حسن عبدالموجود
حينما شاهدت محمد إبراهيم طه، للمرة الأولى، خمنّت أنه «صيدلى»، وكان تخمينى قريباً من الدقة، إذ عرفت أنه طبيب «نساء وتوليد». طه شخص هادئ، لا يتحدث كثيراً، أو يتحدث بحساب، مهذب جداً، يكاد وجوده أن يكون غير محسوس، ومع تقدمه فى العمر لم يطرأ على ملامحه تغيير كبير، كأنه «استخدام طبيب»!
يقضى طه أيامه موزعاً بين شخصيتين، إذ يترك شخصية الكاتب فى المنزل ويتجه صباحاً إلى المستشفى بشخصية الطبيب، ليتعرض بها لعدد كبير من المواقف، بعضها أوحى له بأحد أهم رواياته «العابرون» فبطلها الطبيب يقرر اعتزال المهنة، لكن الأقدار تسوق له امرأة فى حالة مخاض، ويستسلم لفكرة أن تكون الحالة الأخيرة له كطبيب، لكن هذه المرأة تغير مصيره للأبد.
وخارج الرواية، وفى واقع شديد الوطأة، جاءت امرأة كانت قد وضعت مولودها منذ ثلاثة أيام وهى تنزف بشدة إلى المستشفى، ورأى طه جرحها من أسفل مفكوكاً بالكامل، وسأل أهلها، وكانوا يقفون فى الغرفة، عن سبب، ولكنهم لم يردوا عليه. أعاد طه الخياطة، لكن المرأة عادت بعد أسبوع بنفس المنظر، ثم عادت فى الأسبوع الثالث بين الحياة والموت، وقرر طه إدخالها العمليات فوراً لأنها كانت تحتاج إلى نقل دم. كان فى حيرة شديدة، ولا يدرى سبباً علمياً لما يحدث، وكان الغضب المكتوم بادياً على وجوه الأهل، لكن أحداً منهم لم يوبخه أو يوجه إليه إدانة كطبيب أجرى الولادة، ويعالج مضاعفات تتكرر للمرة الثالثة دون سبب واضح، حتى ظهر فى المشهد زوج الفتاة الشاب فتحول أفراد الأسرة إلى وحوش ضارية، وانهالوا عليه ضرباً بينما يحاول طه تخليصه من بين أيديهم، وكان أحدهم يهتف في وجه طه وكأنه يفهم ما يحدث: «تلات مرات يعمل فيها كده؟! نخبيها منه فين؟! ده الحمار ميعملش كده!»..
لكن الحكاية التالية لا تحمل أى طرافة. يقول: «أثناء عملى بمنطقة نائية، انتهيت من حالة ولادة طبيعية، وكانت المولودة أنثى، ولاحظت الوجوم على وجوه الحضور، جدة الزوج وأمه وأخته، واستطلع الرجال بالجلابيب من بعيد الخبر، فانسحبوا من المشهد مغمغمين: الحمد لله، لكننى بعد كتابة خروج للحالة، وجدت المولودة ملقاة فى سلة المهملات حية»!
