ياسمين الغمري
قطعة حجر صغير لا يكاد يصل عرضه إلى ثلاثين سنتيميترا وكذلك طوله، مُلقى في عرض البحر، وهب نفسه ليكون ملاذًا آمنًا لطائرٍ صغير يقف فوقه لينجو بنفسه من ثورة الأمواج. يقف الطائر بحذر إلى أن يطمئن أن الموج خفت وتيرته، فيَخفض منقاره في الماء ليتلقط ما يجود به الحظ عليه، ثم يرفعه سريعًا ويحاول أن يحكم سيطرته على رزقة الذي بين فكي منقاره إلى أن يستقر طعامه في معدته الصغيرة.
مشهد وقعت عيني عليه أمس، عند شاطئ الحمراء بمدينة جدة، استحوذ على جُل تفكيري لمدة لا بأس بها، إذ ظل نظري عالقًا عند قطعة الحجر هذه، كيف لهذه السنتيمترات القليلة أن تكون حصنًا منيعًا لهذا الطائر الصغير في هذا الكون مترامي الأطراف؟! طرق السؤال رأسي بحثًا عن إجابة، وما لبث عقلي يفكر حتى قفزت فكرة أخرى ذهبت بي إلى منحنى أخر، إذ كنت أظن أن المكان المناسب الذي يمكن أن نحتمي داخله من فراغ هذا العالم لننعم بالسكينة والسلام، لابد أن يكون كبير المساحة، به جدران وأسقف وأبواب مغلقة، لا قطعة حجر صغير مُلقى في بحرٍ واسعٍٍ هائجٍ موجه. هنا بدأ مفهوم المكان يتأرجح أمام عيني ويأخذ بُعدًا جديدًا. ورأيت نفسي كم أشبه هذا الطائر، وفي لحظة خاطفة مر أمام عيني شريط سينمائي يعرض كل مكان ذهبت إليه لأرمم خاطري وأعود منتصبة القامة لتحقيق أحلام تمنيت أن تصير واقعًا، لكن حالت معوقات كثيرة بيني وبينها.
“الأماكن أوفى من بعض البشر”، دائمًا أردد هذه الجملة وأروي نفسي بها لتنتعش روحي وتطمئن أن العالم مليء بأشياءٍ كثيرة غير البشر قادرة على اسعادي، فمثلًا لن يغار منك مكان مثل صديق الطفولة الذي تتبدل مشاعره فجأة تجاهك ويرحل تاركًا خلفه أسئلة كثيرة كلها تبدأ بـ “لماذا؟”، ولن يغضب منك مكان لأنك غفوت يومًا أو قصرت في بعض مهامك، بالعكس ستجد المكان دائمًا فاتحًا ذراعيه لك، يستقبلك استقبال المنتصرين وأن كنت مهزومًا هزيمة نكراء، دائمًا ستجد المكان صديق وفي حتى وأن صار ركامًا، ستجد بين حطامه شيئًا يذكرك كم كان أمينًا عليك، قادرًا على احتوائك من برد هذا العالم.
كثيرة هي الأماكن التي استوطنت داخل روحي، لكن هناك مكان من بين هذه الأماكن احتل القلب، منحني حبًا وطمأنينة وحياة، انتشلني من حزنٍ محقق لا محالة، كان عائلة لي، أتذكر الطاولة التي تنتظرني كل أسبوع والنافذة التي ترفع الستار بمجرد أن تتلمس حضوري كاشفًة لي عن نهارٍ صافيٍ راًئقٍ لاستمتع بالقراءة والدراسة والعمل أمام الأشجار في حضور نور الشمس. كيف لي أن أبادلهم الحب؟ كيف أحتضنهم بقوة وأتشمم رائحتهم عن قرب؟، إلى الآن أذهب إلى هذا المكان، لكن ما تقع عيني على الباب الحديدي؛ باب البوابة الخارجية ويظهر اسم (مكتبة الملك فهد العامة بجدة) مسطور بشكل بسيط على جدار مبنى حجري تحيط به الأشجار حتى يقفز قلبي داخل ضلوعي، وتلمع عيني فرحًا وطربًا، ثم تتلاشى هذه الفرحة تدريجيًا في بعض الأوقات حينما أتذكر أن هذا المكان ليس ملكًا لي، ولا هذا البلد بإمكاني البقاء فيه للنهاية، وأنه مجرد مكان سيظل ذكرى جميلة في العمر، ثم أنظر للمكان طويلًا واسأل نفسي كيف سيكون الوداع؟ حتمًا سأبكي طويلًا كما بكيت على أماكن أحببتها وأحبتني وما زلت ألقي عليها التحية في خيالي بعد فراقًا حزينًا ويصلني الرد أحيانًا.
