محمد الحرز: الألقاب.. فوضى تمس الثقافة

موقع الكتابة الثقافي uncategorized 2
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاوره: حمد بن هتفر

أديب جمع بين الشعر والنقد، مسكون بالحرف، وغارق في جمالياته، الشعر يشكل هاجسه الدائم، وقلقه المستمر، ووجعه الذاتي، والمأساة التي لا يشاركه فيها الأهل والأصدقاء، يرى أنه ينتمي إلى ظاهرة الأدب العربي المعاصر، واعترض على التضاد الذي أفرزه الموروث العربي بين الشاعر والناقد، وانتقد كيل الألقاب، ويراها فوضى تمس الخطاب الثقافي بشكل مباشر، أرجع غياب المثقف النجم إلى تداخل الأجناس الأدبية.. هذا وما هو أكثر منه في المساحة اللاحقة من حوار مع الشاعر والناقد محمد الحرز، فإلى تفاصيل فائضة بهموم الأدب وشجونه:

*الشاعر والناقد صفتان لا يُذكر محمد الحرز إلا وتسبقان اسمه، فأيهما أقرب إليك؟ وهل لهذه الازدواجية من تبعات؟ وعلى أي الفنين يقع ضررها؟

-لا أعرف أدبا آخر سوى الأدب العربي يضع الشاعر في تنافر أو تضاد مع الناقد، وكأن الشاعر لا يمكنه أن يكون ناقدا، وكأن هذا الأخير لا يمكنه أن يكتب الشعر، بينما آداب الشعوب الأخرى لم تكن تنظر إلى هاتين الصفتين، إذا ما توافرتا في شخص المبدع، على أنهما حالة ازدواجية كما وصفتها في سؤالك، بل هناك كثير من الأدباء المبدعين الذين كتبوا في أشكال متعددة من الإبداع إزاء أشكال أخرى من الفكر والفلسفة والنقد، وكانوا مبدعين ومتألقين في كل الحالات. قد يكون من أسباب تفشي صورة التضاد بينهما، أن الموروث الأدبي العربي لم يخلُ من هذه النظرة، فنحن نعرف تماما الصراع الذي دار بين النقاد والشعراء على وظيفة كل واحد منهما، وكيف كان يُنظر إلى النقاد بوصفهم مجرد شارحين أو مفسرين لنصوص الشعراء، وكيف حاول بعض النقاد كتابة الشعر لإثبات العكس، وكيف رد الشعراء في ممارسة النقد بحذر مثلما هي حماسة أبي تمام. كل هذا الصراع حدث في إطار كون الشخص يحمل صفة الناقد الشاعر في موروثنا، لكن في الأدب العربي المعاصر يمكن الإشارة إلى ظاهرة الشاعر الناقد، وليس الناقد الشاعر، وهم كثر في عالمنا العربي، وأنا أنتمي إلى هذه الظاهرة المعاصرة.

*كيف يُخلِص المثقف الناقد لمشروعه؟

-لا أفهم المشروعات إلا في إطار نوع من الالتزام، الذي يفرضه المثقف على نفسه طالما كان هاجسه الأول والأخير هو البحث عن المعرفة، وليس الالتزام بمعنى مرتبط بفكرة محددة راسخة؛ لأن الالتزام بهذا المعنى أدى – فيما أدى إليه – إلى تقليص حرية المثقف، وانحسار خياراته في تبني طرق للمعرفة، تشتمل على الجدة والابتكار، فنحن نعرف تماما أصحاب المشروعات الكبرى سواء في الفضاء الثقافي الغربي أو العربي أين انتهت مشروعاتهم، وكيف تم استقبالها في الأوساط العامة، وكيف كان ينظر إليها بوصفها مشروعات نخبوية، لم تؤثر بصورة مباشرة في تلقي الثقافة في أوساطها العامة؛ لذلك لا أرى جدوى تداول مفاهيم من قبيل المشروعات، أو الالتزام بتوصيف ما ينتجه المثقف من معرفة، فمن إحدى البدهيات التي ترتبط بالإنتاج المعرفي عند المثقف هو انطواؤه على خيط رابط بين أفكاره، ودائما ما يكون هذا الخيط هو الممسك بهذه الأفكار من العمق، والمثقف الذي يملك القدرة على الكشف عن سمات هذا الخيط، وبالتالي يعيد شروط التفكير فيه.. هو المخلص عندي لمشروعه بالدرجة الأولى.