وفى نوبتجية منذ ثلاثة عقود، قام طه بتوليد فتاة فى المستشفى ولم يكن معها مرافق سوى أختها، وفى الفجر هربت الفتاة وتركت المولود، ليكتشف متأخراً أن اسمها المدوّن على التذكرة مستعار، وسأل الممرضة إن كانت تعرف الشابتين، فهزت رأسها بالنفى، فجذب التذكرة من يدها ليسجل عليها حالة «خروج هروب»، مقرراً كذلك إبلاغ الشرطة، لكن الممرضة انقضّت على يده بتوسل: «بلاش بهدلة، وتحقيق وعرض على نيابة، وجزاء»، مضيفة بنفس لهجتها المتوسلة: «سيبنى اتصرف، البنتين دول بشوفهم كتير فى السوق»، فانتابه الشك فى أنها تكذب، ومع هذا سجّل الخروج: «ولادة، وتحسن» وأخذتْ الممرضة المولود، وتلكأتْ قليلا عند السلم، ولاح له أنها لم تنزل، وإنما صعدت. كان الدور الخامس من المستشفى مهجوراً والسقف مغلقاً إلا من سلم حديدى، تسلقه طه إلى السطح، فلم يجد سوى حجرة غسيل مهجورة ومغلقة، أطرق بأذنه فسمع أصوات طيور، ولما سمع بكاء طفل، عاد أدراجه وأبلغ الشرطة فكسرت الباب على أربعة أطفال فى أعمار مختلفة بخلاف المولود، وبدا أن هؤلاء الأطفال يعيشون فى غابة بأسمالهم البالية، وبعدم استطاعتهم نطق جملة كاملة، يقول: «منذ سنوات كان باستطاعة أى امرأة أن تأتى إلى المستشفى وتقطع تذكرة وتدخل إلى العمليات دون أن تكون معها بطاقة ودون أن يرافقها زوجها، وهكذا كان بإمكانها أن تترك مولودها وتهرب، وبالتالى تجد الممرضة ومعها بعض الأشخاص أنفسهم متورطين فى الأمر، وخوفاً من الشرطة كانوا يريحون أدمغتهم بإلقاء الأطفال على السطح. كنت مذهولاً وأنا أتابع سير التحقيقات، إذ كان هناك من يعلم بخلاف الممرضة. معاون المستشفى وكاتب الاستقبال وعاملة المطبخ، والجميع يتناوبون إلقاء الطعام وصحون اللبن أمامهم فى الحجرة المغلقة سراً خوفاً من تعرضهم لسين وجيم».
لا يحب طه المعطف الأبيض، ولم يحدث أن ارتداه بعد سنة الامتياز إلا لأيام معدودة. يفسر: «ليس فذلكة، بل لأن طبيب النساء والتوليد يكون دائما بزى العمليات (سكراب) وهو ثوب جراحى، لونه أزرق أو أخضر، من قطعتين، سترة برقبة حرف ٧، ونصف كم، وبنطلون، وهو الأكثر ملاءمة من المعطف أثناء الفحص ومتابعات مراحل الولادة، كما أنها تمنح المزيد من الحرية للتنقل خارج المستشفى فى أمسيات النوبتجية لشراء الطعام من الخارج أو حتى التجول فى المدينة، وهكذا لا يرتدى الكثير من أطباء النساء المعاطف إلا فى التفتيش والزيارات الرسمية، واللقاءات التلفزيونية، فيما يبقى المعطف زياً رسمياً لأطباء الأطفال والباطنة والتخصصات غير الجراحية، كما يعتبر شرطاً أساسياً لطالب الطب فى البداية، لكنه لا يلبث أن يفقد أهميته تدريجياً بعد سنة الامتياز، تلك التى كنا نحرص فيها على إثبات أننا أطباء أمام مرضى لا يثقون غالباً فى حديثى السن، ولذلك أعتبر سنة الامتياز هى آخر عهدى بالبالطو الذى كنت أستمد منه شرعيتى».
يعترف طه أنه شخص ليست لديه القدرة على لفت الانتباه، منذ كان طفلاً هادئاً، أو فتى منطوياً وخجولاً، هدوؤه كان أقرب إلى الخمول، وحتى هذه اللحظة، يدخل الأماكن ويغادرها بلا أثر يذكر، غير راغب فى إثارة الصخب ربما لطبيعته «الجوانية»، شخصية تمثل حالة من الزهد، لا تلفت النظر مطلقاً، كما يصف نفسه، ويكاد يجزم بأن كل ما حدث فى حياته لم يكن له دخل به، ويتذكر أن الناس انتبهوا فى قرية من قرى مركز بنها يوم ظهور نتيجة الثانوية العامة إلى ولد هادئ تأكل القطة عشاءه، ولد حصل على مجموع كبير يؤهله للالتحاق بطب عين شمس، وجاء فى نفس اليوم أحمد الخليفة، وهو شخص يقرأ القرآن فى البيوت وأخبر الأب بأنه رأى، بينما كان يقرأ القرآن، فى بيت أحد الأطباء، كتاباً واحداً مدوناً عليه السعر 100 جنيه، كان ذلك فى أغسطس 1981 ما دفع الأب إلى الاختلاء به وطلب منه أن يختار كلية أخرى، وصارحه بأنه على استعداد لأن يبيع هدومه، لكنه يخشى أن يبرك الجمل فى منتصف الطريق. يقول: «أبى أصابه الهلع ولم يدر بذهنه أن أحمد الخليفة يهول الأمر، أو أن من أتوا للتهنئة فى داخلهم شك بأنه يستطيع الصرف على ابن لا يلفت النظر فى كلية مهمة، وقد ظل على توجسه وإن فى صمت حتى بعد أن استفسرت من طالب طب فى بلدة مجاورة يسبقنى بعامين عن أسعار الكتب فاكتشفت أنها مثل أى كتب لأى كلية فى هذا الوقت».