قد يراها البعض مجرد مكتبة عادية يذهب إليها الطلاب للمذاكرة أو بحثًا عن معلومة هامة داخل كتاب وُضع بترتيب مجدول على رفٍ يضم عشرات الكتب. لكنها بالنسبة لي لم تكن كذلك، بل كانت مكانًا تستكين الروح في صحبته، هناك أجد نفسي التي أحبها، أحاول أن اضمها بعيوني، أحفظ ملامحها؛ الطاولات، الكراسي، أرفف الكتب، السجاد، الستائر، الحوائط، التصميم الداخلي للمكان. استعطف عيني وذاكرتي طويلة المدى أن تحتفظ بهذه الصور فلا أعلم إلى أن وقت يمكنني الاستمرار في زيارة هذا المكان؟!
بدأت علاقتي بمكتبة الملك فهد العامة بجدة منذ ثلاث سنوات، حين قَدمتُ إلى هذه المدينة مودعة أرض الأحلام، مدينة الرياض، بدموعٍ حارقة – كانت من أحب المدن إلى قلبي وكان فراقها عزيزًا على الروح- ما جعلني أرفض جدة رفضًا تامًا، وظللت حانقة عليها ما لا يقل عن شهرين متتاليين، رافضة كل شيء فيها. كانت دموعي تسيل من تلقاء نفسها عند رؤية اسم الرياض على أي لافتة إعلانية، حتى جاء اليوم الذي تغير فيه كل شيء وتبدلت مشاعري نحو المدينة الجديدة. أذكر التاريخ جيدًا الثالث عشر من شهر شباط / فبراير لعام ٢٠٢١، وقعت عيني على مبنى مكتبة الملك فهد العامة بجدة، صدفة وأنا أقود سيارتي، ابتسمت عيني وتنفست الصعداء وحمدت الله داخلي أني عثرت على مكتبة أنهل منها ما أشاء من الكتب، فالكتب هي الأمان الذي يجعل الحياة في نظري محتملة بعض الشيء، هنا هدأت نفسي قليلًا وشعرت أن هناك أمل في أن أجد في هذه المدينة شيئًا يهون علىِِّ غربتي.
عدت إلى المنزل، وعقلي متذكر جيدًا أن لديه مهمة عاجلة وهي البحث عن هذه المكتبة على الشبكة العنكبوتية “الانترنت” لمعرفة كل شيء عنها. متي تفتح أبوابها للزائرين؟ ومتي تُعلن انتهاء مواعيد العمل؟ وكل ما يتعلق بها، وظللت هكذا أبحث عن كل شيء كما لو كنت عاشقًا خفق قلبه للمرة للأولى ويريد معرفة كل شيء عن محبوبه. ستون دقيقة مرت أو ما يزيد قليلًا، وأنا على هذه الحال، حتى قررت أن أذهب إليها وأخلق بيننا رباط مقدس، فكانت فكرة الاشتراك السنوي بها لاستعارة الكتب هي الباب الذي دلفت منه لدخول عالم سحري يشبه عالم ألف ليلة وليلة.
في أول لقاء بيننا كنت مثل طفل يحاول أن يكتشف العالم المحيط به. أطلقت عيني في المكان لأعرف موضع كل شيء، أين يكون قسم المرأة، قسم المراجع، المكتبة الرئيسية، الأدب العربي، الأدب المترجم، غرفة أمينات المكتبة لإتمام عملية استعارة الكتب كل مرة؟، وداخل خريطة صُممت بشكل خاص داخل عقلي لهذا المكان، احتفظت بموقع كل قسم حتى اتجنب التيه في الزيارة القادمة للمكتبة. ثم تباعًا علمت أن هناك بعض الفتيات ينظمن لقاء شهري يحمل عنوان “استقراء”، يخترن كتابًا ما ويستقرون عليه بالتصويت، وفي نهاية كل شهر تتم مناقشة الكتاب المختار. تحمست للفكرة وقلت لنفسي لما لا؟ كان الكتاب الذي من المفترض أن تتم مناقشته عباره عن مجموعة مقالات اختارها وترجمها وجمعها المترجم رضا النماصي داخل كتاب اختار له عنوان “داخل المكتبة.. خارج العالم”، وكأن هذا الكتاب وعنوانه يُشبهاني كثيرًا أو نقول يشبهان علاقتي بمكتبة الملك فهد التي هِمْتُ بها حبًا بعد ذلك.
