“مراكب الغياب” لأشرف الصباغ: عبثية الحياة وضياع الأحلام

فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

آية السمالوسي

يقدم أشرف الصباغ في روايته “مراكب الغياب”، الصادرة عن دار “روافد” 2024، صورة بانورامية لحقبتي الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، لقطاع من المجتمع المصري، وعلاقة أفراده ببعضهم البعض من جهة، وعلاقتهم ببقية أفراد وقطاعات المجتمع من جهة أخرى. ويكشف لنا من خلال الأحداث التي يدور أغلبها في مدينة القاهرة، وفي وسط “البلد” عن مفارقات وكوارث تلك الفترات الانتقالية التي تشهد تَبَدُّل الأجيال وانسحاب جيل وبشائر حلول جيل جديد.

تضم الرواية مجموعة من الشخصيات التي تنتمي إلى شرائح اجتماعية مختلفة وإن كانت ضمن طبقة واحدة، هي الطبقة الوسطى، إضافة إلى مديحة وأسرتها وأم حافظ اللتين تنتميان عمليا إلى الطبقة الدنيا. فلدينا رجب الصافوري، ابن العائلة البورسعيدية التي هاجرت إلى القاهرة بعد هزيمة يونيو، والذي يبدو أكبر المجموعة سنا، وأكثرها نشاطا وحيوية وريادة. يبدو رجب أكثر وعيا بالواقع الاجتماعي والسياسي المحيط، لكنه أكثر إحباطا وفشلا أيضا رغم أنه يعمل مخرجا تلفزيونيا، وكان عضوا سابقا في حزب يساري سري. شارك في سنوات شبابه الأولى في انتفاضة الخبز التي أفرزت جيلا محبطا وضائعا مثلما فعلت نكسة 67. وهو يرفع دوما شعار “المراكب جاية” الذي يبدو أنه يحمل في طياته بعض الانتهازية واللامبالاة، ولكن من خلال السرد والأحدث نكتشف أنه يحمل في طياته فلسفة عميقة من قلب الحياة نفسها.

أما سامح علوان، الراوي والبطل الرئيسي، الذي اشتغل في الصحافة بعد تخرجه وخوضه تجربة الأحزاب والتنظيمات السرية اليسارية، صار رجل أعمال وتاجر أدوات طبية يتنقل بين عشرات الدول. وربما تكون هذه الشخصية هي المرأة التي تعكس تحولات الوعي في ظل مجتمع ضاغط يعاني من أمراض الركود والتخلف والفقر. فهو يشاهد ويري من جهة، ويشارك ويعاني ويواجه مشاكل وإحباطات من جهة أخرى، إلى أن ينتهي به الأمر وحيدا تائها حائرا في ميدان التحرير بعد وفاة أم حافظ، واختفاء كل من نورا خطاب أولا، ثم اختفاء رجب الصافوري. بينما لا يستطيع أن يعود إلى حبيبته مديحه، وهو لم يعثر بعد على الإجابات..

تطرح الرواية شخصيتين نسائيتين رئيسيتين تتخذ كل منهما خطا مختلفا في الحياة. فنورا خطاب “ابنة الصمت الذي يولد ويعشش في بيوت الموظفين الصغار المحافظين الذين يراوحون بين الالتزام الديني بقدر المستطاع وإعالة الأسرة والحلم بالارتقاء الوظيفي. ولدت وتربت في تلك المنطقة الرمادية التي تقع بالقرب من كل شيء، وتبعد في الوقت نفسه عن كل شيء”، هي نموذج الفتاة المصرية المعاصرة التي تحاول تحقيق ذاتها، وتحمل الكثير من الخبرات والتعقيدات والتناقضات. بدأت كشاعرة موهوبة واعدة، ثم اختفت فجأة بعد جولات من الفشل في الحب والزواج، وبعد أن انكشفت لها بعض جوانب العلاقات داخل المؤسسات الإعلامية والأحزاب اليسارية والتنظيمات السرية. وكانت هي إحدى ضحايا هذه المنظومة الجهنمية، سواء بتوقفها عن الإبداع وانضمامها إلى قبيلة اللا مبالين، أو بفشل زواجها من الصحفي الانتهازي عادل محجوب، أو بفضل علاقتها مع رشاد عامر أو رجب الصافوري. لكنها تعود بعد عشر سنوات محملة بالخبرة، ومسلحة بقوة وطاقة جديدتين لتعترف بالأخطاء وتبدأ بالنظر إلى المستقبل. لكنها تقع تحت وطأة تناقضاتها، فهي ابنة جيل فاشل في الأساس، وابنة واقع ملئ بالتناقضات، زرع في وعيها الكثير من الأزمات والمشاكل.

أما مديحة ابنة الطبقة الدنيا، فهي تطرح النموذج الضد لنورا خطاب. تعيش مع أسرتها في بيت بمنطقة “الحسين”. لم تحصل على أي تعليم، ولم تفكر في الخروج من بيتها، ولا تشغلها القضايا الكبرى. هي ابنة “الغرزة” التي ولدت وتربت ونشأت فيها. وفيها أيضا تحولت إلى امرأة تمتلك كل الخبرات اللازمة لمعاركة الحياة. تعرفت على العالم من خلال زبائن الغرزة ومعاشرتها لهم، حتى التقت سامح علوان. وهنا تتجلى أقسى وأحط تناقضات المجتمع، وتناقضات شرائحه الاجتماعية وأفراده ومثقفيه.

