مع ظهور أجيال جديدة من المترجمين، على هامش المؤسسات الكبرى، تزامنًا مع التطور فى أدوات الاتصال، وما صاحبها من إتاحة فى مصادر المعلومات، وخلق أنساق معرفية لم تخضع لأعين الرقابة، أو لتدجين السلطات فى مختلف الدول العربية، ظهرت حركة جديدة فى الترجمة، مصاحبة لظهور المدونات الإلكترونية، بعض هذه المدونات توقف تمامًا، وبعضها مستمر بدأب منذ سنوات.
ما يميز مدونات الترجمة هذه -غير عدم خضوعها للرقابة- هو تقديمها موادها، دون أى مقابل مادى، كما أنها لا تتقيد بترجمة كتب كاملة كما هو الحال مع الترجمة المطبوعة، ربما توفر بعض الدوريات الثقافية مثل هذه النصوص المترجمة، إلا أن المدونات تبرز ذائقة صاحبها واختياراته لنصوص يفضلها.
“قراءات أحمد شافعى”.. وما الذى يحيل البشر إلى وحوش
تبدأ مدونة «قراءات أحمد شافعى» مهمتها من 7 من نوفمبر للعام 2007، مع مقالة بعنوان «ما الذى يحيل البشر إلى وحوش»..
الشاعر والروائى والمترجم أحمد شافعى، كما لم يتوقف عند نوع واحد فى الكتابة الإبداعية، لم تقتصر مدونته على ترجمة الأدب فحسب، بل امتدت إلى كل ما يقع تحت يديه من مقالات ونصوص متنوعة سياسية واقتصادية كذلك، صاحب ديوان، وقصائد أخرى تجمع له المدونة ما كان لولاها ليتفرق ويضيع وينسى فى أحراش الكمبيوتر، التى لا يبدو أنى سوف أجد الوقت الكافى لاستكشافها وترتيبها ومحاولة الخروج بأى شىء ذى جدوى منها. هى بالنسبة لى أرشيف. هذا لا يعنى أنها تضم كل ما قمت بترجمته، أو كل ما أترجمه، فأنا أعمل بالترجمة للصحافة منذ سنين، وأنشر ترجماتى بشكل شبه يومى، وأنتقى للمدونة فقط ما أعتبره جديرا بتأجيل موته قليلا، أو ما أعتقد أنه قد يكون نافعًا لأحد.
Boring books.. الكتب المملة تمتع قارئها أحيانا!
يقدم أمير زكى نفسه كمترجم من خلال مدونة سماها «Boring books» محاولة لتجاوز تجاربى الفوضوية الماضية مع التدوين، أو محاولة لأن أوهم نفسى بإقامة شىء مرتب ومنظم فى حياتى، لا تنتظروا منى القول بأننى أقوم بدور تنويرى، إنما أنا فقط أحاول أن أفعل شيئا لأننى فى حاجة لأن أفعل ذلك لأسباب شخصية، لأننى رغم كونى لا أستطيع الاستمرار إلا أننى مضطر لأن أستمر كما قال بيكيت مرة المسألة إذن لا تتحمل المقولات الكبرى التى يصدر بها المترجمون عادة محاولاتهم للترجمة، هى تجربة شخصية بالمقام الأول، غير أن المدونة لاقت رواجًَا فى أوساط المدونين منذ أيامها الأولى أواخر العام 2010، وعلى عكس شافعى، يصدر النهج الذى ستقوم عليه المدونة: «ستقدم ترجمات لمقالات ونصوص وعروض لكتب ومقالات شخصية تنحصر داخل نطاق اهتماماتى. بعض هذه الاهتمامات: صمويل بيكيت، الأدب الحديث، الأدب الأيرلندى، الأدب الفلسفى أو العلاقة بين الأدب والفلسفة.. هذه مجرد خطوط عريضة أسير عليها، وهى تعبر عما أهتم به حاليا فإذا أهملت موضوعًا أو أضفت آخر، فهذا سيخضع لطبيعة اهتماماتى ساعتها، وهذه فى النهاية طبيعتى، فأنا دائم التغير. ورغم أننى أريد فى هذه المدونة أن أتبع نظامًا ما فهذا مجرد وعد أنا منوط بالتخلى عنه فى أى وقت، فإذا لم أضف إلى هذه المدونة بشكل دورى فسبب ذلك أننى كائن بشرى، ولا بد أن يكون هناك سبب منعنى من الإضافة سواء كان هذا السبب هو انشغال فى عمل ما، أو حالة اكتئاب أو حتى الرغبة فى الكسل.
ربما تبدو هذه المقدمة مجرد محاولة للتنصل أكثر من إلقاء الوعود، لكنى لا أريد أن أبدأ بطموح كبير أعجز عن تحقيقه، ما أستطيع قوله إنى سأبذل قصارى جهدى من أجل مضمون جيد وملائم فى هذه المدونة.