عكفت على قراءة الكتاب ليومين متواصلين، لاسيما أن عدد صفحات الكتاب لم تتجاوز المائة وخمسين، فكان يسيرًا أن أتم قرأته سريعًا. وجاء يوم السبت الأخير من شهر شباط/ فبراير، وهو الموعد المحدد لمناقشة الكتاب، فذهبت والحماس يسبق خطواتي.
دلفت الباب الداخلي، استقبلتني موظفة الاستقبال التي لا أعلم اسمها حتى اليوم، لكنها تحفظ اسمي جيدًا من تكرار زياراتي، لا تزال هي بهيئتها؛ بدينة الجسم، ذات بشرة سمراء، جميلة الملامح، ما تقع عينيها عليَّ حتى تبتسم لي ابتسامة جميلة تشبه قلبها، بكل رقة تطلب مني تسجيل بيناتي، فأسجلها والسعادة تملأ قلبي، ثم أصعد درجات سلم حلزونية الشكل تذكرني بتصميم مشابهه لقصر ثقافة كنت أتردد عليه كثيرًا، فيندمج الحنين مع الواقع فيتضاعف معيار السعادة في قلبي.
ثلاث ساعات مرت، مثل سرعة البرق، جلست بين فتيات من بلدان عربية مختلفة؛ السعودية، الأردن، فلسطين، مصر. نناقش الكتاب بكل شغف وإقبال على الحياة. أسعدني كثيرًا التنوع والاختلاف في الآراء، كان عقلي يلعب لعبته المفضلة “التعرف على ثقافات أخرى فيتفق مع بعضها ويختلف مع الأخرى”، إلى أن انتهت المناقشة بعد ثلاث ساعات لم يتخللهم الملل قط.
غادرت غرفة الجلسة وذهبت أستكشف عالمي الجديد والثقة تملأ قلبي بأن هذا المكان مكاني، هذا المكان أخذ قلبي وانتهي الأمر، كنت على يقين من مشاعري آنذاك. وهو ما أكدت عليه الأيام لاحقًا.
أخذت اقرأ عناوين الكتب على الأرفف، وما أن وقعت عيني عليهم حتى طار عقلي وكادت قدمي تقفز فرحًا، الكثير من أعمال الأدباء العرب هنا، الأعمال القديمة التي كنت أبحث عنها في المكتبات ولم أكن أعثر عليها بسهولة، هنا، يا لروعة القدر. بكل حذر اخترت أول خمسة كتب لأستعيرهم من المكتبة. ثم جلست على طاولة تقع في المنتصف بين عامودين من الرفوف، ألقي عليهم نظرة سريعة، وما أنهيت هذه المهمة حتى أمرت كل حواسي أن تخضع لفرمان أصدره قلبي بتأمل هذا المكان. ففاضت رائحة العنبر الممزوج بالمسك في المكان أو هكذا خُيل إليَّ، حتى جاء موعد إغلاق المكتبة، ذهبت وتمنيت لو أظل هناك إلى الأبد.
يَوْماً بَعْدَ يَوْم، وزيارة تتلوها أخرى، والتعلق والحب يكبران بيننا، حتى صارت مكتبة الملك فهد العامة هي مكاني المفضل داخل جدة، لن أنسى يومًا فضلها عليَّ، أذكر كم مرة ذهبت إليها مضطربة المزاج فاستطاعت أن تهدهد روحي وتلملم شتات أمري وأخرج منها وأنا في حال أفضل بكثير عما كنت عليه قبل قليل. هذا المكان هو أكثر مكان استطاع أن يحتويني، يضمد جراح غربتي. هناك أجد نفسي التي اشتاق إليها، ازيل عن روحي عبء الدنيا، أنعم بالهدوء، احتسي كوبًا من القهوة أمام نافذة الصباح لأبدأ عملي/ دراستي، كم مرة نظرت إلى كل جزء في هذه المكتبة وتمنيت لو أقضي عمري كله داخلها؟ كثيرًا ما كنت امكث فيها ست ساعات متواصلة ولم يكن هذا يكفيني، كم تمنيت أن تكون المكتبة بيتي، أنام داخلها وأمارس مهام يومي بين جدرانها؟!
