يوحى مباشة بالسخرية، والتعكم. حيث يكشف من خلالها، الوضع هنا{أهمية وحيوية “مكتبة أم مديحة” ليستا فقط كمكان أو مساحة جغرافية، بل وأيضا كإسهام مصرى أصيل لصياغة مفهوم القراءة كفعل مخالف لما تعودنا عليه، وكممارسة متعددة الأهداف والتجليات. ولذا لم نجد إلا مكتبة أم مديحة “غرزة أم مديحة سابقا”، نمارس فيها أرفع وأهم وأعمق قراءات التاريخ والجغرافيا والمنطق والفلسفة والدين والسياسة والشعر، والمؤلفات الكاملة لدستوفيسكى وكارل ماركس ويوربيدس وإزابيل الليندى، ولعن جائزة نوبل وسب لجانها}ص71. فلم تكن “مكنبة أم مديحة” سوى خمارة، يُخرج فيها المصريون اللعنات على من يقرأون، ومن يهتمون بالقراءة.
وعندما يغيب “رجب الصافورى” وتشح البضاعة(المخدر) حيث{إنها تأتى فقط عندما يكون رجب حاضرا وموجودا بيننا. الليل طويل ونحن بحاجة إلى مدد….. قلت له: لا يوجد غير رضا الجمال. فقال ضاحكا : رضا يجلس الآن فى أى فلوكة تحمله إلى أى بر. إنه يجلس منذ عام فى فيلته من دون شغل. لنذهب إلى “صابر مختار”. فهو قد عاد من اليمن الجنوبى قبل أسبوع، ولابد أن يكون جيبه عامر بالإيمان}ص75. وإن كانت(جيبه عامر بالإيمان) جاءت على سبيل السخرية، إلا انها تستدعى قول كارل ماركس، عندما قال (الدين أفيون الشعوب).وهى المقولة المنكور فى علانية (هنا) بينما تطبيقه العملى أيضا (هنا). فالجملة رغم سخريتها إلا انها تعد وصفا لحالة البلاد الى تعيش الازدواجية، وتعتبر أحد آفاتها، التى يعول عليها الكاتب فى سخريته.
الشاعرية.. والحالة الإنسانية
تعتبر من أهم عناصر الشعرية، أنها تنبع من الداخل، من مكنون النفس البشرية، الذاتية، تحت مؤثر خارجى، فتفجر المشاعر، وتؤجج العواطف، فتحيل المكروه إلى محبوب، والخراب والضمار إلى جنة رضوان، أى أنها تساهم فى إضفاء الجمال على كل شئ. فعندما وضعت مديحة يدها، على كتف السارد، وكأنها أوصلت التيار المكهرب، فسرى التيار، وتحرك الساكن، فهاجت مشاعره الإنسانية، فكان وصف “مديحة” التى تعمل فى الخمارة، وتدور حولها الرغبات، لتصبح وكأنها الملاك، فكانت اللحظة الشعرية:
{صارت “مديحة”، فجأة، إمرأة من لحم ودم، تجمع ما بين حلاوة الصورة وطراوة الحقيقة. ألعن من القاهرة وأقسى من خربشاتها، أمكر من حية وأحن من قلب أم، عيونها شفاء، ولمستها حياة وبسمتها قدر، لاتسكن لها حركة ولا تنام لها روح، لا يغمض لها جفن ولا تختفى لها بسمة، مثل خلية أولى انقسمت فوضعت إلها على العرش، ثم زينت الكون ببشر يعبدونه، وراحت تضع فى كل كون آدم بعد آدم بعد آخر، حتى حطت كفها فوق كتفى، ومسحت بكفها الأخرى على صدرى فلم تكن بردا ولا سلاما، بل بشارة لا حملتها مراكب ولا رحلت بها من قبل}ص93.
