آمال فلاح
جيل من جزائريي ما بعد الاستقلال تابع مسلسلات رواياته على الشاشة الصغيرة “الدار الكبيرة الحريق” و”النول”، كما احتفظت ذاكرتهم بشخصياته الروائية -وذلك أمر نادر-لالا عيني، ماما، عمر الصغير وحميد سراج، لكنهم لم يدركوا أبداً من هو الرجل الذي ألقى الأضواء على مخاض وطن يقاوم ليولد حرا.
لقد عاش ثلاثا وثمانين حولا ولم يعره الوطن أية التفاتة على الرغم من غزارة إنتاجه والعدد الكبير من الأطروحات الجامعية حول أدبه والعدد الأكبر من الملتقيات التي اعتذر عن حضورها متعللا بمتاعبه الصحية. لقد عاش مترفعا إلى آخر لحظة ورحل وهو متأكد أنه لن يعود أبدا.
“تغدو العودة مستحيلة كلما اخترنا دروب المنفى”، ذلك ما كان محمد ديب يردده وهو يعلم، في قرارة نفسه، أنه قد عمل المستحيل لكي يعود إلى الجزائر، وأنه أمضى عقودا مع الشركة الوطنية للنشر والتوزيع لإعادة نشر أعماله (التي سبق وأن نشرتها أكبر دور النشر الفرنسية غداة الاستعمار) بقيت حبرا على ورق، كما اقترح صيغة النشر المشترك ليجنب الجزائر تكاليف حقوق النشر، لكن دون جدوى:
“كنت أريد فقط أن أعود لبلدي، ولم أكن الوحيد الذي حمل تلك الرغبة، كاتب ياسين، أيضا، وجد نفسه على الهامش عندما عاد، فهو لم يتحصل على مقر لفرقته المسرحية ونفوه بعيدا عن العاصمة الجزائرية بينما تباهوا به بين الأمم بعد موته. وطني لفظ جيلا من الروائيين اضطروا للمغادرة بحثا عن مصدر للرزق”…
كيف نصدقه إذن حين يقول أن منفاه كان اختياريا، وكيف نعمى عن رؤية الجرح الغائر في أعماقه وتلمس الوجع الذي خلفه البعد عن الوطن؟؟
إن الوصول للعالمية لم ينس أبدا محمد ديب تلك الأرض التي أحبها وكتب عنها: “الجزائر سقيمة مثل جسد أصابت العلة أعضاءه، فلا هو قادر على الشفاء في الحين ولا على حماية نفسه من هجوم أمراض جديدة. يستغرق الأمر كثير من الوقت حتى يستعيد الجسد عافيته، وأحيانا لا يتم ذلك أبدا”.
ورحل محمد ديب بعيدا عن الأرض التي نقل للعالم أجمع أوجاعها، وردد مع رجع صدى دوي الغضب الطالع من جبالها. رحل وسط تجاهل تام، وأقفل القوس الذي افتتح بلحظة ميلاده عام 1920 .
مات ديب، خبر تناقلته وكالات الأنباء في عجالة “لقد كان همزة وصل بين الشمال والجنوب”، فلا متسع لديها للتحدث عن جرح الرجل الذي كان ولا عن مدى نزاهة وعفة ذلك الذي مضى.
مات ديب، لكن الدهشة سرعان ما ارتسمت على الوجوه: ألم يرحل قبل هذا التاريخ؟ لقد ظنه الجميع قد مات بعد الاستقلال، هل لكونه تحول بعده إلى أسطورة حية.. مرتبة قلما يصل إليها كاتب في مجتمعات ثقافتها شفهية، أم لأن أجيالا كاملة لم تقرأ كتبه في طبعات صادرة عن دور نشر عربية في حين كفت وزارة التربية عن برمجة نصوصه في مقرراتها؟؟؟
الروائي يولد الأحلام أيضا
في عام 1951، التحق محمد ديب بجريدة”الجزائر الجمهورية”- حيث كان ألبير كامو يعمل وحيث تعرف على كاتب ياسين- وقام بتحقيقات سوف تتحول لنواة للمشروع الكتابي الذي يحضر له من سنين.
قبل هذا التاريخ، زاول محمد ديب حرفا متنوعة، فمن مدرس إلى محاسب، إلى مترجم إلى رسام لنماذج زخرفية للزرابي. ومن مدينة تلمسان إلى العاصمة، بدأ محمد ديب في نشر أشعار ملتزمة والاحتكاك بكبار الكتاب، جون سيناك، ألبير كامو وجون كايرول. وهناك بعث برواية الأولى “الدار الكبيرة”(1952) لدار “لوسوي للنشر”، والتي جعلته يشتهر في فرنسا والعالم الغربي.
في هذه الرواية، اختار المؤلف سنة 1939، الموافقة لعام اندلاع الحرب العالمية الثانية، لينبئ عن الحرب القادمة والتي سوف تكون حاسمة بالنسبة للجزائر(اندلعت الثورة التحريرية بعد عامين من صدور الرواية). وسوف يكون- مع كاتب ياسين- أول من أدمج موضوع الثورة في الرواية الجزائرية الوليدة. يقول محمد ديب:” لم يكن للجزائر وجود في أدب الجزائريين أنفسهم، وصورتها في الأدب الفرنسي كانت واهية، لذا كان علي أن أقول هذا الواقع الجديد. كان يكفي أن أسمي الناس وأصف الطبيعة التي تحيط بهم ليبرز وطني للوجود الأدبي”.
