محمد آدم‏:‏الثقافة العربية تعيش حالة انهيار

موقع الكتابة الثقافي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

حاورته : جيهان محمود

يعد محمد آدم أحد أبرز شعراء جيل السبعينيات‏,‏ وقد قادته دراسته للفلسفة إلي التمرد علي الشعر التقليدي وقيود التفعيلة فاتخذ منحي يميل إلي التحرر والتجديد وانعكس ذلك علي كتاباته‏,‏ فشغلته فكرة البحث عن الجسد‏,‏ ما جعله يصطدم مع أصحاب الفكر المتشدد حتي تمت مصادرة ديوانين له‏..‏ وقد صدرت له أخيرا أعماله الكاملة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر‏..‏ الأهرام العربي التقت آدم وكان هذا الحوار‏.‏

‏*‏ دراستك للفلسفة‏..‏ كيف كان لها أثر في شعرك؟

بعد أن انتهيت من قراءة النص الحديث ممثلا في رواده الكبار‏:‏ صلاح عبد الصبور والسياب والبياتي وأدونيس‏,‏ كان لابد لي من أن أقف وقفة وأسأل‏:‏ هل هذا الشعر سيبقي منه شيء؟ فكان أن أعدت قراءتي الشعرية مرة ثانية‏,‏ واكتشفت أن هناك شعريتين‏:‏ شعرية موسيقية ذات بلاغة عالية‏,‏ وشعرية تتكئ علي الرؤية والحدث‏,‏ الأولي يمثلها المتنبي وأغلب شعراء العربية‏,‏ والثانية يمثلها المعري العظيم بكل منجزه الهائل‏,‏ وكان أن تنبهت إلي أن كل شعر عظيم لابد أن يكون معولا علي رؤية فلسفية كبري‏,‏ وأن أي كتابة خارج هذه الرؤية الفلسفية هي كتابة هشة وتافهة ومكررة حتي ولو كانت محملة ببلاغة عالية أو مدهشة‏,‏ الشعرية الأولي‏(‏ شعرية البلاغة‏)‏ أصابت العقل العربي في الصميم بالعمي‏,‏ والشعرية الثانية كانت السبب في نفور أو ابتعاد العقل العربي عن شغله ورؤيته‏,‏ الأمر الذي قادنا في النهاية إلي هذا العالم الفوضوي الذي نعيشه الآن‏,‏ فالثقافة العربية في شقها البلاغي هي التي سيطرت علي الذهنية العربية وانتهي بها المطاف إلي ما أسميه بالعقل الجمعي الرجعي‏,‏ هذا الاختيار‏’‏ الرؤيوي‏’‏ للشعر جعلني أبتعد كثيرا عن شعرية البلاغة التافهة والتفت إلي ما في الثقافة العربية من غني وثراء وخصوبة‏,‏ الأمر الذي فتح الباب أمامي واسعا لقراءة ابن رشد وابن سينا وابن طفيل‏,‏ وهذه الرؤية الإشراقية عند بعض الفلاسفة العرب قادتني إلي البحر المحيط في الثقافة العربية الإمام الأكبر محيي الدين بن عربي‏,‏ وأزعم أن هذا الرجل يكفي ثقافة أمة بكاملها بكل ما فيه من عمق فلسفي وميتافيزيقي ووجودي وجدلي وكان من أثر ذلك أن النص الشعري الذي أكتبه كان نصا لا أقول معجونا بالفلسفة‏,‏ فالفلسفة نقيض الشعر‏,‏ ولكن النص الذي يخضع العالم إلي الرؤية العميقة طارحا سؤاله الفلسفي من داخل بناء الشعر ذاته‏.‏

‏*‏ لماذا يبدو الصراع حول الأشكال الأدبية محسوما في العالم العربي‏,‏ بينما لا نزال نتحدث في مصر عن قصيدة النثر هل هي شعر أم لا؟