*إذا طلبت منك قراءة للمشهد الأدبي، فماذا ستقول؟

المشهد يتطلب وقفة معمقة وتحليلا متشعبا، لا تسعه إجابة عابرة عن سؤال واحد، لكن يمكن التطرق ولو جزئيا باعتبارها مجرد ملاحظات أولية إلى أهم مفاصل التحول الذي طرأ على المشهد في الآونة الأخيرة، وتحديدا في العشر السنوات الأخيرة. فالمتابع يلحظ أن الحدود الفاصلة بين مجال وآخر من مجالات الإبداع كالشعر والرواية والقصة والفنون بعامتها، قد تلاشت شيئا فشيئا، وحلت محلها صفة التداخل، أو – على أقل تقدير – صفة التجاور المفضي في نهاية الأمر إلى التداخل، ونحن الآن نعيش في اللحظة الراهنة مرحلة العبور من التجاور إلى التداخل. أما التحول الآخر الذي يستتبع مرحلة العبور هو غياب مرحلة المبدع أو المثقف النجم، التي كانت ساطعة في مرحلة السبعينات والثمانينات وجزء من التسعينات؛ بسبب ما يمكن تسميته “تبخر الحالة الصلبة لفكرة الإبداع”، وما أعنيه بهذه التسمية يمكن الإشارة إليه بالمثال التالي: على مستوى الكتابة الروائية مثلا برزت ظاهرة لافتة للنظر، كان الروائي معروفا بحكم اشتغالاته في الوسط الأدبي، سواء على مستوى الصحافة أو بين المشتغلين في هذا الوسط، أو بحكم مشاركاته في فعاليات تتعلق بالرواية أو همومها. لكن ما طرأ لاحقا هو دخول أفراد لا ينتمون أبدا إلى الوسط الأدبي، بل إن مجال اهتمامهم بعيد جدا عن هذا الوسط كالطبيب أو المهندس أو الطيار برواية أو مجموعة قصصية، وكأن كاتبها كان يهيئ نفسه ليفاجئ الساحة بعمله، وكأن المتلقي لهذا العمل يظن أن صاحب العمل ينبغي أن يعرف في الساحة قبل صدور عمله. هذه الظاهرة بدأت تأخذ أبعادها، وتؤثر في تصوراتنا للإبداع بشكل عام، لكن السؤال هنا: هل ما ينطبق على الرواية ينطبق أيضا على الشعر وبقية الفنون؟

*نعيش فوضى ألقاب يهبها من لا يملكها لمن لا يستحقها، فنجد المثقف والناقد والمفكر والأديب تسبق أسماء لم تدفع مهرها، ومنهم من يسردها جميعها لشخص واحد. ما معايير منحها؟ وكيف لها أن تجتمع في شخص واحد؟ وهل هناك تجارب فعلية أعطت كل لقب حقه، واستحقت جمع هذه الصفات ذات الدلالات المختلفة؟

كما قلت هي فوضى تمس الخطاب الثقافي بالدرجة الأولى. أما الألقاب فهي من باب المواضعة في اللغة، والاصطلاح على هذه المواضعة يتطلب توافقا على الأقل على دلالة معينة لهذا اللقب أو ذاك، وهذا الاختصاص يتصل بالمجاميع اللغوية التي تفتقر إليه الثقافة العربية مقارنة بالثقافات الأخرى، رغم الاجتهاد الواضح عند هذا المجمع أو ذاك، سواء في القاهرة أو الشام أو تونس. عموما هذه المقدمة ضرورية كي نقول إن الاتفاق على دلالة معينة فيما يخص هذا اللقب أو ذاك، لا بد أن يسبقه منجز ثقافي تراكمي حتى يتسنى للمختصين أن يستلوا من هذا المنجز تصورا لاسم يطابق المسمى باعتباره المنجز الثقافي؛ أي أن الألقاب التي تلصق من هنا وهناك لا تأتي إلا لاحقا وبعد فترة طويلة من المنجز للفرد، بينما ما يحدث عندنا هو العكس تماما، وذلك لأسباب الفوضى أحد تداعياتها.