ولم تكن الشاعرية، والسخرية هما فقط التى وسمت لغة الرواية وصياغتها، وإنما تنوع السرد، احد العانصر الت تعكس قدرة الكاتب على التلاعب بالإسلوب، فنراه فى الخمارة غيره فى غيرها، مستخدما ما يليق بالمكان، وبطبيعى الشخصيات.
نورا
من بين عديد الشخصيات التى صنعها الكاتب، تقف متفردة، ليس لاسمها فقط “نورا”، ولكن لكونها منذ البداية، نشأت فى المنطقة الحائرة {نورا ابنة الصمت الذى يولد ويعشش فى بيوت الموظفين الصغار المحافظين الذين يراوحون بين الإلتزام الدينى بقدر المستطاع وإعالة الأسرة والحلم بالارتقاء الوظيفى. ولدت وتربت فى تلك المنطقة الرمادية التى تقع بالقرب من كل شئ، وتبعد فى الوقت نفسه عن كل شئ}ص21. تلك المنطقة التى تُثير الحية، فنراها تعرفت بالكثير، وتزوجت أكثر من مرة، لكنها أبدا لم تستقر، فكان قلقها، وطبيعة شخصيتها ما يثيران الدهشة فيمن يتأمل. ونعرف أنها خرجت عن سلطة الأب، الذى فرح ورحب باختها حينما تحجبت، على الرغم من أن الجاب لم يمنعها من المصاريف التى تتطلبها أى فتاة -غير محجبة- كما لم يمنع عنها التحرش الذى تتعرض له المرأة عامة. واستقلت “نورا” بنفسها، وأقامت بعيدا عن الأجواء التى فقدت فيها المثالية، وكانت صدمتها-فى والدها- من المؤثرات التى أثرت فى نفسيتها-كإنسانة- وأشارت إلى رمزيتها فى ذات الوقت {يشغل والد نورا وظيفة بدرجة محترمة بعد خدمة ثلاثين عاما بوزارة التموين. يعتبر مثالا لأبناء الشريحة الوسطى من الطبقة المتوسطة. يواظب على أداء الفرائض، ويتمتع بسيرة طيبة فى المنطقة، يحب بناته وزوجته ولا يقصر أبدا فى طلباتهم، لمحته “نورا” ذات مرة أثناء دراستها فى السنة الثالثة. بصحبة امرأة. وبعد فترة عرفت أنها زوجته الثانية فى السر، انهارت صورة الأب}ص24. ولم تفصح –نورا- لوالدها أو أى ممن عرفت عن تلك الواقعة.
ويحكى السارد، الذى يسافر كثيرا، ولا يستقر فى مصر طويلا، الأمر الذى يشير إلى القلق الذى يعانيه فيها، ورفضه للأوضاع فيها{لم تكن نورا صديقتى. ولا أدرى ماذا يمكن أن يحدث بيننا لو كنت أقضى أوقاتا طويلة فى مصر. حكت لى “نسمة” كثيرا، وكلما كانت تحكى عنها، كنت أزداد خوفا وحذرا من الاقتراب منها، لا أدرى أيضا لماذا} {ومن علاقات “نورا” مع أصدقائى وغير أصدقائى، أنها مختلفة، لم أستطع الحكم عليها أو تصنيفها، لكنها كانت تتميز بالصبر وقوة الاحتمال والكرم والبرجماتي المحسوب جيدا}ص109. كل ذلك يدعو للتأمل، والإدراك أن “نورا” شخصية متفردة ومختلفة عن ذلك الوسط الذى يعيشه السارد.
ومن بين ما حكت عنه “نسمة” التى اقتربت كثيرا من “نورا” حتى أنها كانت وكيلة أعمالها، الأمر أيضا الذى له دلالته، المرتبطة باسمها. حيث أكدت كثيرا أن “نوار” من أهم صفاتها (الاستغناء)، ثقافتها واسعة، وشاملة، خفيفة الظل وذكية تهتم بالتفاصيل. انضمت إلى الحزب(حزب الشعب)، لكنها رأت أن الأمور لا تختلف كثيرا عما هو موجود فى الشارع والمواصلات العامة، حيث شعرت بالتحرش والكيل بمكيالين، بين متحرش غريب يجب الحكم عيه بالإعدام، ومتحرش زميل، علينا أن نفهمه، فادركت أن الأمور تدور فى إطار الكلام، لا أكثر، وهناك عطب ما.. ربما كان فى الازدواجية التى يمارسها زعماء الحزب.