يبدو أن هذا الصراع في شق منه سياسي‏,‏ فالأوضاع السياسية والاجتماعية‏,‏ وما يحدث في العالم العربي من فعل دراماتيكي علي المستوي السياسي‏,‏ قد عجل بحسم هذه القضية‏(‏ ما يحدث في العراق مثلا وبيروت والسودان والصومال‏)‏ أما الأوضاع في مصر فهي تميل إلي الثبات والتكرار والتشابه الفج‏,‏ هذا الأمر الذي أدي إلي شلل الثقافة المصرية في الثلاثين سنة الأخيرة‏,‏ بحيث بدت هذه الثقافة وكأنها تخلت عن خصوبتها مرة واحدة‏,‏ وأصبحت تميل إلي الاجترار والسكونية‏,‏ الأمر الذي أفرز معه هذه الظاهرة الغريبة‏,‏ وهي هذا الانقسام بين أصحاب قصيدة التفعيلة والشعر العمودي من ناحية‏,‏ وقصيدة النثر من ناحية أخري وكانت في معسكرين متقاتلين‏,‏ ونسينا في ذلك أن الشعر لا يحتاج إلي كل هذه الحروب ولا أدوات التدمير تلك ولا هذه الخناجر التي يحملها كل طرف تجاه الآخر فقط‏,‏ الشعر هذه القارة العبقرية التي لا يطأها مقلد قط‏,‏ إنها قارة الأساطير والأحلام والسحر‏.‏

‏*‏ تنتمي زمنيا إلي جيل السبعينيات ومع ذلك فإن هذا الجيل ينحصر في شعراء جماعتي‏’‏ إضاءة‏77‏ و‏’‏أصوات‏’‏ هكذا يتحدث أبناء هاتين الجماعتين عن تلك التجربة‏..‏ كيف تقيم تجربة هذا الجيل من خلال الأصوات التي أفرزتها‏’‏ إضاءة‏77‏ و‏’‏أصوات‏’..‏ وما الذي تبقي منها؟ ولماذا يتم إقصاؤك من هذا الجيل؟

أولا من الذي قرر أن هذا الجيل ينحصر في هؤلاء أو أولئك‏,‏ من الذي أصدر هذا الفرمان‏,‏ إن كان قرارا سلطويا فأنا أضعه تحت‏’‏ حذائي‏’,‏ وإن كان قرار لمجموعة من هواة النقد ومحترفي كتابة مجلات الحائط‏,‏ فهو لا يساوي الورق الذي كتب عليه‏,‏ الجيل الذي أنتمي إليه بالمفهوم الفلسفي وليس المفهوم‏’‏ العصاباتي‏’,‏ هو الجيل الذي يطمح إلي تأسيس نظرية جمالية تختلف اختلافا كليا وجذريا عن الأجيال السابقة بحيث إن هذا الجيل يشكل في نهاية الأمر ملمحا خاصا وذائقة خاصة في تاريخ الكتابة‏,‏ وهنا يمكن أن نطلق علي هذا الجيل اسم‏’‏ الجيل‏’‏ حقيقة‏,‏ أما هذا الجيل‏’‏ السبعيني‏’‏ الذي استعار معظم أفراده قمصانهم وأقلامهم وكلماتهم من الأجيال السابقة‏,‏ فلا يشكل إنجازا حقيقيا في الكتابة الشعرية بقدر ما يشكل انحيازا جمعيا في بناء سياسي أكثر منه بناء ثقافيا‏,‏ ولذلك هذا الجيل تمخض عن صوت أو صوتين في مجموعة‏’‏ أصوات‏’‏ وكذلك الأمر في مجموعة‏’‏ إضاءة‏’,‏ وإذا فتشنا عن الباقين نكتشف أنهم بلا موهبة حقيقية أو نتاج ذي بال أو إنتاج شعري حقيقي‏,‏ ثانيا‏:‏ ما التأسيس الجمالي للتجربة الشعرية السبعينية؟‏,‏ تماما مثلما حدث مع السرياليين أو المستقبليين في الثقافة الفرنسية‏,‏ الآخرون كانت لديهم رؤية ويتكئون علي تنظير فلسفي وجمالي عميق‏,‏ لأنهم أبناء ثقافة تخضع لفلسفة الهدم والبناء طول الوقت‏,‏ وكذلك الشك إنهم يمثلون الجدل الهيجلي بمفهومه الفلسفي شعريا‏.‏ أما شعراء‏’‏ أصوات‏’‏ و‏’‏إضاءة‏’‏ فقد أنتجوا نصوصا إما مقلدة للشعرية السابقة عليهم‏,‏ في حين أن المؤسسين الكبار في كل شعرية عالمية هم فاتحو طريق ومحتلو قارات وزارعو أنهار وسط صحراوات الرتابة واللامعني‏,‏ أما فيما يخص تساؤلك‏:‏ لماذا يتم إقصاؤك؟ أرد بما قاله‏’‏ نيتشه‏’‏ في كتابه العظيم‏’‏ إنساني مفرط في إنسانيته‏:’‏إن الكتابة العظيمة لا تشابه كتابة القطيع‏’..(!!).‏

