وبينما تتوفر الألف حكاية؛ الأم، على نسيجٍ زماني ومكاني شاسعين، إذ تقع أحداثها على مدى زمني طويل، وتمتد في متنها الحكايات بين مدنٍ مختلفة، وعوالم متباينة تجمع الشرق بالغرب، فإن الحكايات الستة والثلاثين التي تجسد متن قصص “مدينة الحوائط اللانهائية”، تدور داخل مدينة غرائبية تتأسس على أسطورة امرأة بعين وحيدة؛ واسعة، مكحّلة، بها ثلاث حدقات ملونة، لكن هذا في حد ذاته، أي التقيد بمكان محدد وهو مدينة الحوائط، واحد من علامات التطور الجيني للسلالة التي تتكئ على الحكاية والغرائبية.
فمدينة الحوائط؛ مثلها في ذلك مثل الليالي، تتكئ على الحكايات، وعلى الفانتازيا والشخصيات الغريبة، والوقائع العجيبة، تجمع زوار السماء بأهل الأرض، وتجمع الجن بالإنس، لكنها من جهة أخرى، تتسم بسمات الحداثة، وما بعد الحداثة، مجسدة في التكثيف والاختزال، وفي الرمزية، وكذلك على معارضة الإسهاب الحكائي التراثي بالميل للحذف، واعتماد لغة مكثفة تعكس إيقاعًا سريعًا مستلهمًا، ربما، من إيقاع عصر الحداثة؛ الذي يأتي هذا النص بين روافده.
وتجتمع حكايات الابنة، أو بالأحرى الحفيدة (حكايات مدينة الحوائط)؛ مع الأم المؤسِّسة “ألف ليلة” في سمة جينية أصيلة تتمثل في خصوبة الخيال.
الحكايات لا تذكرنا فقط بعجائب ألف ليلة السردية، إذا تهبُّ منها أيضًا نسمات الواقعية السحرية، بمدارسها المختلفة، التي تتأسس على خلخلة الواقع، في جعل العجائبي جزء من الواقع، ومزج الخيالي بالواقع اليومي للشخصيات، وبنفخ الحياة في العجيب ليغدو ممكنا وواقعيا، ثم باختلاق مفارقاتٍ محبوكة تطرح أسئلة تثير فضول القارئ؛ حاثة إياه على الوصول لحل اللغز أو فهم المفارقة.
لكن الشكل الفني الذي يقترحه طارق إمام في هذه الحكايات يقترب أكثر مما يُعرف بالأمثولة أو Alligory، والتي بين تعريفاتها وصفها بأنّها قصة رمزية لها أكثر من معنى؛ قد يكون أبطالها بشر أو حيوانات. لكن لعل أبرز سماتها هو الطابع شديد الرمزية؛ الذي يؤدي بالنص أن يفيض بأكثر من دلالة أو معنى.
ولأجل ذلك تبدو الحبكة، في أغلب القصص، لعبة يستخدمها إمام في تحقيق أكثر من هدف، بخلق تناقض أو غموض، من جهة، وبث نوع من التشويق للسرد، من دون إغفالٍ لتضمين المفارقة أو الحبكة دلالة رمزية؛ قد تحيل إلى الاجتماعي أو السياسي أو الفلسفي، وبالأساس للسؤال الفردي والوجودي؛ لمن يقرأ ما تحت المتن.
لكن واحدًا من أبرز ما يحققه النص، كما أعتقد، ابتعاده التام عن السمة العامة للرواية العربية، أو بالأحرى لتاريخ الرواية العربية المعاصرة، التي تعتمد على “التوجيه”، أو رسم غطاء فني لواقع سياسي، أو الانطلاق من إيديولوجيا، أو إعادة إنتاج الواقع كما نرى اليوم في كثير من تجارب المشهد السردي العربي.
فقد تخلص هذا النص من هذا الطابع التوجيهي المباشر، بسبب اقتراحاته الفنية القائمة على خصوبة الخيال. إذ يستبدل بـ”التوجيه” الوعظي أو الرسائل الاجتماعية أو السياسية، السؤال الفردي والوجودي الذي ينبني على سلوكيات الكائنات الغريبة التي تسكن المدينة رجالا أو نساء، ومن العلاقات التي تجمع أهل المدينة بالآخرين من زوارها؛ أكانوا بشرا عاديين أو كائنات تتمثل صور الشياطين أو الملائكة، أو صورًا تمثل كائنات تتسم بالغرائبية.
