د.خالد عاشور
إلى هنا ينتهى حديث نقاد نجيب محفوظ عن مراحل الإبداع فى أدبه.
وعلى الرغم من أن الكاتب صدر له أكثر من خمس عشرة رواية بعد “ميرامار”؛ فإن الدراسات التى عرضت لبعض منها ـ وهى دراسات قليلة(·)إذا قورنت بدراسات أعماله السابقة ـ لم تتناولها فى إطار مرحلى أسوة بأعماله السالفة.
والحق أنى لم أجد تفسيراً مقنعاً لهذا حتى الآن: هل لأن التقسيم المرحلى ناسب روايات المراحل الأولى حتى ميرامار، ولم يعد يناسب الأعمال التالية لها؟
لقد كان معروفاً عن نجيب محفوظ ـ من خلال نقاده ـ أنه أديب مغرم بالتجريب والتطوير وأنه لم يُطق أبداً أن يحبس نفسه داخل إطار فنى واحد. ومسيرته الفنية شاهدة على ذلك. غير أن هذا التطوير والتجريب صاحب الكاتب على طول حياته الفنية، مما يرشح أعماله التالية لميرامار لأن تدخل ضمن مراحل تُبين تطوره الفنى. فلم هذا الصمت بعد ميرامار؟
إن التفسير الذى نرتضيه لهذا التوقف من نقاد نجيب محفوظ عن دراستهم لمراحل الإبداع عند الكاتب يعود:
أولاً: إلى أن إنتاج الكاتب عقب “ميرامار” دخل فى منعطفات كثيرة ولم يسرْ فى خطٍ مستوٍ يسهل معه التصنيف مثلما كان كذلك فى مراحله السابقة؛ فالخط التاريخى ثم الواقعى ثم الفلسفى، كلها خطوط مستوية يسهل الإمساك بها وتصنيفها، بخلاف إنتاج الكاتب بعد ذلك الذى سار فيه على نحو متعرج، من القصة القصيرة إلى الملحمة إلى كتب الشخصيات إلى استلهام التراث الأسطورى. فمن هنا آثر النقاد أن يتناولوا هذه الأعمال على نحو منفرد، والبعد عن مسألة التصنيف القديمة، فليس فى هذه الأعمال ما يشجع على إدراجها ضمن مرحلة بعينها.
ويعود الأمر ثانياً إلى أن الحركة النقدية التى صاحبت أعمال نجيب محفوظ فيما بعد ميرامار تبدو فى جملتها قليلة إذا ما قورنت بما أثير حول الكاتب من نقد فى مراحله الأولى. وهناك إشارات كثيرة ـ عند أكثر من ناقد ـ إلى أن روايات المرحلة الفلسفية مثلاً هى الحلقة الذهبية فى أعمال نجيب محفوظ، وأنها درة أعماله، وأنها إضافة نجيب محفوظ إلى الرواية العربية بل والعالمية…إلخ، وقد قيل مثل هذا عن الثلاثية فى المرحلة الواقعية.
وهو أمر لم يحدث مثله مع الأعمال التالية، فمعظم الدراسات النقدية عن أدب نجيب محفوظ تركزت حول أعماله الأولى: الواقعية وخاصة الثلاثية، والفلسفية وخاصة اللص والكلاب. وبعد فوز الكاتب بجائزة نوبل انصرف النقاد عن دراسة أعماله ـ بالقدر الكافى ـ إلى الاحتفاء به كعلامة لنصر أدبى طال انتظاره، ولم يجد بعض النقاد فى الجائزة ـ فى غمرة الفرح بها ـ دافعاً لاستمرار النظر النقدى فى أدب الكاتب وأعماله التى غطت حقبة السبعينيات والثمانينيات، بل راح ـ بتشجيع من الصحف ودور النشر بحثاً عن عائد مادى مضمون ـ يعيد طباعة أعماله القديمة عن نجيب محفوظ ربما ليبرهن للناس أنه تنبأ لهذا الكاتب بما وصل إليه من مكانة أدبية رفيعة.
وكانت النتيجة أن أهملت أعمال كثيرة لنجيب محفوظ، وأصبح المعروف عن إبداع نجيب محفوظ مراحل إبداعه الشائعة: التاريخية فالواقعية فالفلسفية، بأعمالها الروائية المعروفة.
وتبقى الإشارة الوحيدة لمسألة المراحل فيما يتعلق بأعمال نجيب محفوظ بعد “ميرامار” لدى ناقدين هما طه وادى وفاروق عبدالقادر: فلقد صدر لطه وادى كتاب عقب وفاة نجيب محفوظ جمع فيه مجموعة من دراساته السابقة عن الكاتب، ومقدمة ذكر فيها أن أعمال نجيب محفوظ تنقسم بدورها إلى أربعة مراحل هى: المرحلة التاريخية، والواقعية النقدية، والواقعية الفلسفية، وقد عرضنا لوجهة نظره فيما يتعلق بتفاصيل هذه المراحل، ثم المرحلة الأخيرة: وهى “العودة إلى الواقعية النقدية”، وضم فيها الناقد أعمال نجيب محفوظ الروائية من المرايا إلى قشتمر، قائلاً إن نجيب محفوظ عاد فى هذه المرحلة لعالمه المفضل عالم الأحياء الشعبية، كما أنه استمر يكتب فى ضوء المفاهيم الواقعية للأدب. لذا فهو فى نظر الناقد يتميز بأنه بدأ وانتهى كاتباً واقعياً ملتزماً بالتعبير عن الطبقة الوسطى فى المناطق الشعبية من القاهرة القديمة([1]).