علاقتي بمكتبة الملك فهد تشبه شمس الشتاء، الحياة خارج المكتبة يغلفها البرد والقسوة، ما أن أضع قدمي داخلها حتى يأتيني شعاع شمس دافئ يحمي جسمي من برد الشتاء، في هذه المكتبة تعرفت على أناس لا أظن أن مرض الزهايمر قادرًا على محوهم من ذاكرتي. فكيف لي أن أنسى أمينة المكتبة التي أعارت لي كتاب “حضارة العرب” لجوستاف لوبون على مسئوليتها الشخصية وهو ممنوع أن تتم استعارته، لأنه ضمن فئة المراجع، وهذه الفئة ممنوع إعاراتها، فقط تتم القراءة داخل المكتبة، ولأن عدد صفحات الكتاب كثيرة وتحتاج إلى القراءة بعناية وتركيز، طلبت استعارته وأنا على جهلًا بأنه ممنوع. فذهبت لتسجيل الكتب للاستعارة كالمعتاد، لأفاجئ بأنه غير مسموح بذلك، ظهرت ملامح الحزن على وجهي لأني كنت في حاجة شديدة لهذا الكتاب، فما كان من أمينة المكتبة إلا إن قالت “خذيه، أنا أعرفك كويس”. صمتُ، فلا أعرف ماذا أقول، حتى نطقت بالرفض خوفًا عليها أن يصيبها أذىً بسببي، إلا أنها أصرت على إعاراتي الكتاب على وعدٍ مني باسترجاعه عقب أسبوعين. وهو ما حدث بالفعل. مهما مر الوقت لن أنسى حسن صنيعها هذا، مع العلم أني أيضًا لا أعلم اسمها وتعلم عيني ملامحها جيدًا.
الكثير من الكتب قرأتها داخل هذه المكتبة على أوتار معزوفات موسيقية قصدت سماعها بين جدرانها، كنوع من التمرين المستمر لحاسة السمع، حتى عندما أرحل وتغيب المكتبة عني ويكون من الصعب رؤيتها، استعيد احساسها بإعادة سماع هذه المقطوعات الموسيقية، كانت سيمفونية الخريف لشوبان هي الصديق المشترك بيني وبين المكتبة، وهي الشيء الذي يمكنه أن يحمل بين ثناياه أيامًا جميلة تمنيت لو تطول إلى نهاية العمر. لكن الفراق حتمي، وللغربة نهاية، مهما طالت لابد من الرحيل.
أيضًا تعرفت في هذه المكتبة على عطري المفضل “Glad”، وهو مزيح من المسك والعنبر والباتشولي، عطر يشبه روح المكتبة؛ نقاء وهدوء وقدرة على التحليق بك بعيدًا عن صخب الواقع. كثيرًا ما أسئل نفسي هل أنا التي أحببت المكتبة أولًا أم هي التي أحبتني؟ ولماذا كل هذا الحب الذي أكنه لها؟، أحيانًا أقول إن الأماكن هي من تختار أصدقائها والمكتبة هي التي اختارتني، اختارت أن تهدهد روحي وتعيد إلىَِّ نفسي التي أنساها في زحمة الحياة والمسئوليات. ربما أكون أصبت الجواب وربما لا. ولكن هذا لا يهم ما دمت أنا أجد ريح الأمان داخلها.
تعلقي بالمكتبة إلى هذا الحد، جعلني أرى نفسي موضع الطائر الهائم وسط البحر، متخذًا من حجرًا صغير ملجأ يحتمي فيه من موجٍ ثائر أمام عينه، كذلك أنا، احتميت من غربتي ومخاوفي داخل مكتبة صغيرة، ظننتها ملجأي ومكانًا ينتشلني من الضياع ويعيد ترتيب نفسي، وكانت هي كذلك بالفعل. ولكن كيف لمكان أن تؤول إليها هذه المهمة العظيمة؟ مهمة إنقاذ حياة إنسان، هل الجماد قادرًا على صنع أشياء يعجز البشر عن تحقيقها؟ هل يمكن للمكان أن يحنو على إنسان أكثر من قرينه؟ سيظل المكان بالنسبة لي هو الصديق الوفي الذي لا أخاف يومًا أن يخونني أو يتسبب في ألمي ويجرح لي شعورًا.