‏*‏ في فترة من الفترات كان نص محمد عفيفي مطر مهيمنا علي أصوات شعرية عديدة‏..‏ لماذا ضاع هذا الأثر في الموجات التالية لجيل السبعينيات؟

أزعم أن‏’‏ محمد عفيفي مطر‏’‏ ظاهرة لغوية وصوتية‏,‏ كذلك إنه في الجوهر من شعره شاعر تأخر عن الشعر الجاهلي بأكثر من‏1400‏ سنة‏,‏ لأن‏’‏ مطر‏’‏ انحاز طول الوقت إلي الحس اللغوي وانجذب إلي حد الفتنة بإغواءات البلاغة القديمة بكل منجزها البلاغي‏,‏ والناظر إلي شعره يكاد يستشف أن هذا الشاعر لايزال يقيم في خيمته منفردا‏,‏ ونائيا في صحراوات البادية وأن علاقته بكل ما هو يومي وهامشي وذاتي‏,‏ هي علاقة عابر سبيل لا يتوقف إلا تحت خيمة اللغة‏,‏ اللغة في ذاتها وجوهرها لا تصنع شعرا‏,‏ إنها أداة فقط في صياغة الشعر‏,‏ إضافة إلي أن نص‏’‏ مطر‏’‏ استهلك تماما في هذه اللغة العالية‏’‏ الطنانة‏’‏ التي تكاد تتخلي عن المعني تخليا كاملا‏,‏ وما إن يدخل المرء أرض هذه التجربة حتي يكتشف أنه بين مجموعة من الكلمات التي تصلصل‏,‏ وذات إيقاع وجرس عال ولكنه لا يتبقي منها أي شيء علي طرف القلب ولا يمكن للذاكرة أن تستعيدها كنص إنساني عال مثل تلك النصوص التي نقرأها في الآداب الأخري‏,‏ فكفافي يظل محملا بالجوهر الإنساني حتي لو ترجم إلي ألف لغة‏,‏ هكذا الشعراء الكبار بكل لغة لا يضيع منهم معني ولا يفوتون من أيديهم الحس المشترك للإنسان‏,‏ هذا برغم الترجمة فما بالك بشاعر أوقف كل تجربته علي اللغة‏(‏؟‏!)‏ أعتقد أن‏’‏ عفيفي مطر‏’‏لن يبقي منه الكثير‏,‏ هذا الأمر الذي جعل جيل السبعينيات ينفر منه‏,‏ وجعل شعراء قصيدة النثر يتجنبونه تماما ويعتبرون نصه نصا متحفيا‏.‏

‏*‏ هل حظي نص محمد آدم بالمتابعة النقدية اللائقة به؟

لست منشغلا بالمتابعة النقدية أو غيرها أنا منشغل فقط بالكتابة‏,‏ أنا أعلم أن الكثير من كتاباتي نوقش في الجامعات المصرية والعربية‏,‏ وهذا الأمر لا يشغلني قط‏,‏ يكفي أن أقول إن هناك من يلحون في الطلب علي الكتابة عن كتاباتهم لدرجة يمكن القول بثقة إن الثقافة العربية الآن تعيش فترة انهيار‏,‏ لأن كل شيء فيها غير خالص للكتابة‏,‏ وإنما صارت الحركة النقدية بالقطعة وهناك نقاد‏’‏ خصوصي‏’‏ لبعض الكتاب‏,‏ لدرجة أنه بمجرد اختفاء هؤلاء الكتاب عن الساحة يختفي هؤلاء النقاد معا‏,‏ أنا من هذا الفريق الذي يترك كتاباته تدافع عن نفسها فإذا لم تتحمل ولم تستطع أن تدافع عن نفسها‏,‏ فهي خارج الكتابة‏,‏ كل كتابة يحاول أن يدافع عنها صاحبها هي كتابة فاشلة‏,‏ الكتابة الحقيقية تتسلل إلي الدم والعروق لتصل إلي المخ والأعصاب ولا يمكن أن تنتزع من الروح إلا بالموت‏.‏