ويتضح بدون كثير جهد ما فى هذا الكلام من تعميم يفتقر إلى الجهد والبحث، فقد جمع الناقد بين مالا يجمع، فوضع “المرايا” مع “الحرافيش” مع “رحلة ابن فطومة” مع “قشتمر” فى سلة واحدة. فضلاً عن وصف هذه الأعمال كلها بأنها عودة من الكاتب إلى عالم الأحياء الشعبية الأثير لدى الكاتب!! وهل “رحلة ابن فطومة” مثلاً تنتمى إلى عالم الأحياء الشعبية؟ وهل من الممكن أن تصنف “قلب الليل” على أنها “واقعية نقدية”؟!
أما ما قاله فاروق عبدالقادر فيبدو الأقرب لوجهة نظري فى هذه المسألة. يرى عبد القادر أن أدب نجيب محفوظ مرَّ بثلاث منظومات (يفضلها على كلمة مراحل التى تعني فى رأيه الانقطاع والانفصال):
المنظومة الأولى: تمتد من “عبث الأقدار” حتى الثلاثية، والمنظومة الثانية تمتد من “اللص والكلاب” حتى “ميرامار”. وبين هاتين المنظومتين تأتى رواية “أولاد حارتنا” لتشكل “معبراً” بينهما. ثم تأتى المنظومة الثالثة لتبدأ برواية “الحب تحت المطر” وتنتهى بـ”قشتمر” وبين هاتين المنظومتين تقع “المرايا”. ثم يضيف الناقد مرحلة رابعة تشمل أعمال عقد التسعينيات مثل “أصداء السيرة الذاتية” ومجموعة “القرار الأخير”. ويقول عنها الناقد: إن الكاتب مازال يضيف إليها([2]).
يرى الناقد ـ فى حديثه عن أعمال المرحلة الأولى ـ أن هناك تداخلاً بين رواياته الفرعونية ورواياته الواقعية يسمح بأن ننظر إليهم باعتبارهم مرحلة واحدة. وهو يستشهد هنا بما قاله عبدالمحسن طه بدر عن الصلات الفنية بين “كفاح طيبة” مثلاً وبقية الروايات الواقعية مثل “القاهرة الجديدة”. وتتطور أعمال هذه المرحلة لتصل إلى قمتها فى الثلاثية.
وفى حديثه عن المرحلة الثانية يَعُد “اللص والكلاب” هى انطلاقة هذه المرحلة، معتبراً أن “أولاد حارتنا” لم تستطع أن تأخذ هذه المكانة بسبب الظروف التى أحاطت بها وحالت دون مناقشتها بالقدر الكافى، ولذا فهى فى نظره تشكل معبراً نحو منظومته الثانية.
أما المرحلة الثالثة التى جاءت فى أعقاب هزيمة 1967 والتى كانت فى حاجة إلى معبر قامت به “المرايا”؛ فقد توزعها اتجاهان: الأول يهتم بالأحداث المعاصرة وتمثله “الكرنك”، “عصر الحب”، “الباقى من الزمن ساعة”، “أمام العرش”،”يوم قتل الزعيم”. والاتجاه الثانى يلجأ إلى التراث، وتمثله “رحلة ابن فطومة”، “ليالى ألف ليلة”، “حكايات حارتنا” بالإضافة إلى أكثر أعمال هذه المرحلة نضوجاً وهى فى رأيه: “ملحمة الحرافيش”، “حديث الصباح والمساء”.
أما المنظومة الأخيرة التى لم تكتمل بعد، فيراها الناقد تركز على الفساد الذى أصاب المجتمع وهو يعبر عن ذلك من خلال “الأصداء” والقصص القصيرة التى تنشر تباعاً بأسلوب يتسم بالتركيز والتقطير([3]).
ويتسم حديث فاروق عبدالقادر عن مراحل الإبداع عند نجيب محفوظ بقدر كبير من الشمول والإحاطة والفهم لطبيعة التطور الفنى للكاتب. وهو فهم يستند إلى حاسته النقدية الناضجة، ويعينه على ذلك توقيت دراسته التى جاءت والمشروع الإبداعى لنجيب محفوظ قد قارب على الاكتمال، مما ساعده على النظر إلى مجمل أعمال الكاتب نظرة بانورامية تستوضح كلياته. ولعل هذا هو السبب الذى يمكن أن نرجع إليه قصور نظر النقاد السابقين إلى مسألة المراحل؛ فمعظم دراساتهم عن هذه المسألة جاءت فى فترات لم يكن الكاتب قد استكمل فيها مشروعه الإبداعى فى الستينيات والسبعينيات.
ويبقى فى حديث فاروق عبدالقادر ما يستحق المراجعة مثل عدّه الأعمال من “الحب تحت المطر” حتى “قشتمر” مرحلة واحدة. وأيضاً عدّه “أولاد حارتنا”، و”المرايا” معابر إبداعية بين المراحل، فهى مسألة تصعب على الفهم والقبول
…….……….
(·)مثل دراسات فاطمة موسى عن “أمام العرش”، “الباقى من الزمن ساعة”، “ليالى ألف ليلة”، “رحلة ابن فطومة” فى كتابها “نجيب محفوظ وتطور الرواية العربية”، ودراسة محمد حسن عبدالله عن “الحرافيش” و”قلب الليل” فى “الإسلامية والروحية”، ودراسة رشيد العنانى عن “حضرة المحترم” فى كتابه “عالم نجيب محفوظ من خلال رواياته”.
([1]) طه وادي : أمير الرواية العربية: ص 27
([2])انظر دراسة فاروق عبدالقادر بعنوان “نفحات من عطر نجيب محفوظ” كتبت سنة 2001ونشرت فى كتابه: فى الرواية العربية المعاصرة. كتاب الهلال. القاهرة. العدد 633 سبتمبر 2003