ألف ليلة وليلة هي في الأصل هي نوع من الميتافيكشن (تترجم بالقص الما ورائي أو السرد الفائق، وهي بين معانيها الرواية داخل الرواية)، لأن هناك حكاية إطارية هي قصة الملك شهريار وعلاقته المريضة بالإناث اللائي أمسين هدفا لسيفه بعد أن يقضي منهن وطره، وهو العَرَض المرضي النفسي الذي أصابه إثر تبينه خيانة زوجته له، وحتى ظهور شهرزاد التي تقبل التحدي وتقبل الزواج منه، وتخطط لعلاج ظنونه وشكوكه المريضة بالحكايات، ليلة بعد ليلة، ومن حكاياتها تتناسل القصص التي تمثل الإطار الداخلي للسردية الأم، والمتن الرئيس لليالي.
أما مدينة الحوائط، فلها إطار رئيسي منسوج في المتن، يتمثل في أربعة جدران تحيط بمدينة كان أهلها قد استخدموا معاولهم لهدم كل جدرانها الداخلية، على أمل أن يصبحوا إخوة لا تفصل بينهم الحوائط، رغم الخصام. لكن القتل الغامض الذي كانوا يتعرضون له، فتح دائرة الدم على اتساعها حتى أنهى عليهم تقريبا باستثناء رجل وامرأة، أفلتا في النهاية ولم يبق في المدينة سواهما وثالثهما دائرة من الشك.
وقد فعلت الشكوك فعلها، فيما يبدو، إذ غدت مسوّغا لإيجاد جيل جديد في مدينة الجدران الأربعة، مهووس ببناء السواتر بينه وبين الآخرين؛ جدرانا وحوائط بلا أسقف؛ أصبحت سمة مميزة لمدينة الحوائط اللانهائية، صنعت من المدينة متاهة لا بداية لها أو نهاية، ومن تلك البيوت التي كانت بلا أبواب، انبثقت الحكايات وتوالدت؛ كاشفة عن الأسرار حينا، أو متسببة في إضافة سرٍّ جديد إلى كومة الأسرار، مع كل ظهور لكائنٍ ما من كائنات المدينة أو مع اختفائه، أو مع زيارة وافد غريب إلى المدينة، أو سقوطه من السماء، أو خروجه منها.
وكل حكاية، تقريبًا، تبدأ بوميض ظهور شخصيّة ما، أو بعتمة اختفاء أخرى. وما بين الوهج والعتمة تتدفق حكايات المدينة الأسطورية، وفي مياهها الجارية تتصارع مصائر أهلها وفق ما تتعرض له من عجائب الأقدار.
وصحيح أن بناء الحكايات كلها ينبني على الغريب والعجائبي، مما يستدعي الكائنات الخرافية أو العجائبية التي تضمنتها الميثولوجيات القديمة والأساطير، مثل امرأة بعين واحدة، وهياكل عظمية يكسو اللحم عريها، وجبال من الكحل، ورؤوس مقطوعة تبحث عن أجسادها، وبرك من الدموع، أو قرصانة خرافية تلتهم خشب السفن، وساحرات، وعصي تتحرك وفق هواها، وأحذية تطير وغيرها. لكن ثمة إضافة حداثية للخرافة، أضافها طارق إمام هنا، تتعلق بتحويلها إلى وسيط فلسفي.
هذا الوسيط يتحقق من خيالٍ لا يرتبط بتراث العجائبي والأسطوري القديم الذي يحمل سؤالا رئيسًا عن معنى الحياة وكيف بدأت وإلى أين تسير؟ بل بأسئلة حديثة عن معاني فردية وذاتية. حيث نرى كائنًا ورقيًا يتحول لاحقًا إلى كائنٍ طبيعي من لحم ودم؛ فيما يستحيل من حوله من سكان المدينة، الواقعيين، فور تحوله لشخص حقيقي، إلى كائنات ورقية. أو قد نرى رجلا، تُنتزع الألوان من عينيه، فيصاب بعمى ألوان ليغدو العالم من حوله خاليًا إلا من لونين فقط هما الأبيض والأسود. أو قد نلتقي في متن الحكايات، شخصًا له وجه بلا ملامح؛ كتلة لحمية بلا أنف أو عيون، أو كائنًا ذا ذاكرة مستقبلية، فإذا ما تذكر فإنه يستدعي المستقبل لا الماضي. أو نماذج أخرى من عجائب سكان المدينة كالسقّاء الذي يسقي دموعه للعطشى، أو بائع الوجوه، أو ذاك الذي يحمل على ظهره جوالا يضع فيه وجوهًا بشرية، وسيمة ومبتسمة يمنحها لمن يرغب، أو بائع المعجزات، وسواهم من النماذج المدهشة بعجائبيتها ولا معقوليتها، والفاتنة سرديا.