عاش طه مع نفسه فترات طويلة أكثر مما عاش مع الخارج، كأنه فى حلم يقظة، وقد حشدتْ كل هذه التحديات طاقته وأخذ الأمور بجدية مستفيداً من مزايا مجانية التعليم والإقامة بالمدينة الجامعية، واستعارة الكتب من المكتبة الاجتماعية بالكلية، والحصول على منحة تفوق سنوية 96 جنيهاً حتى تخرج عام 87، وافتتح عيادة بالقرية. يقول إنه ربما كان حالماً أكثر مما يجب وهو يمضى معظم الوقت مع نفسه يتابع مسابقات أوائل الطلبة التى يقدمها على فايق زغلول فى الإذاعة، وبرنامج «الغلط فين» فى الجامعات المصرية، وكان مشدوها بأولئك الطلبة الذين ينطقون أسماءهم متبوعة بلقب: نهائى طب عين شمس، ويتخيل نفسه فى موضعهم، ويعترف بأنه كان خاملاً لا يلفت الانتباه، لكنه أثناء الدراسة بكلية الطب كتب أولى قصصه «أغنية للنهر» ثم توالت القصص حتى تجمعت لديه فى منتصف التسعينات مجموعة قصصية سماها «توتة مائلة على نهر»، وكان يعتبر أن عذوبة التناول هى الأفضل فى مقابل قسوة الواقع، وأن الريف لا يزال منطقة بالغة العذوبة والثراء، بموروثه وشوارعه الضيقة وحاراته ومقابره ومدقاته وترعه، وأن عالماً بهذه المفردات لا يزال قادراً على إثارة الدهشة، ويصلح منفرداً لأن يكون بناء لأعمال درامية وروائية بخاصيته الفريدة التى لا يتعايش فيها العلمى بجوار الأسطورى والخرافى فقط، بل يتداخلان ويتضافران بشكل لا ينبئ فى القريب عن إزاحة أحدهما للآخر.
أيهما الذى تحقق أولاً؟ الطبيب أم الأديب؟ يقول: «لا أذكر على وجه التحديد، لكنهما جاءا معاً، ففى الوقت الذى كنت فيه داخل العيادة بين مريضاتى، اتصل بى يحيى وجدى وكان يعمل صحفياً وقتها فى أخبار الأدب وأخبرنى بحصولى على جائزة الدولة التشجيعية عن: توتة مائلة على نهر، وفى نفس العام على جائزة الشارقة عن: سقوط النوار، فلم أضح بالطب من أجل الأدب كما فعل يوسف إدريس، فالمعايير اختلفت عن زمنه، والطب كمهنة فى مصر كان وما يزال حتى هذا التاريخ هو المهنة المضمونة لإحداث نقلة فى السلم الاجتماعى، لم تكن التضحية بأى منهما واردة من أجل الآخر، وبرزت فكرة المواءمة، والجمع بينهما، فتركت مشروع الدكتوراه فى النساء والتوليد من جامعة الأزهر بعد قطع شوط كبير فيها، واكتفيت بدرجة الماجستير فى التخصص كرخصة لفتح بطن مريضة أو إجراء عمليات الولادة، فى سبيل إتاحة الوقت للكتابة والقراءة الأدبية».
ويضيف: «بالبلدى كلاهما كالفريك لا يحب الشريك، الطب والأدب، فكلاهما يستقطبك ويستهلك أوقاتك، وكلاهما يغار من الآخر رغم أن أحدهما يعنى بالإنسان جسدياً والآخر يعنى به روحياً، لكن المواءمة بينهما ليست مستحيلة، والحاجز بينهما سبق أن حطمه يوسف إدريس، ففتح باباً بينهما لم يغلق حتى الآن، عبر من خلاله مصطفى محمود ومحمد المخزنجى ومحمد المنسى قنديل ورضا البهات ومحمد داود وآخرون».
