مذاق باب شرقي

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

 أحب الكتب الحزينة، أحب الكتب التي تجعلني أشعر أن هناك بؤساء آخرون هنا معي على  هذا الكوكبِ وإن فصلت بيننا آلاف الكيلومترات، وأنني لستُ وحيدة بائسة بمفردي، أن آخرين يعانون مثلي، وإن اختلفت الأسباب،  على الرغم من أن هذا لا يجعلني أفضل، ولا يخفف من وطأة أي شيء، هو فقط نوع من المشاركة التي قد تُشجعك على المُضي قُدُمًا.

أحب الكتابة الحزينة، أو نوع منها أطلق عليها "الحُزن الحُلو" حزن لطيف، بائس لكل برُقي، قد لا أجيد الوصف، هو شيء أشعر به أكثر من أن استطيع أن اعبر عنه .

 

أحب الكتب التي تجعلني أثناء قراءتها  أشعر انني داخل رحلةٍ ما، أو انني أجالس صديقًا، أو غريبًا لا اعرفه لكنني ألفتَه، أن أحدًا ما يربتُ على كتفي بحروفهِ التي تُشبِهني، أن أحدًا ما يُشاركني ما أحمله على أكتافي من أحمالٍ .

.

كوني قارئة قبل أن أمارس الكتابة، جعلني أحب هذه الكتاباتِ كقارئة أجدها تلمسُني، واحبها ككاتبة لأنها تجعنلي اكتب،  تستفز حروفي للخروج ، وتجعلني أغبط كاتبها، وأسائل نفسي “آه، كيف لم يخطر لي أن اكتب جملة كهذه”.

.

الحًزن يجعل الكتابة تنضُج، ويجعلنا نكتب، ويجعلنا نتقبل الكثير، ونرضى ولا نرضى .

مذاق باب شرقي هو الكتاب الثاني لـ أحمد قطليش، وهو نصوص نثرية. عرفتُ أحمد قطليش  كمؤدٍ صوتي له طابع خاص وإحساس عال ، وذوق رفيع في اختيار النصوص، من بعدها اكتشفت انه يكتبُ أيضًا ، تشوقت للقراءة له نتيجة كل ما سبق .

اليوم رافقني الكتاب ، بدأه بإهداء إلى حبيبته “دمشق”، قال فيه: “إلى من تضبط إيقاع قلبي .. دمش “

.

هذا المُفتتح كان كافيلاً لأن يُحدد لي خيطاً ما قد يسير على منواله الكتاب، ثُم يقول في بداية الصفحات الأولى :

 كلنا لاجئون ، لأن التراب الذي يحتوينا لا يستطيع أن يتحملنا للأبد ”

لا شيء يبقى للأبد ، ولا شيء يتحملنا للأبد ، حتى قلوب من نحب ، ومن أخلصنا لهم ، لا بيوتنا ، لا بلادنا أيضًا ، لا مدرستنا ولا أصدقائنا ، كل يمضي ، حتى نحن نمضي

لا شيء يتحمَّلنا للأبد ..

.

أغلب الكتاب، ينزف ، ينزف دمًا كثيرًا ، آثار الرصاص تبدو واضحة بين الحروف ، الخلفية تحمل بين طيَّاتها صورتان لدمشق ، دمشق الحبيبة الجميلة في أوجِ إزدهارها ، ودمشق الحبيسة المُدمَّرة .

.

الحبُ في الحرب ، الحب تحت القصفِ ، الحب الذي نحارب به الرصاص ، ونجابهُ به ما تبقى منا من روحِ ، نروي به ظمأنا للحياة التي ضاعت تحت أنقاض بيوتنا المُهدَّمة .

يقول :

“خذيني قليلًا إليكِ ، بلا أي همسٍ ، بلا أي اسمٍ لما نحن فيه ، بلا أي ذكرى  لحربِ البلادِ وحربي إليكِ ، خذيني كما تسدلي الشال على كتفيكِ حين تصيرين وحدكِ ..

خذيني ” .

.

يقول:

” خفف الريح عنك

العمر شهقة “

.

” لا سكينة في جسرنا المعلق

بين موجتين “

.

الكتاب لغته مميزة جدًا، والأسلوب سلس، بعض النصوص كانت طويلة، البعض متوسط، وأخرى لم تتجاوز السطر الواحد . لكنه ككل حالة مختلفة، ما بين الحربِ والحبِ، ما بين بعض العبارات عن الحياةِ، عن الأم ..وعن دمشق .

.

عندما سألت أحمد أن يُحدثني عن كتابه مذاق باب شرقي قال: “خطرت لي فكرة هذا الكتاب بعد أن لجأت إلى الأردن إثر الأحداث التي عصفت بسورية، وقد وددت من خلاله أن أبتعد بالناس عن أخبار الحرب قليلاً ليتذوقوا دمشق التي ستظل حاضرة بالثقافة والفنون والحياة رغم كل ما يمر بها، ومع أني أكتب القصة القصيرة، دخلت هذه التجربة التي يمكن ادراجها تحت مسمى قصيدة النثر، إلا أنني لم أصنف الكتاب، وأحببت أن يظل مفتوحا… كفضاء دمشق”.

.

أختتم الكتاب بعبارةٍ لتشيخوف، كما بدأه بها. العبارة الختامية كانت “أنت تعرف الجميع، والجميع هنا يعرفونك، لكنك غريب  .. غريب ووحيد”.

 

مقالات من نفس القسم