محمد أحمد شمروخ
رغم الاختلاف الواضح بين شخصيتي ممدوح وحسن، إلا أن ذلك لم يمنعهما من أن يكونا صديقين.
ممدوح رغم تخرجه من الجامعة بتقدير لم يستطع أن يأخذ دوره في التعيين لأن ابنة السيد عميد الجامعة كانت في الدفعة وأنتم تعرفون الباقي، ممدوح يواظب على شراء الجرائد المستقلة، يشاهد المد الإعلامي البناء، يستفزه ما يرى، يحاول أن يصنع من حسن ثائراً، تأتيه الإجابة من عقل تتلاعب به كل أنواع الحبوب والمسكرات:
ـ مصر ادتنا إيه يا ممدوح؟
يضحك حسن الذي تعجبه الثقافة وما توفره لصاحبها من حضور، ولكن صعوبة الحياة جعلته يتاجر في الأقراص المخدرة، يستعين بصبي صغير يحمل عنه تجارته، يجلس مع ممدوح تأتى الزبائن، يغمز حسن للصبي أذهب بعيدا، يمتعض ممدوح، ينظر لحسن، يرفع حاجبه:
ـ آخر مرة يا عمنا الثوري.
يداعب ممدوح لوحة المفاتيح، يمر على كل الأسماء التي حفرت في الصخر؛ لترفع رأسها قليلاً تغرد علها في يوم يلحق بها كل الناس، غداً 25 يناير، ستكون وقفة احتجاجية، يحاول ممدوح أن يشد حسن معه، تأتى نفس الإجابة المخدرة:
ـ مصر ادتنا إيه يا ممدوح، خلى أولاد البهوات والمثقفين مثلك، ينزلوا يحرروا البلد.
ولأن الليل دام ثلاثين سنة، لم تكن الليلة قصيرة، وممدوح يتذكر ما حدث معهم؛ يوم تخلى عنهم الجميع، سحلوا في الشارع أمام المارة، درس قاسٍ لمن تحصن في البيوت ولم يخرج
ممدوح في ناهيا، تجمع ورود مصر، يتجهون صوب التحرير الذي تأخر كثيراً.
حسن يمارس هوايته الوحيدة النوم؛ هو لا يصحو قبل العاشرة مساءً يفتح الصنبور الصدئ، يضربه حسن المياه على رأسه كي يفيق من صداع الأمس، سعل؛ اقشعر البلغم المتراكم منذ سنوات، يصعد سلالم البدروم يندلق في الشارع الضيق، يرى تجمع أهل الحارة، يدخل المقهى يرفع رأسه يرى الرصاص يخترق الأجساد، الدخان يملأ سماء الميدان، عربات الشرطة تطارد شباب مصر، نظر حسن حوله لم يصطدم بوجه ممدوح، سأل، لم يأته الجواب، ممدوح في الميدان.
لم يكن حسن صاحب نظرية فلسفية في التروي والتفكير بعمق، جسد يقود العقل، جرى صوب الميدان، لا تفارق خياله صور الشهداء والجرحى، ممدوح صديقي الوحيد:
ـ مصر ادتنا يا ممدوح.
يدخل المستشفى الميداني، وقف يتأمل الجروح والعيون المفقوءة، بدأ يتخيل ممدوحاً وهو مصاب، لملموا جسده من تحت مصفحة، جاوب أين أنت يا ممدوح.
حسن يقود التظاهر:
ـ مصر أعطتنا أيه يا ممدوح.
يتساقط من حوله الشباب، يحمل المصابين؛ يعود يمسك الأحجار يقذفها بكل الغل الجاثم على سنوات العمر، تصيب الضابط المنهار، تخرج المصفحة تطارد حسن وبعض الشباب، تدوس، حسن ينط ويجرى بين الحارات، في جزء من الثانية، المدرعة مالت للجنب، يقذف حسن جسده صوب هذا الولد الغض، يسحبه بعيداً، يقعان على الأرض، صفق سكان الشارع ، يد مصرية ترفع حسن من الأرض، لتطبع قبلة على رأسه، لم يعرفه حسن ساعتها، نظر في عين حسن التي بللها الدمع، أول مرة في حياته يكافأ بالشكر
بين تلك الجموع الغفيرة والمباني المحترقة: سواد دخانها الذي تنفثه في صدور الشعب أعطى مساحة للحزانى أن يبكوا قليلا، الليل ملك الخوف جاء كلص، بعد قطع الهمس، انقطاع الأخبار، حسن بكل خبراته في الكر والفر، يراوده الأمل أن يجد ممدوحاً، الجميع في الميدان، الليلة اعتصام.
حسن يساعد الطبيب في تطبيب الجراح، لاحظنا على جسده كل ألوان الدم، يسمع طلقات من أعلى الكوبري يجرى مع الشباب بأحجار مصر المستباحة ليردوا بها على الرصاص
يرى حسن القناصة، يسقط شهيدان
يسمع حسن: الله أكبر، الله.. أول مرة في حياته يسمع أذان الفجر.. يندفع خلف القناصة يمطرهم بالأحجار، تستقر الرصاصة في الصدر حسن من أعلى الكوبري، يملأ عينيه من شباب مصر، يخرج الصوت الثائر..
ـ مصر هي الدنيا يا ممدوح
يسمع الميدان هذا الصوت، يجمعون الشهداء، يجلون الجرحى.
صورة ممدوح الناشط السياسي؛ تتصدر صور الشهداء، حسن في نفس المشرحة، لا يفرقهما شيء، بنط الكتابة المهزوز المجهول.