تكشف الرواية أيضا عن عالم الأحزاب السياسية التي تدافع عن العمال والفلاحين، وتناضل من أجل مصلحة الشعب، بينما ينشغل أعضاؤها بمصالحهم الخاصة. فرشاد عامر الصحفي، ابن الشرقية، يتعرف على مينا أندراوس ابن حي عابدين، الذي تنتمي إلى حزب يساري مناهض للرأسمالية والنيو ليبرالية. يتشارك الاثنان في صالون للتجميل، في وقت يناضلان فيه من أجل حقوق العمال والفلاحين وتأميم الملكيات وإلغاء الدولة. وعلى مدى الرواية بالكامل نتابع تحولات رشاد المثقف الثائر الذي يحلم بتغيير المجتمع، ثم فقدانه حبه الكبير “نورا خطاب”، وعلاقته مع كل من عادل محجوب الصحفي الكبير الذي اختطف منه حبيبته وتزوجها، ومع مينا أندراوس المناضل ورجل الأعمال.

مينا شخصية أكثر براجماتية وواقعية من رشاد. تستغل السياسة والعلاقات والأحزاب لتحقيق مصالح ومكاسب شخصية، بمساعدة أخته ميرفت أندراوس عضوة الحزب ومديرة صالون التجميل. هذا الخط الدرامي يكشف الكثير من التناقضات في قالب كوميدي وساخر حد الألم، وحد فضح النفس البشرية والكشف عن مناطقها المظلمة.

تتحرك الأحداث على مساحة ما يقرب من عشرين عاما، حتى تصل إلى نهاية قرن وبداية قرن آخر، عبر تحولات سياسية واجتماعية ونفسية لأشخاص وأحزاب وأفكار كبرى، ومن خلال فشل وإحباطات وحيوات عبثية في سياق كوميدي أحيانا، وفي سياق حزين وموجع في أحيان أخرى.

تقدم الرواية نقدًا اجتماعيًا وتشريحًا للمجتمع ككل، حيث تبتعد الأحداث من القاهرة إلى إحدى قرى الوادي الجديد ليلتقي رجب بشخصية غريبة الأطوار تدعى البروفيسور منصور الفيل، محط احترام وتقدير من أهل القرية كونه عالمًا صوفيًا ولديه قدرات خارقة في شفاء الناس روحياً بطرد الجن والعفاريت من أجسادهم، ولا سيما النساء، حيث لا يخرج هذا الجن من أجسادهن إلا بمعاشرة البروفيسور لهن بعد أن يشرب السجائر المحشوة بالحشيش. يعرف هذا البروفيسور كل أسرار بيوت القرية ولا تخفى عليه شيء والناس يذعنون إليه في سكون ومهابة. يسكن في قصر لا يشبه القصور في شيء غير اسمه، تحيط به حديقة غنّاء لا تختلف عن حال القصر المزعوم كثيرًا.

تُظهر الرواية أيضا التناقضات في المجتمع المصري، حيث يمثل الراوي- سامح علوان- مثقفًا مثاليًا، بينما تمثل أم حافظ عقل الطبقات الشعبية وحياتها المليئة بالمشاكل والأزمات. فهو ينظر إلى العالم من خلال كتبه وشعاراته وأفكاره، لا يمتلك القدرة على الفعل، مشتت بين الواقع الفعلي وبين نظرياته وتهويماته، وأيضا بين عالم مديحة، وبين عالم نورا خطاب. وفي النهاية يدرك أن مديحة هي الواقع بكل ما فيه من كوارث وتناقضات. لكن يبدو أن الوقت كان قد تأخر. إنها الحياة وعبثيتها وقوانينها التي كشفت أن مديحة، على سبيل المثال، أكثر واقعية وثباتًا من سامح، تدرك حدود عالمها، دون أي أوهام أو أحلام ثورية. بالضبط مثل أم حافظ، تلك الشخصية العميقة التي تجمع بين الحكمة الشعبية وواقع الحياة وبصيرة البسطاء.

في هذا العمل نجد أنفسنا أمام “ضحايا بشرية، من نساء ورجال وشباب وفتيات، عبارة عن كائنات تتحرك داخل أطر مشوهة نحو مصائر مجهولة”. بينما تظهر المراكب واضحة ومباشرة في مواقف، وتتوارى معانيها ودلالاتها في مواقف أخرى لتطرح تساؤلات فلسفية، ثم تبرز من جديد بمجازات حادة وموجعة لتضعنا أمام تساؤلات حول مصائر الشخصيات وما تحمله الحياة من مفاجآت وتحولات.

قد تشي النهاية بشكل عام بعبثية الحياة وتناقضاتها وتعقيداتها، حيث يختفي أشخاص، وينتقل أشخاص من طبقة اجتماعية إلى طبقة أخرى، ويموت آخرون بشكل مجاني تماما. بينما تواصل المراكب إبحارها في الفوضى المتلاطمة، مخلفة وراءها أحلامًا محطمة وآمالا عصية على التحقيق، أو حاملة على متنها جثث وطموحات لم تكتمل. لكن النهاية المفتوحة قد تمنحنا ولو قبسا بسيطا من النور لنتأمل من خلاله مآلات المصائر الإنسانية، وتناقضات النفس البشرية. لتتحول المراكب إلى بشير خير، يحمل على متنه أجيالا استنفدت مهمتها، بأخطائها وإحباطاتها وفشلها، ويأتي بأجيال قد تتعلم الدرس، وقد ترتكب أخطاء جديدة، وقد تكرر نفس الأخطاء القديمة فتلقى نفس المصائر.
………………
* مجلة “عالم الكتاب”، عدد شهر ديسمبر 2024

عودة إلى الملف

مقالات من نفس القسم