هبة الله شاهين
“مع الموت ستكون أنت الرابح الأكبر ، فلا حاجة للهث وراء الطعام ولا الشراب ولا حاجة لدفع الضرائب ولا حاجة أبدًا للجدال مع الآخرين ، وبما أنك ستمكث في قبرك لمئات أو آلاف السنين فإن الفائدة العائدة من موتك لا تُقدر بثمن”، بهذه العبارات وصف القاص الروسي الشهير أنطوان تشيخوف قسوة واستحالة العيش في وطنه، وكيف تحول الموت، إلى حلم يسعى الجميع لتحقيقه، بعد استحالة الحياة وانطفاء وهجها، ربما هذا ما يتطابق جملةً وتفصيلاً مع ما يعيشه أبناء قطاع غزة، في مواجهة حرب إبادة فتاكة، أتت على الحجر والشجر والبشر، لم تتوقف رحاها عن الدوران ودهس كل ما يتنفس بين أحجارها، من مطلع شهر أكتوبر\تشرين الأول من العام المُنصرم، حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، وربما تمتد أشهر وأسابيع وأيام قادمة!
ساعة يد تخبرنا متى تسكت الطلقات
كعادتي أضع جهاز اللاب توب على قدميّ، وأشرع في صياغة العشرات من المقالات والإعلانات الترويجية لمنتجات العناية بالبشرة والشعر، وأصف لأحدهم كيف تبدو إطلالته أجمل عندما يستخدم قنين العطر التي أبيعها له، أو ساعة اليد الفخمة، المناسبة لسهرة تنتظرها إحداهن خلال الأيام القادمة، بينما أذني وعقلي وقلبي مع شاشة التلفاز، وتحديدًا قناة الأخبار، التي لا تتوقف عن بث أخبار عاجلة، عن وقوع عشر شهداء هنا، أو ارتكاب مجزرة هناك، تُسقط معها عشرات القتلى ممن كانت أقسى أحلامهم، أن يعيشوا حياة كالحياة خارج القطاع المُحاصر، فمنذ اندلعت الحرب إبان عملية طوفان الأقصى، التي نفذتها العديد من الفصائل الفلسطينية داخل القطاع المُحاصرمنذ أكثر من 14 عامًا، في صباح يوم السابع من أكتوبر\تشرين الأول، والذي لا أتذكر جيدًا كيف كان شكل الحياة قبل هذا اليوم، كأن الحياة بدأت وانتهت عند هذا اليوم، وأنا دائبة على هذه العادة، أبحث عن شيء هناك، ربما أمل، قوة، صبر، أو رغبة عارمة في أن أكون جزءً من هذا المشهد السينمائي المتكامل! باحثة عن جذوري الممتدة من مصر إلى قلب فلسطين المُحتلة، والتي لم تنقطع يومًا، بل تشعبت وانغرست ثابتةً بالأرض، منذ أن ترك أجدادي الأوائل مدينة نابلس الفلسطينية، نزولاً إلى إلى إحدى محافظات الوجه البحري بمصر، قبل أكثر من 400 عام أو يزيد، وعن ساعة يد تُخبرني متى تسكت طلقات الرصاص؟
سرير من ريش النعام وآخر من حطام
كنت أصف لأحدهم كم سيوفر من أمواله، عندما يستفيد من كود الخصم الذي يوفره لك موقعنا، لشراء مستلزمات مولوده القادم، من مائدة طعام وأطباق وأدوات، وأسرّة وثيرة ومُريحة، ينعم طفله معها بنومة هادئة، لا يهمه إذا دفع مئات الدولارات، فالأهم الآن العثور على سرير يتسق مع لون دهان حائط الغرفة، فإذا بقناة الأخبار تبث مقطع فيديو مُسجل لأحمد، طفل من غزة، وتحديدًا من حي الزيتون شمالي القطاع، الذي مكث تحت الأنقاض مدة تسعة أيام كاملةً دون طعام أو شراب أو هواء، أو وسادة وثيرة، يحلم معها بيوم العيد، وملابسه الجديدة، وضحكاته العالية بين أصدقائه، بعد أن انتصر عليهم في تحدي إطلاق الطائرة الورقية، وإبعادها حتى آخر نقطة في السماء! كان المشهد هنا مُختلفًا تمامًا، فالوسادة طنجرة أمه القديمة، والسرير سقف البيت، الذي أطبق على قفصه الصدري العاري، والغطاء يديه وقدميه الذين تحولوا إلى كومة عظام، شاحبة، ونبرات استغاثة هادئة، تقوم مازلت هنا، أحب الحياة كلما استعطت إليها سبيلاً، ولكن كيف السبيل إلى الخروج، والتحرر من هذه الجدران الطاحنة، التي تأكل عظامه رويدًا بينما لا يستمع أحد لأنينه، بعد أن حولت قوات الاحتلال منطقة سكنه إلى منطقة عسكرية مغلقة!