وتأكيدا على خروج هذه الحكايات من النطاق الضيق لأغلب السرديات العربية المعاصرة “الموجهة” سياسيًا وإيديولوجيًا، لن نجد هنا في هذه الحكايات، كلها تقريبًا، إشارة إلى السلطة. فلا حكّام هنا، ولا أميرات، لا وزراء أو ملوك، ولا يحكم المدينة إلا سلطة فردية تتكون غالبًا من صراع إرادات سكانها، ومن آمالٍ تغذيها أو تُعارضها قوى خارقة.
وهذه الحكايات، في غالبيتها العظمى، تتضمن إجابة عكسية عن سؤال الوجود، أو تقترح فكرة من بين الأفكار التي تأتي على سؤال ما بعد الحياة، إذ يتحقق لأغلب هذه الشخصيات وجودٌ مستمر، حياة أبدية، تجسيد للخلود. ربما تدليلا على استمرار الأسئلة الخاصة بالوجود طالما بقيت البشرية.
وبعضها يرتكز على مواجهة النقائض أو النقيصة بالاكتمال، وذلك حينما تفقد بعض هذه النماذج من الكائنات ملمحا من ملامح كينونتها مثل ملامح الوجه، أو الذاكرة، أو رؤية الألوان، فتعيش بهذا اللااكتمال؛ كوخزة لا يغيب ألمها، فيغدو وجودها كله أرق لحلوح، تفجره طاقة لا تكل تبتغي البحث عن اكتمالها الذي قد يؤدي إلى انتقاص الآخرين، إن تحقق، كما نرى في عدة قصص ما أن يتحقق لأبطالها ما يحلمون به، حتى نرى آخرين وقد فقدوا مثائل ما تحقق لأولئك. كأنما الإنسان في سعيه للبحث عما ينقصه يفقد ما يمتلكه من دون أن يشعر.
يلعب الخيال الخصب، الذي يمتلكه طارق إمام ببذخ، دورًا رئيسًا في اللعب بالعجائبي، وفي ربط السمات الخرافية أو العجائبية غير الطبيعية بدلالة أو معنى ما، أو قيمة مرغوبة أو مفقودة في عالم المدينة، وفي الحياة بالتالي. فيبدو كصانع أعاجيب محترف، لا يحتاج لأكثر من وضع يده بخفة في قبعة الإبداع ليُخرج منها ما لا يمكن للقارئ أن يتوقعه، وببساطة تكاد تخلو من الطابع الدرامي المرتبط عادة بالأساطير والسرديات الملحمية القديمة، بحيث يقدم هذا العجائبي غير المنطقي، وقد قلب المنطق السببي البديهي رأسًا على عقب، لكنه يبدو كأنه ليس سوى الواقع الحقيقي العادي الممكن تحققه، وبهذه البساطة.
تأخذ بعض الحكايات صيغة أخرى تبدأ بكلمة مثل “لنتخيل أن..”، أي افتراض أن واقعة ما هي محض خيال، من البداية، لكن سرعان ما يجد القارئ أن الفرض المطروح يأخذه لاحقا إلى مثال قريب قد تحقق كما الفرض المتخيل، أو كفرض آخر مشابه، وبينها مثلا حكاية ساعي البريد الذي كان يتلقى رسائل بلا عنوان، فيبقيها عنده، ولا يعرف مرسلها ولا من توجه إليه، وحين أدرك يومًا أن امرأة بعينها هي التي تكتب الرسائل ووجهت إحداها إليه، انتفت لديه الرغبة في معرفة ما كتبته كاتبة الرسائل، التي توقفت هي أيضًا بدورها عن الكتابة بعد أن كتبت إليه رسالة أخيرة لن يفضها ولن يعرف ما فيها أبدا.
نجح طارق إمام في الحفاظ على إثارة الدهشة، واللعب بتوقعات القارئ، ممسكا بأطراف اللعبة ببراعة، تقريبا في قصص المجموعة كافة.
وهو أيضًا، وبالأساس، يضيف تجربة جديدة في السرد الحداثي التجريبي الذي يعارض المحاكاة الواقعية، ويستبدلها بالفانتازيا المحضة التي تقترح إمكانات مختلفة للسرد في تعامله مع معضلات الواقع الحديث.
هذا كتاب وإن بدا متكئا على التراث السردي للحكاية، لكنه يحوله إلى سرد مستقبلي، تماما كما فعل العجوز الذي إذا تذكر فإنه يتذكر المستقبل وليس الماضي.