‏*‏ وماذا عن تجربة ديوانك‏’‏ أنا بهاء الجسد واكتمالات الدائرة‏’‏ و‏’‏هكذا عن حقيقة الكائن وعزلته أيضا‏’‏ ؟ ولماذا تمت مصادرتهما؟

في ديوان‏’‏ أنا بهاء الجسد واكتمالات الدائرة‏’‏ الذي صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام‏1992,‏ كنت أحاول أن أوجد تصورا للكون من خلال‏’‏ الجسد‏’‏ وفي نفس الوقت أحاول أن أنقل الجسد من شبكة علاقاته الأرضية الضيقة المحددة بالزمان والمكان معا‏,‏ إلي فضاء أوسع وأكبر من الزمان والمكان المحددين له‏,‏ كان هذا التصور للجسد بمثابة الخطوة التي قادتني إلي الاشتباك مع العالم كله بكل ما فيه من لغة وأساطير ودين وتصوف ووجود‏,‏ فكان الجسد بمثابة البرزخ الفاصل بين عالمين‏:‏ عالم المادة الغفل‏,‏ وعالم ما وراء اللامتناهي‏,‏ فاصطدمت في هذا الديوان بكل الأسماء التي طافت ودارت حول سؤال الجسد بدءا بنيتشه ومرورا بهيجل وانتهاء بمحيي الدين بن عربي والغزالي‏.‏

الأمر الذي أحدث ضجة هائلة وصلت إلي قبة مجلس الشعب وتمت مساءلة وزير الثقافة‏-‏ آنذاك‏-‏ وتمت مصادرة الديوان بحيث لا أحتفظ منه إلا بنسخة واحدة‏,‏ وحينما سألت عن سبب المصادرة كانت الإجابة مضحكة‏.‏

أما بالنسبة لديوان‏’‏ هكذا عن حقيقة الكائن وعزلته أيضا‏’‏ فهو تطوير لمشروعي‏’‏ الجسداني‏’‏ في الشعرية العربية‏,‏ والذي حاولت من خلاله أن أختلف بنصي‏,‏ أقدم نصا مغايرا مختلفا‏,‏ هذا النص يلتصق بالقوة الحيوية الخلاقة للكتابة‏,‏ أي كتابة لا تكتب علي الحواف ولكنها تقبض علي الجمر‏,‏ وبعد أن تم نشر أعمالي كاملة في المؤسسة العربية أصبح النص علي الملأ ولم أعد بحاجة لمثل هذه الصغائر‏.‏

‏*‏ هل مازالت لدينا قيود في حرية الرأي والتعبير في الوطن العربي؟ وما حدود الرقابة الداخلية علي المبدع؟

أرفض أن تكون هناك رقابة خارجية تأتي من سلطة ما أو هيئة أو جهة ما‏,‏ الكاتب الذي لا يملك ضميرا ثقافيا لا يصح أن نطلق عليه‏’‏ كاتب‏’,‏ كل كتابة هي رقابة بشكل ما‏,‏ هي عين رائية بطريقة ما‏,‏ هذه الرؤية هي نوع من المراقبة التي يقوم بها الكاتب من تلقاء ذاته‏,‏ أما هذه الرقابة المفروضة في العالم العربي فالسلطة تتعامل معنا‏,‏ وكأننا أبناء غير شرعيين لهذه الأمة أو مازلنا قصر وعليهم أن يضعوا إشارات مرور مثل تلك الإشارات التي تضعها وزارات الداخلية في الشوارع لتحدد متي يبدأ ومن أين يعبر المشاة‏,‏ ولأننا نعيش ثقافة‏’‏ مأزومة‏’‏ علي المستويين‏:‏ السياسي‏,‏ والاجتماعي فستظل هذه الأزمة قائمة‏,‏ رجاء دعونا نتنفس حرية‏,‏ نجربها لمرة واحدة‏,‏ دعونا نكتشف أننا بشر وأحرار حتي تأتي أجيال أخري أكثر قدرة علي الغناء والرفض‏

مقالات من نفس القسم