كان أول ما لفت نظره إلى الكتابة هو الفارق الطبقى بين عالم القرية وعوالم العاصمة، فى القرية درجة ما من العدالة، لا فروق طبقية واضحة، الكل سواسية، كما يقول، ابن العمدة وابن الفقير، حيث الحياة إجمالاً بها درجة من التقشف والقسوة ولا وجود لرفاهية، بينما فى المدينة ومع أول محاضرة له فى مدرج السينما بطب عين شمس، بانت الفروق واضحة، فاحتمى القادمون من الأقاليم فى جانب، وفى الجانب الآخر استقر أبناء القاهرة، كانت الفروق واضحة، بالنسبة له، فى لون البشرة، والملابس، والجرأة وطريقة الكلام وأسلوب الحياة، وما منعهم من الانهيار أن المدينة الجامعية فتحت أبوابها لأولئك المغتربين: «بتنا نشعر بأننا من طينة أخرى، مغتربون، مكانياً ونفسياً واجتماعياً، ولا سبيل إلى فكرة المساواة بين شباب مرهقين من العمل ومن سوء التغذية وبين شباب مكفول لهم الحياة الأسرية الكريمة، ربما كان هذا هو الدافع الحقيقى وراء الاحتماء بفكرة الكتابة، والكتابة عن عالم القرية تحديداً، حيث العالم لا ينافسك فيه أهل العاصمة جنباً إلى جنب مع مزاولة مهنة راقية تضمن الانتقال إلى طبقة اجتماعية أعلى».
على أى حال تخرج محمد إبراهيم طه، وأصبح طبيباً، يثق فيه الجميع. وقد أمده تخصصه بالسعادة. يقول: «قسم الحوادث فى أى مستشفى من الأقسام المقبضة، صراخ وعويل وذهول وإصابات وخناقات، عدا حوادث الولادة، إذ تكون مصحوبة بصراخ، تعقبه فجأة زغاريد وأفراح، عملت بمستشفيات عديدة، أكثرها بنها التعليمى، قسم النساء والتوليد، متدرجاً من طبيب امتياز، إلى طبيب مقيم نساء، ثم مساعد أخصائى بعد الحصول على درجة الماجستير، ثم أخصائى ثم استشارى بعد 15 سنة من الماجستير والعمل، وهو التخصص الذى وجدت من مميزاته فيما بعد أنك تحصل على نتيجة عملك فوراً فى نفس الوقت، ليس مثل تخصصات الباطنة مثلاً، إذ يستغرق المريض فيها وقتاً حتى يخف أو يموت، وحيث يكون التحسن بطيئاً أو غير ملحوظ، بينما فى حالات الولادة، وفى قسم الحوادث تحدث الأزمة ثم يأتى القلق للأسرتين الزوج والزوجة، ثم تتدخل وتتخذ قراراً فورياً، وهو ما يجعلك تشعر بأهميتك فى هذه اللحظة، حيث لا ينازعك أحد. حتى زملاؤك الأطباء من تخصصات أخرى يقفون مكتوفى الأيدى أمامك وزوجاتهم يضعن مواليدهن، وبحسب سرعة اتخاذ القرار تحصد نتيجة دقتك فوراً، تقديراً وامتناناً».
ويضيف: «هذا التخصص محدود كذلك، يمكنك ألا تمارس فيه القراءة كثيراً، فهو يعتمد على المهارة، والعمليات التى تجرى فيه معدودة، وهو ما يجعلها حرفة غير قابلة للنسيان تماماً، بالضبط كالعوم أو ركوب الدراجات لا يمكن أن تنساهما أبداً مهما توقفت عن ممارستهما، وهو ما منح الكتابة الأدبية عندى وقتاً كبيراً، كما أن المجال والتخصص بالذات يمنح الفرصة لقراءة حالات إنسانية، فالولادة القيصرية هى العملية الوحيدة التى تعقبها الزغاريد دوناً عن كل العمليات الجراحية، وقسم النساء مبهج، غالباً ما يكون حصاده فرحة للجميع، الأسرتين والطبيب والممرضة والقابلة، وهكذا تذهب إلى المنزل بعد حادث سعيد، لتخلع معطف الطبيب وتستعيد شخصية الكاتب».