مدينتي.. مشاهد لا تلزم أحدا: المقاهي

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 20
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

سعيد بوخليط 

صارت المقاهي في مدينتي؛ على امتداد الأثير. تجاوزت المعدل الممكن استساغته؛ بدرجات غير قابلة للعد.اكتسحت الفضاء أفقيا وعموديا؛ وبلغت الجبال طولا. لم يعد شيء ينبعث من هذا الخارج؛ سوى إنزال مقهى بجوار أخرى.مقهى تسابق مقهى.وهكذا دواليك، حتى يوم القيامة.أخيرا، المدينة بمثابة عنوان لالبس معه عن منظومة العطالة. عطالة وطن برمته؛ قابع في قاعة الانتظار.

تجري الكراسي على أهوائها، تتكرس منظومة لغة الكراسي، كن كرسيا، مطية كرسي، قائمة كرسي… أو اشربْ محيطات الكون، إن استطعت غير هذا بديلا. لقد أخطأ الفلاسفة ملء تعقلهم : الإنسان مجرد كرسي ربما كان حيوانا. الطبيعة عندنا محض ميتافيزيقية لا تكترث بالفراغ ولا يهما أن ينخرها الفراغ.

زاخرة هي مقاهي مدينتي بالأطياف، لا تسكن إلى نفسها نَفَسا واحدا؛ صباحا ومساء؛ قبل بزوغ خيوط يوم ثان، دون أن ينتهي الليل. هذا الليل الطويل الأمد. يشغلون بغير شفقة كراسي المقاهي؛ يمددون أرجلهم بأريحية حتى عنان السماء. صخب، هرج، فوضى ، عِلاَّت السيكوباتية، هستيريات، بكائيات إعادة إنتاج بامتياز لمجتمع العطالة؛ المنتعش فقط بفرص الصدفة والقدرية حسب شعار: ”كُلاّ  وْزْطّو  وْمَاجابْ ليه شْطّاطّو أو شطارتو !”.

رؤوس وقد أفرغت فرغا؛ نتيجة المكائد الدؤوبة للأجهزة الأيديولوجية، تفرغت كي تلاحق حكايات الضحالة. الآذان ممددة بحجم قمة إيفرست، تحصي أنفاس ذرات الذبذبات الهامسة؛ فالجميع يتلصص على الجميع .ثم يجتر الجميع بؤس يومياته؛ ملقيا بكل اللوم على جميع آخر هلامي كأنه يعيش في كوكب ثان. يصب “حريرته” ويسقط جريرته؛ على هذا الجميع الوهمي .يحاولون  إيهام ذواتهم بالبراءة؛براءة الذئب من دم يوسف. مع أنه شحما ولحما وبطنا وأحشاء وأجهزة تناسلية… : بالتأكيد جميعنا مذنب. الأعين مُشَرَّعة ؛  تسرنم نائمة، تنام مستيقظة ؛ من فرط سعيها كي تتربص بلحظة التحول إلى ذئاب، ينهش بعضها البعض.فالمحظوظ ابن المحظوظة؛ حسب منظومة المقاهي، من سينجح في أن يصبح ذئبا لا يشق له غبار.  

كل الحداثة جاثمة على طاولات وكراسي المقهى : سيارات مصطفة، هواتف، حواسب، أجهزة رقمية، لوغوس ،أرقام ،أتمتات، شفرات ،علامات، إشارات… . نعم مختلف ذلك، إلا الحداثة ذاتها، مربط الفرس.يا إلهي أين الحداثة قلبا وقالبا، شكلا ومضمونا، سطحا وجوهرا؟ الزمان معطل تماما، المكان مختنق بالتفاهة، والعمق مجرد إعادة إفراز للضحالة.

هكذا مقومات الحداثة في بعدها الحقيقي؛ غير زيف فضاء الكراسي الجامدة : الزماني أفق عقلاني.المكان أنسنة للإنسان. العمق إطارهما الخلاق. طبعا، في مجتمعات الحداثة الحقة لاوجود أصلا للكراسي، ولا مكان بالمطلق لأشخاص/الكراسي مادامت الطبيعة هناك حقا فيزيائية تخشى الفراغ، ولا قانون يسمو على قانون البيولوجيا. العمل وحده؛ قيمة القيم ومصدر المصادر.

بالتأكيد، ليس أي عمل، بل المبدع البناء للفرد والجماعة يصب في المشروع الفردي والمجتمعي؛ تتقاسمه الدولة والفرد ثم ينتهي عندهما معا.تقاس الدقيقة بالزمان الكوني؛ المنخرط في اللانهائي.يسير قطار التاريخ؛ بسرعة منطق الحركة الفعالة. بالتالي،لا يمكنه التوقف كي ينتظر المتخلفين. ذاك شأنهم ! باتت كائنات خارج الزمان الإنساني؛ فليغمرها التحلّل ثم لتنقرض.

في مقاهي مجتمعات كراسي المقاهي؛ مع انتفاء عمق حداثة الانسان العميق، ترنو مختلف الحقائق صوب نقيضها، المعاكس تماما: الانسان؛ متلاشيا بين طيات المتلاشيات.اللغة محنطة وبليدة. سيادة اللامعنى. القيم الإنسانية الكبرى؛ مجرد ثرثارة مقاهي لا قيمة لها ولا طائل منها، ثم استهلاكا واستنزافا لما تبقى.

فماذا تبقى حقا؛ غير بكائيات كراسي مقاهي، تعضيدا لمنظومة مقاهي/الكراسي، حيث يتوهم الجميع الذي يجلد باستمرار ذاته، معجزة قدوم غودو. 

      

مقالات من نفس القسم