ذلك الشاب أعتمد على طابع بريد ثمنه 10 قروش فقط ، لم يطرق باب لمسئول ولم يقف على باب ينتظر دوره فى النشر فى احدى اصدارت الهيئات الحكومية ولا حاول مجالسة ذوى الشأن ، فقط اعتمد على عقله وقلمه وطابع بريد وعنوان الإصدار الذى سيرسل له قصته .. حاول ان يوصل لجيرانه من البسطاء وسكان المنطقة الأدب بطريقته ، فكان يجمع شباب المنطقة على مقهى شهير بالوراق ، يلتفون حوله وكأنه نبى ، يحكى لهم روايات كبيرة قرأها بطريقته البراقة ، فكان يحكى لهم حكايات نجيب محفوظ لانه الأشهر لديهم نظرا لاعماله ، فيستمعون له ويسألونه ” يعنى اللى كاتب الرواية دى هو نفسه الكاتب “الثلاثية بتاعة الست امينة وسى السيد ” فيجيبهم فى فخر ، نعم هو ، ثم يحكى لهم روايات ماركيز وقصص موبسان وألان بو وأيزابيل الليندى ويحكى لهم عن عم ابراهيم اصلان وابوه الروحى علاء الديب والاديب علاء الاسوانى ، يلقى عليهم اشعار الكبار
أمثال أدونيس ودنقل ورامبو والماغوط والصغار امثال اشرف ضمر ومحمد ابو زيد ومسعود شومان كان يحاول ان يأخذ بعقلية ابناء منطقته لعالم بعيد عنهم يحدثهم مرة بطريقة معلق كرة قدم وأخرى ممثل مسرحى قديم ، فكانوا يبنهرون به ، وجد فى طريقته هذه رسالة أخذ على عاتقه إتمامها ، هو ابن بيئته ولا يريد ان يتخلى عنهم لماذا يتركهم ويتعالى عليهم بما انعم الله عليه من موهبة وعلم وثقافة ،حتى عندما قرر أن يجمع مجموعته القصصية الأولى ، صنعها بيده كتبها على آلة كاتبة بالبيت وجمع حق تصويرها ألف نسخة من أصدقائه ورسم الغلاف وصممه بيده هو ووضع على الكتاب اسرة تحرير وهمية مكونة من عامل الشيشة بالمقهى واحد اصدقائه وكانت مجموعته الاولى الرائعة الذى قام بتوزيعها
بنفسه فى كل اماكن بيع الكتب بمصر عام 2003 “العصب العارى ” والتى لاقت وقت صدورها صدى أرضاه جدا وكتب عنها فى القاهرة والمساء واكثر من صفحة ادبية وايضا تم مناقشتها فى مقهاه مع اصدقائه من أولاد المنطقة وجميع الأماكن الثقافية فى ذلك الوقت ، وكان الجميع يتعجب من هذه العقلية التى تصر أن تصاحب “حريكة ونونة وبيسو واللمبى ” كان هو الوحيد الذى عرف الاجابة ، وقد عرفتها انا ايضا ، بعدما رأيت هذه الأسماء وقد تحولوا لأشخاص فى غاية الرقة والادب ، بل وعملوا فى وظائف راقية يحسدون عليها ، ولم تعد هذه اسمائهم بل اصبح كل واحد منهم يصحح لك اسمه اذا ما ناديته باسمه كان يصر محمد على أن يعرف الناس جميعهم أن الادب هو إحدى أركان الرقى للمجتمع وللناس ، اول من فكر ان يصنع انتخابات على مستوى الأصدقاء ، من يكون زعيم ونائب وأعضاء وكان
يعطيهم دروس فى السياسة ولماذا لابد ان نشارك ، كان هو نفسه حزب نفسه ، نجح فى أن يخرج من الفقر والمرض والإضطهاد بأن يصنع نفسه نجما فى كل مكان تطأه قدمه ،كان ينادى دائما بأن يصبح الكاتب نجما مثله مثل لاعب الكرة والممثل واى نجم كبير، لماذا لا يعلق بوستر كبير بأسم الاديب وأحدث إصداراته أعلى أكبر كوبرى فى البلد ، لماذا لا يتهافت عليه الرعاة على رعايته مثلما يحدث مع المطربين او لاعبى الكرة ايضا ، هل موهبة الكاتب اقل منهم فكان يقول دائما “فأنا أصنع ادبا لا يستطيع غيرى صناعته ، أنا من أغير خريطة العقل التاريخية” ، كان هذا فكر “محمد حسين بكر” ، كان يريد أن يصبح للمبدع الحقيقى سعرا مثله مثل صانع كتب الرصيف تمام ويعرف الجميع ما هى كتب الرصيف ، هل لزاما على المبدع الحقيقى أن يعيش ويموت وهو فى حجرة ضيقة بين كتبه وأفكاره وأحلامه لا يشعر به إلا عدد قليل ممن يصدقونه ، او يضطر لان ينتظر تلك المنحة التى تتكرم الحكومة احيانا بمنحها للكتاب والتى تخضع لحسابات لا نعرفها ، ثم ما هذه الكلمة اصلا “منحة” كلمة جارحة ، فالكاتب لا يحتاج لمنحة او هبة او “تشجيعة امال” الكاتب له كل الحق ان يتكسب من كتابته وقد آن الاوان ان تسد الفجوة الهائلة