*تطغى الكتابة السوريالية على تكوين الجملة الشعرية لديك، وكأنك تقول إن حدود القصيدة أبعد من حدود اللغة، ما سر اعتماد السوريالية مذهبا شعريا لديك؟

الكتابة السوريالية لا تعني أن حدود القصيدة أبعد من حدود اللغة، بل العكس تماما اللغة بمنزلة القلب من الجسد، فالسوريالية هاجسها هو كيف يمكن اقتياد اللغة إلى مناطق بكر في الكتابة لم تطأها أقدام من قبل، وهذا ما عمل عليه كثير من الشعراء الغربيين، وما درج عليه أيضا ممن تأثر بهم من الشعراء العرب. بالنسبة لي في بعض مجموعاتي السابقة لا أنكر هذا التأثر بحكم عوامل عديدة في ظني من أهمها الإحساس بحرية التعبير على المستوى الكتابي. بينما في ديواني الأخير لا يعني في بعض جوانبه اعتمادي على السرد في بناء الجملة الشعرية أني أقع في نطاق السوريالية. في هذا الديوان كنت مهموما بالفكرة وبساطة التعبير عنها، دون التخلي عن عمق ما تبثه من دلالات أو إيحاءات عابرة للزمان والمكان، وهذا هو رهاني الشعري في هذه المجموعة.

*ما سر الحضور الطاغي للغياب والاحتفاء به في قصائد كتابك الأخير “غيابك ترك دراجته الهوائية على الباب” بدءا من العتبة الأولى للكتاب وهو عنوانه؟

ليس احتفاء تماما بالقدر الذي أرى في المفردة حالة شعرية بامتياز، أكان ذلك على مستوى الدلالة اللغوية أم كان ذلك على مستوى الدلالة الانطولوجية في الحياة. في المستوى الأول إذا ما دخلت المفردة في تركيبة أي جملة شعرية فهي تشكل المغناطيس الجاذب للثير من الكلمات الأخرى التي ترتبط دلاليا بمفردة الغياب؛ حيث تنفتح أمامك مسارب عديدة لنهر اللغة، تفضي بك الدربُ فيها إلى عمق البحر، بينما المستوى الآخر فإن فكرة كوننا زائلين عن الوجود هي فكرة لصيقة بانبعاث الشعر، وليس هناك شاعر لم تأخذه هذه الفكرة من تلابيبه وتضعه أمام الشعر مباشرة، درويش في ديوانه “في حضرة الغياب”، وديع سعادة في ديوانه “نص الغياب” أمثلة لذلك.

*حينما قلت ذات نص “أمي لا تعرف أني شاعر، أبي لم يقرأ قصيدة لي قط، وإذا ما رأى أحد أخوتي، حمامة تفر من قفص كلماتي، ظن أنها للجيران”.. هل كنت تريد قول إن الشعر مصير ذاتي ووجع خاص يطاردك في غفلة من الآخرين؟

-بالتأكيد الشعر بصفة عامة يسير في هذا الاتجاه، هو الوجع الذاتي. وإذا كان يحق للشاعر أن يؤول ما يقوله شعرا، فأظن أنني منذ بدأت كتابة الشعر إلى الآن ما زلت على قناعتي الراسخة بأن الشعر لغة خافتة جدا، لا يكاد يُسمع صوتها من فرط خفوتها، هو يمتنع عن الصراخ أو البكاء مثل طفل، هو همس أوراق الشجر التي تسقط على شفرات الهواء. لذلك بهذا المعنى يصعب توظيفه أو استثماره. يصبح لصيق صاحبه، ومفصل على قدر مقاسه ووسع حركته في الحياة. وهذه هي المأساة التي يعانيها كل شاعر ارتبط فهمه للشعر بهذا التصور كما في المقطع الشعري السابق. وأقول مأساة لأنها إما تفضي بك إلى التجديد والابتكار وإما إلى الانكسار والموات.

*هل تشكل كتابة الشعر هاجسا وقلقا بالنسبة لك، خاصة أنك ناقد أيضا تتناول أعمال الآخرين وتخضعها لمباضع النقد؟

-نعم هو هاجس، ظل يلازمني منذ أن كانت مفردة الكتابة تشكل محورا لاهتماماتي البحثية والنقدية، لقد حفرت هذه المفردة عميقا في تجربتي الشعرية والنقدية، بل أجد ثمة جسورا تمتد بينهما، تضفي كل واحدة منهما المعنى على الأخرى، في دلالة لا تنفك على ثراء الحضور في التجربة كلها. وربما القلق أو الهاجس يأتي من جانب آخر، من كون عدم الاستقرار على شكل معين في الكتابة يجعلك دائما على الحدود، تفكر في الطريقة للدخول إلى القصيدة، وهكذا يأخذك هذا الهاجس إلى عدد لا محدود من التداعيات والانثيالات.

مقالات من نفس القسم