قليل من السخط ربما لا يكفي
لم تمر ثواني قليلة حتى أغرقت الدموع أزرار اللاب توب، شعرت بالسخط على كل شيء، ما أكتبه وما يقرأه الآخرون، ربما لم يكن السخط شعورًا جديدًا عليّ وعلى أبناء جيلي، فأنا من جيل الانتفاضة الثانية، الذي كان جسد محمد الدرة الهزيل، ويداه والده التي تحتضنه عساها تبث الروح فيه من جديد، هم بوابة عبوره نحو سنوات وشهور وأيام من السخط والغضب والعجز، أذكتها أغلال اقتصادية وسياسية داخلية، لتكون لوحة متكاملة الأركان، لجيل أكلته الحسرة، وهدمته الانكسارات المتتالية.
لماذا إذن كان الغضب في هذه اللحظة في ذورته؟! ماذا فعل بي الطفل أحمد الذي لم يذق الطعام ربما لأكثر من عشرة أيام؟ في وقت يحصد فيه الجوع والجفاف أرواح أكثر من مليون طفل في القطاع، فوفقًا لما أعلن عنه برنامج الأغذية العالمية، فإن طفل بين كل 6 أطفال دون سن الثانية، يعاني من سوء التغذية الحاد، في مدينة رفح الحدودية، أما مدن الشمال، فالأفواه الجائعة، باتت تبحث عن أوراق الصبار، بعد أن نفدت أوراق الخُبيزة والسلق والحشائش الخضراء، وأُفرغت حاويات أعلاف الماشية والطيور، من محتوياتها.
هل تنبت أوراق الصبار يومًا أسفل الركام؟
متى ستنبت أوراق الصبار تحت أنقاض غرفة أحمد؟ وهل لمذاق أوراق الصبار، وقع آخر عندما تختلط بلعاب الجوعى من الأطفال، هل تشعر بأسنان طفل صغير تطحنه، فتتحول إلى فُتات حلوى الفراولة أو التوت، يألفها فم من هم في عمر أحمد و أقل؟ وإلى متى سيظل رب الأسرة العالقة في منطقة جباليا، ينبش الأنقاض بحثًا عن بقايا طحين، نبت بعض السوس بين حباته؟ إلى متى ستدك صرخات الجوعى، ونحيب الأمهات رؤوسنا، بينما نحن نتاول وجبة الأرز مع الدجاج، أو نشرب كوب القهوة، ونحن نقرأ فصلاً من كتابة يطرح إشكالية انكماش حجم رغيف الخبز، وعلاقة ذلك بشبح الرأسمالية العالمية؟ متى ستنتهي الحرب في غزة، وتسكت أصوات البنادق والصواريخ، وقذائف الدبابات الأمريكية؟ ويعيش أطفال غزة، كما يعيش هذا الطفل الذي تبحث له أمه عن مائدة لتناول الطعام، وسرير مُغطى بريش النعام؟ وإن توقفت اليوم أو غد أو بعد غد، من يُوقف صرخات هذه الأم المكلومة، أو الطفلة الباحثة عن جاكيتها الجلدي الجديد تحت الركام؟ هل انتقلت الحرب من أرض المعركة الرملية، لتشتعل في رؤوسنا؟
لنحلم بعالم ليس لنا بل لهم
يهدي الكاتب والصحفي والمناضل الفلسطيني غسان كنفاني مجموعته القصصية “عالم ليس لنا”، التي نُشرت للمرة الأولى في عام 1965، إلى لميس وفايز ولدي شقيقته فايزة، قائلاً :”إلى فايز، إلى لميس، إلى كل الصغار الذين نطمح بعالم لهم”، وأنا هنا يا غسان وبعد قرابة 60 عامًا، أقول لك أننا أصبحنا الكبار، الذين يحلمون بعالم لهم، ليس من المهم أن يكون لنا، قد يختلف عن عالمك؛ عالم تنمو به الأطراف المبتورة بعصا سحرية، يعثر عليها الطفل الغزي خلف باب داره المُهدم، أو أن تتحول عُصارة أوراق الصبار والخُبيزة، إلى قطع سكاكر صلبة، يلعقها حين يقرص الجوع أمعائه، أو يشتريها الأب الباحث عن وسائد وثيرة وعربة لجر طفله، في أيام العيد الأولى!