وتحكى “نسمة” أنها فى جلسة على المقهى{راحت تقلد اللهجة القروية التى تتحدث بها ابنة بائعة الجرائد. ضحك الجميع، ما عدا “نورا” التى ثارت ووبختها أمامهم، ثم انصرفت. وفى مرة ثانية {عندما هربوا من من قيظ القاهرة وتوجهوا إلى الغردقة لقضاء عدة أيام، وقفت “نورا” فى وسط الشارع وأعطتهم درسا فى الأدب والأخلاق واحترام البسطاء، ثم تركتهم وعادت إلى القاهرة. احتجت نورا يومها على تعامل أحد الزملاء مع صبى صغير كان يحضر لهم المشروبات}ص111. وغير ذلك من المواقف التى تؤكد إختلاف شخصية “نورا” عن غيرها، وأنها تعطف على الفقراء، لكنها لا تتفق مع تصرفات قادة الحزب الذى ينادى بذات ما تؤمن به.
فضلا عن علاقتها ببعض من أصدقاء السارد، بل تزوجت من “عادل محجوب” (الوصولى) ومن “رشاد عامر” اليسارى. غير أنها علاقات لم تمتد كثيرا، وكأنها كانت تبحث عن من يمكن أن يحقق لها المعادلة الصعبة، وهى كيف يمكن الخروج من الازواجية، والرياء والنفاق، والتعاطف مع البطبقات التحتية.
واختف نورا بعض الوقت، لكنها فجأة تستدعى السارد للقاء منفرد، وطلبت ألا يُخبر أحدا بهذه المقابلة. وهنا يجب مراعاة إختلاف السرد، وتحوله من السخرية، وجلسات المقاهى، إلى الجدية والتعالى فى الصياغة، أى أخذ السرد معنى الجدية والتخلى عن السخري، واكتنفه عمق الثقافة وتوارى المعانى. لنتعرف –خلال تلك المقابلة- على أنها لا تسعى لعملية الاستغناء، فالاستغناء، شئ ليس سهلا، ولكن للظروف التى تراها، تلجأ لعملية الاستغناء. وهنا سنلحظ أنها لجأت لعملية الاستغناء- التى تحدثت عنها “نسمة” مع السارد عنها- مع كل من الأب (الماضى) والأزواج (الحاضر) وتخيرت السارد دون غيره للحديث والتأمل وكشف المخبوء(المستقبل). فنحن هنا أمام شخصية تعيش بين البشر، كشخصية إنسانية، ولكنها فى ذات الوقت، وبتصرفاتها، توحى بالرمز
ثم يأتى ما يؤكد رمزيتها. ففى النهاية، عندما يبحث الجميع عنها، ولا احد يعرف، اين هى الآن، أو أين مصر من كل هذا!. ففى غيبوبة الشعب، وتوهانه بين الخمر والحشيش، والدين وابتسامات الرئيس.. ضاعت مصر، فيقول السارد {وشيدتُ برج حمام لى ولأهل مدينتنا الذين أدمنوا الصمت والضجيج وأصبحوا يعبدون القبح والدين وبرامج التوك شو وخطابات الرئيس ووعوده وابتساماته الغامضة}ص127. وكأن السارد/ الكاتب ما سار بنا كل تلك الرحلة عبر الحانات والخمارت، والشوارع والأزقة، إلا للبحث عن مصر، ولماذا غابت منذ نحو عشر سنوات.