هذا الوجود الأدبي انبثق عنه ميلاد الوجود السياسي لثورة الجزائر، وأفرز ثاني رواية لمحمد ديب:”الحريق”(1954) متبوعة ب”النول”(1957). لم يعد لصحافة اليسار الفرنسي وحدها الحكر في التحدث عن المجازر الحاصلة(مذابح مايو 1945) فقد برز جيل بأكمله اسمه كاتب ياسين، مولود معمري، مولود فرعون، مالك حداد وغيرهم. جيل استعمل لغة المستعمر كأداة وحيدة ليقول لفرنسا” لسنا فرنسيين”ما دام قد حرم من تعلم لغته الأم، وليؤكد انتماءه لهذا الشعب المقهور.
كتابات محمد ديب الغاضبة، خاصة “وطنية جاوزت الحدود”، دفعت إلى نفيه خارج الجزائر ليعود إليها بعد الاستقلال. لكن الوطن لفظه من جديد ولأسباب مختلفة، لكي يعيش من جديد وجع البعد والاغتراب.
هل انتهى محمد ديب ساعتها؟
لحظة الاستقلال شكلت بداية لاستقلالية الكاتب نفسه. لقد تحرر من واجب الشهادة ومن واجب الالتزام بقضايا الوطن. وشرع في التمتع بحرية أكبر إزاء الشكل الأدبي الذي تبناه والمسمى ب”الواقعية النقدية”.
كتب محمد ديب ثمانية عشر رواية وخمس مجموعات شعرية وعدة مجموعات قصصية ومسرحيات، كما ترجم عدة روايات من اللغة الفنلندية، لكن كل ذلك الإنتاج لم يشفع له. فقد قرر النقاد أنه بعد أن كتب ثلاثيته الشهيرة لم يعد لديه ما يقوله.
القطيعة الصارخة
عام 1994، نشرت جريدة لوموند موضوعا قالت فيه: “لقد أصبح صوت ديب داخليا، حميميا، في حين ابتعدت صورة الجزائر شيئا فشيئا”. كما حدثت أزمة كبيرة بينه وبين منشورات “لوسوي”، إذ طلبت منه أن يغير أسلوبه و يعود للواقعية النقدية بدل”الهيام في طروحات فلسفية ميتافيزيقية”، فرواياته لم تعد تحظى بإقبال القراء. لكن محمد ديب أصر على الكتابة “كما يحلو له وكما يراه صالحا”. موقف دفع دار النشر لفسخ العقد لسنوات.
يعلل الكاتب هذا الانتقاد الموجه له وما أسماه البعض ب”القطيعة الصارخة” بالعمر الطويل الذي عاشه: “لم تحدث أي قطيعة في أدبي إنما استمرارية تقتضيها مراحل العمر وتطور في الهواجس والأفكار. هناك فترات في حياتي تغيرت فيها شخصيتي وفكري، وهذا التطور ليس خاصا بي وحدي”.
في كتابات محمد ديب، وكما يشير إلى ذلك عالم الاجتماع عبد القادر جغلول: “يتمطى التشبث بالوطن وينقلب إلى ضرب من البحث عن الكتابة عن مواضيع أصلية مرتكزة على الحب والموت والاغتراب، لا من حيث كونها ذات معنى مطلق تاريخي أو وجودي، بل من حيث كونها حركة جوالة تحاول الكلمات إدراكها والإمساك بها وهي في طور ازدهارها المحتمل”.
كان الأسلوب الواقعي يصف الوطن والشعب في زمن الاستعمار، وأصبح يصف خلجات الكاتب وأفكاره الدفينة، ولعله، وعبر كل تطوراته، كان يسعى للتمسك بتصوره الطفولي عن الروائي، ذلك الذي يبتكر الأحلام ولا يكتفي بالوصف الحسي للأشياء ورسم لوحة آنية للرعب الحاصل، إنما بتقديم خلاصة للشكل العالمي للقهر والموت والذل: “الواقعية تعني أيضا الحياة الداخلية للبشر. لقد انتقلت لشكل كتابي لم يمنعني قط من رؤية الواقع. فبعد أن كتبت”من يذكر البحر؟”(1962) عدت مع”رقصة الملك” أو” اله الهمجية” إلى التطرق لأمور تخص بالمجتمع”.
وعي جعله يدرك، في وقت مبكر عقب الاستقلال مباشرة، ما سوف يؤول له بلد أقصى نساءه، اللواتي حاربن في الجبال وعذبن في الزنازين وكن محكومات بالإعدام، لكي يطلب منهن في نهاية الأمر العودة للمطابخ. بلد همش شعبا بأكمله كان قد قام بأكبر ثورة ضد أشرس مستعمر. هذا الإبعاد والتهميش هو ما كان يخشاه محمد ديب، وكان أول ضحاياه، لأنه من أبرز الدلائل على التراجع والتخلف.
ولعل تنبؤاته اليمامية (نسبة لزرقاء اليمامة) هو ما دفع الكاتب ثمنها.