ما بين المبدع والجمهور ، حتى وان كنت كاتبا مختلفا لا اكتب الا ما لا يفهمونه او
للنخبة على حد قول البعض ، لكن لابد ان يعرف الجميع ان الكاتب يستحق التقدير والعيش بحياة كريمة، متى نضع فى البطاقة وظيفة “روائى” أو “قاص” أو “شاعر” متى يتم التعامل مع الكتابة كمهنة حقيقية لا تحتاج لوظيفة اخرى تسدد متطلبات “العيشة واللى عايشنها” اعتقد اننى لا احلم بالمستحيل وانا على يقين ان ذلك سيتحقق فى يوما ما وربما اعيش لآراه ، لكن المهم ان هنا اديب عاش ومات هو ومات غيره ، دون ان يصدقهم إلا القليلون ، مات بأى سبب لا يهم السبب المهم ما يحدث دائما بعد الموت ، نكتب الكثير من الكلمات المؤلمة والمؤثرة وربما دمعت عيوننا ايضا ، وننادى بالجوائز والكتب والإهتمام بالموتى من الأدباء، ثم بعدما ينفض مولد العزاء الأدبى الشهير ، تختفى سيرة المسكين الراحل ، ويصبح بعد أقل من ثلاث سنوات “المرحوم” ، بالنسبة للمذكورأعلاه وهو صديقى قبل ان يكون زوجى ، لم يتحلى يوما بالأخلاق ذات التهذيب الذى يجعل العشرات يلتفون حوله فى ود ومحبه ويرون كل ما يكتبه “جواهر مكنونة” مهما ان كان حتى أذا ما مات ساهموا فى زيادة عدد المعزين وزيادة الصياحات والنداءات بأى طلبات ، ورغم تعاطف القليل مع الاديب الراحل ! إلا ان السؤال الذى يطرح نفسه فعلا ،
أين القلائل الذين كانوا يعرفونه هل ساهموا بأن يقرأ إبداع “محمد حسين بكر” كى يعرف الناس أنه كان هناك أديبا بينهم ، هل هناك جهة مسئولة ما يمكنها ان تقوم بدور يقوم به اثنان فقط فى مصر والوطن العربى على ما اعتقد وهما الاديبان الشاعر شعبان يوسف والروائى سيد الوكيل ، فلديهما تاريخ لكل كاتب ظهر على الساحة الادبية سواء كان صغيرا أم كبيرا ، لديهما كل المعلومات وفورا تجدهم يسردون لك وقت ظهوره ومتى كتب كذا ومتى ولد ومتى مات ، ويتذكرونه وقت وفاته دائما ، هذا ما باستطاعتهم تقديمه ، اننا هنا نرثى الكثيرين ممن ماتوا سواء كانوا مشهورين او غير مشهورين ، من له اصدقاء يتكلمون عنه لفترة بعد موته ومن ليس له احد يعرف قيمة ما كان يفعله فى حياته ، وبعد اقل من عامين تتحول سيرة الكاتب “للمرحوم” اذا ماذكر هل سيذكر من كتب عن محمد حسين بكر بعد وفاته اعماله ، اين هى وما الذى يمكن ان يتم بِشأنها ، هل نشر الناشر الكبير الذى طالب باعماله فور وفاته لتنشر فى الاربعين حتى الان وقد بلغنا الذكرى الثانية ، ربما لمحمد حسين بكر سند ليحاول تخليده على قدر المستطاع ، ولكن لو لم أكن انا هنا بينكم ، وهو بينهم هناك اديبا يقظا ومتدفقا ، هل كان سيعيش اديبا معزولا ويموت معزولا”فطيس” فهل من طريقة نخلد بها الموتى من المبدعين ليصبحوا أحياء يرزقون لدى القراء ، هل من مشروع تنفذه وزارة الثقافة أو اتحاد الكتاب للأهتمام بالمبدع وسيرته لتخلده .. أتمنى ان نكون سببا فى استمرارية ابداع اى أديب راحل ، لا دفنها مع تراب مقبرته
خاص الكتابة