هكذا تحدث كوهين.. هكذا تحفز القارئ
تقول مدونة «هكذا تحدث كوهين» كل شىء عن نفسها على لسان صاحبها الروائى والمترجم «نائل الطوخى» فى رسالة قصيرة تحت عنوان «توضيح» مدونة عن الأدب العبرى بالعربية، عن الشعر والقصة والمسرح والحواجز والتلمود والقبالاة، ذات يوم، فى الأندلس، كتب اليهود نصوصهم باللغة العربية، لكن بحروف عبرية. شىء مثل هذا يحدث هنا، حيث يتاح لنا أن ننظر سويًّا فى وجه اليهودى، وأن نستمع إلى أدبه. الدرس المستفاد: كوهين ليس دائمًا معقوف الأنف، المدونة إذن تتخذ من البداية موقعًا خطابيًّا نابعًا من جماليات لغة موجودة، نائية عن الانحيازات الأيديولوجية، وحساسية الصراع العربى الإسرائيلى، منذ عام 2009 وعلى الرغم من ذلك، لم تسلم المدونة ولا صاحبها من اتهامات التطبيع من ناحية، ولا من المتباهين بفرادة هذا الفن وما له من خصوصية، يقول الطوخى فى شهادة له عن الترجمة العبرية بمجلة الثقافة الجديدة المصرية نشرت فى شباط 2013 أى بعد خمسة أعوام من بدء التدوين والترجمة: «أنا لا أعتبر ترجمة الأدب الإسرائيلى بوابة (لأنسنة العدو الصهيونى)، وإن كان بوابة لـ(أنسنة العدو الصهيونى) فأنا لست ضد (أنسنة العدو الصهيونى)، كما أننى على الناحية الأخرى غير مقتنع بأن إسرائيل دولة صديقة وينبغى إقامة جسور الصداقة معها عبر ترجمة أدبها، كلا الادعائين غير مقنعين بالنسبة لى. الموضوع ببساطة، أننى أقرأ الأدب العبرى لأننى مهتم بأن أعرفه، وأترجمه لأننى مهتم بأن يعرفه الآخرون، وأنا أعرفه لأننى درسته».
إيران خان.. تجاوز جلال الدين الرومى
خمس سنوات قضاها الشاعر والمترجم أيمن بدر فى نقل الأدب الفارسى الحديث، ربما لم تعرف الثقافة العربية من الأدب الفارسى غير كلاسيكياته الأشهر جلال الدين الرومى صاحب كتاب «المثنوى» وفريد الدين العطار «منطق الطير»، وبعض الأسماء الحديثة مثل صادق هدايت وروايته «البومة العمياء» والشاعرة «فروغ فرحزاد»، من بداية تأسيسه للمدونة، قدم أيمن بدر موادها على شاكلة مجلة إلكترونية، وبوّبها إلى: «أخبار، تراث شعبى، سيرة ذاتية، شعر، فن تشكيلى، فوتوغرافيا، قصة قصيرة، كاريكاتير، مقالات، موسيقى». ورغم اتخاذه لشكل مجلة فإنها غير دورية وغير منتظمة، وعلى الرغم من ذلك لم يتوقف بدر عن المواظبة على تقديم أعداد جديدة كان آخرها فى شباط من هذا العام.. ومثل نائل الطوخى، لاحقت أيمن «اتهامات» التشيع فى مصر، لولا أن قوة مثل هذه الاتهامات أكثر خفوتًا وأقل تأثيرًا من دعاوى التطبيع، ومثل فتور العلاقات المصرية الإيرانية، جاء استقبال المدونة، على الرغم من أهمية النصوص المترجمة، والتى تقدم صورة عن الأدب الإيرانى الآن.
خاتمة
من سؤال الترجمة إلى تساؤل الملكية الفكرية، فهذه المدونات التى تقدم خدمات خاصة ونادرة فى عالم الثقافة العربية، أتاحت نصوصها لكل الراغبين والمهتمين، باشتراط مبدئى -ومنطقى- بحفظ حقوق الترجمة لصاحبها، لكن سهولة التحصل على مثل هذه النصوص، جعل الكثيرين لا يتلفتون لمثل هذه الحقوق، بل واجتراء البعض على نسبة هذه الترجمة إلى غير أصحابها، غير أن معظم المترجمين لا يتخذون إجراءات صارمة تجاه مثل هذه الأفعال. المترجم أمير زكى كان له موقف تجاه تعدّ من بعض مترجمى جريدة التحرير المصرية على نص من النصوص التى ترجمها على مدونته بعنوان «المختفى» للكاتب البريطانى سلمان رشدى. انتهت واقعة أمير وابتدأت الأسئلة حول الترجمة، والنشر الإلكترونى، والتدوين.
فى النهاية، تسهم الترجمة فى تحرر الماهية الخالصة للغة، المتمثلة فى الحرف، لأنها تتضمن طاقة إبداعية هائلة، تتحول بمقتضاها من نسخ أو تشويه أو خيانة لغة وثقافة الآخر، إلى مقام لاستقبال الغريب. وبالتالى، فإنها تعمل على تحقيق تلك الغاية الأخلاقية التى تحدث عنها كل من بول ريكور وجاك دريدا ألا وهى الضيافة، والمقصود بها استقبال لغة لأخرى بحفاوة داخل مقامها، مهما بعد.