حال البلد
المبدع –عامة- وأشرف الصباغ خاصة، أناس يعيشون واقعا معاشا، يحمل الكثير والكثير من الأوضاع غير المقبولة، والتى يرفضها، بحثا عن المدينة الفاضلة، خاصة الكاتب الذى يتنقل كثيرا بين مصر وروسيا، فهو يعيش طوال الوقت فى حالة مقارنة. كما أن المبدع لا يعود إلى أحداث مضت من سنوات، ليعيد كتابة التاريخ، او ينكأ الجروح التى حدثت فى الماضى، وإنما يسعى للحديث عن الآنى، فى صورة الماضى، أو ان يتخذ منه العبرة، فصلاح أحوال الآنى المعوج. وهو فى هذه الحالة، يستنهض فكر القارئ، ويدعوه للتأمل والتدبر. فإذا ما قرأنا عبارة مثل:(مراكب رجب الصافورى مثل مواكب الرجاء والأمل، تتحرك بين الجبانات والشقق الفخمة، بين أطفال يعيشون مع الموتى فى المقابر، وفتيات يفرقهن الزبائن وتجمعهن الشقق الجماعيىة مثل عمال التراحيل فى الخيام والمعسكرات}ص13. فالقارئ حينها لابد أن ينظر حوله، ويتأمل ما يدور من حوله. وما يمكن أن يكون قد تغير، أو ما وجه الشبه.
وإذا كان لعبة السياسة دائما تتأرجح بين المتن والهامش، بين القاهرة، بمن فيها، وبين الفئات المنسية، أو المهمشة، فلابد أن يسأل نفسه أولا، هل تلك الفئات قد نالت بعضا من حقها على السلطة، أم أن الأمر لم يزل على حاله. فحين يلتقى السارد أحد المحفلطين- وهكذا سماهم الكاتب، نظرا لتقعرهم فى التشدق بالشعارات الرنانو والمحفوظة- ويدور الحوار بينهم، حيث يقول المحفلط:{إنه لابد من إنهاء “العصر القاهرى”.. وتابع موضع إنهاء سلطة القاهرة وتحكمها فى قرارمصر ومصيرها، وتسلطها على تاريخ البلاد، واستئثارها بالموارد والاستثمارات، وتطفلها على جسد الوطن الهزيل وجشعها وامتصاصها عصارته المادية والثقافية. شرح لى كيف أن إعمار هذه المدينة هو الذى سبب الخراب لمصر وانتهك مواردها وثرواتها وبراءتها… قال بثقة أن جمال حمدان مزور ومدلس ولا يفهم فى التاريخ ولا فى الجغرافيا، بينما الزعيم المقدس الآتى حتما هو الذى سيكون ملما بأصول الطب والهندسة والجغرافيا وقراءة الطالع، يمتلك الحكمة ويفسر الأحلام ويعرف كل صغيرة وكبيرة فى الكون}ص123.فهنا لبد للقارئ أن يتأمل الكلمات ويتأمل فيما حوله. وليشعر كم هو سلس ذلك الانتقال بين الأزمنة.
دأب أشرف الصباغ، ان يمتع قارئه بما يملك من سخرية، تجعله يشعر بالسعادة، أن هناك من يُنفثُ عن مكنون نفسه. وبالثقافة التى تُشعر الباحث عنها، أن هذا الكاتب لا يكتب بالفطرة وحدها، ولا بالعاطفة وحدها، وإنما هو يسعى لأن يكون عمله، مُشْبِعا عاطفيا، ومُشْبِعا عقليا، ومساهما فى إيقاظ الوعى المغيب، ثالثا. فكانت “مراكب الغياب” تحمل الفكر والتنوير، كما تحمل المتعة، والسؤال. غير أنه لا ينتظر إجابة، فعليه هو-القارئ- أن يجيب لنفسه أولا………
…………………………..
[1] – أشرف الصباغ – مراكب الغياب – روافد للنشر والتوزيع- ط1 2024.