سألت النادل عن مكان تواجد صديقي؟ لم يتردد في الإجابة متهكما:
-” طبعا لن تجده هنا ولن يعود“
النادي فسيح ومطل على البحر المتوسط، هو محطة للكتاب و الفنانين الصعاليك، تراهم فرادى و جماعات يلتقطون الصور أمام اللّوحات الفنية، خاصة أمام لوحة”طيور البجع” الجميلة، يثرثرون، يحلمون في كتابتها كنصّ استثنائيّ. ولوحات أخرى “لسلفادور دالي” و “فان كوخ”، أكيد هي مقلدة، لكنها تمنح لك الفرجة و المتعة. لا علينا.
لم أفعل كل تلك الطقوس الغريبة، اكتفيت بالشرود. بقيت مسمرا أمام تلك الحشود البشرية، كأنهم في خلية نحل. كنت قلقا، لكني متحفز جدا، يكفي أني سأغتسل من نفس الصنبور الذي اغتسل منه الكاتب البير كامو و سأطلّ بعد حين من الشرفة على ميناء الجزائر مباشرة.
كانت القاعة الكبرى غاصّة بشباب و كهول و شواذ و شابات قادمات من الأحياء أو من المدن الداخلية، كل الطاولات محجوزة، آثرت الوقوف قبالة المرآة، أحدق أمامي وخلفي، كأني أحرك الكاميرا يمينا ، شمالا، لأتحكم في الوضع، ككاتب شاب يختلس اللحظة المستحيلة للانقضاض على الغنيمة المشتهاة. النادل يتحرك بحماس، بحركات سريعة الإيقاع في البهو متنقلا بين الزبائن المنشغلين في تبادل التحايا و القبل علنا: أصوات، موسيقى، و شعر، في مشاهد متتالية وغامضة، كحالة غموض الفن و محنته الكبرى. أجساد رشيقة، مكتنزة، وجوه ناعمة لفتيان و فتيات. و قصّة في الأفق تغازل نهمي للحياة.
كنت مشدوها بدليل تلك الابتسامة المؤجلة إلى حين قدوم الصديق”ع” المبجل، قادم لا شكّ في ذلك. طلبتُ قهوة من السّيد المتجهم يحدق إليّ بنوع من التعالي أو بحقد مع أني لم
أعرفه و لم يسبق أن التقينا في أي مكان. ثمّ ليس في مقدوري تأجيل موعد تناول قهوتي، حتى و لو كنت بحاجة بحق لساعة زمن على الأقل، لمتابعة من خلال المرآة العاكسة الهرج الجميل، هذا يقرأ الشعر و الآخر النحيل يتغزل بشابة أنيقة تجلس قبالته غير مكترث بالعسس.
أخيرا وضع السّيد المتجهم فنجان القهوة أمامي، بينما أنا، أنظر في المرآة الكبيرة،أتلصص باشتهاء للسيقان العارية المسافرة والعيون المختلفة الألوان والأحجام و الأشكال.
تطلان من الركن القصيّ عينين لامعتين. لم أتأكد بعد هل هما بنيتين أم سوداوين؟ هل تنظر إليّ تحديدا أم في الفضاء الذي تراه/أو يراه فارغا؟ لحظات كانت حاسمة، لأكتشف بعد أقل من دقيقتين إن العينين لأنثى غامضة، تتشبث أو تنتظر أحدا ينقذها من الرّتابة. هل يصحّ القول أنها تتحرش بشاب يافع، لست أنا في كلّ الحالات؟ هي تحاول جذبه بلطف زائد، بينما هو يتحجج بالذهاب لأن صديقته في انتظاره، وعدها بلقاء آخر، لعلي أبالغ في هذا الخبر غير الأمين.
كانت مجرد شكوك، فعلا تتصابى بحركات مضحكة(لم أسمع الحوار كاملا) تدعو إلى الشفقة، بالصدفة (أتحمل كامل مسؤولياتي في هذه الجملة) التقت عيناي بعينيها، هي وميض سريع كاللهب، لم تنتظر كثيرا لتصرخ الجالسة في الرّكن القصيّ المظلم:
” ليش تنظر فيّ؟“
الآن رأيتها: عينان سوداوان، كبيرتان، حادتان، مثقلتنان بالكحول و الأزرق كأنها ثملة، تفتعل حركات لإثارة الهلع لتتقاذفه الصحف والمجلات وألسنة السوء.
أسألني:
“أنا؟“
بالكاد تستطيع رؤية وجوها آدمية وسط غمامة من دخان السجائر في الركن. ترى في أسفل الموائد سيقانا متقابلة و أخرى متشابكة، ملتفة فيما بينها في وضع غير جدير بنادي المثقفين، مع أن النادي يستقبل شرطة و صعاليك و لصوص و تجار… باستثناء تلك الطاولة عند الركن قبالة الشرفة العتيقة، تراها وحيدة، مبتلة، تلتهم السجائر، في الغالب تشبه لوحة سريالية، ستعرف لاحقا أو من خلال تاريخ النادي العريق أنها محجوزة منذ سنوات من طرف شلّة البهيميين. ثمّ ورثتها السيدة”ز” بعد معارك وهمية خاضتها ضدهم، في فترة وجيزة من تاريخها المثير حولت الرّكن إلى مقام معطر، وهي هناك كالتمثال الجميل تتصدّر المشهد، سمّته “مقام أبي نواس العظيم” لها مريدين كثر، صعاليك و شواذ
بشعور طويلة، وسراويل مزركشة، قصيرة، و قصاصات يرمونها للمارّة كلما هاج أحدهم شعرا أو نثرا ورقصا… أعرف شذرات من تاريخ هذا النادي، أي قبل هذه اللحظة المعقدة وفنجان القهوة بين أناملي، للعلم أني لم أرتشف بعد الرشفة الأولى.
تصرخ:
-” تنظر فيّ؟“
اسأل الفنجان المرتجف بين أنامل يدي اليمنى:
-“ليش تحدق فيها يا..؟“
تقف على قدميها، مثقلة. تبدو في العقد الخامس. آه، صوتها، كأني أعرف هذا الصوت الأجش. الحزين جدا. تتقدم و تصرخ في أرجاء النادي:”ليش…يا أحمق” مع تضخيم متعمد للكلمة الأخيرة. هي تنظر جهتي، حيث أقف متهالكا متوجسا من الموقف، صوتها لم يكن غريبا على أذنيّ، سألت فنجاني القريب من شفتي أخيرا: “هل هي؟ الشاعرة “ز” المحترمة؟“
تتسلل من بين الجموع بشيء من التمثيل، تتقدم في اتجاه الكنتوار، بينما عيون الزبائن كلها مصوّبة إلى جسدي المرتجف. لا زلتُ متعاليا، أتكئ على الحافة غير مبال بزعيق أنثويّ قادم
قد تكون هي،”ز” التي أعرف؟ كيف أتجرأ على الفعل؟
توقف النادل وسط القاعة ينتظر الإيعاز منها. بلا شك كنت في موقف لا أحسد عليه، تحولتُ فجأة إلى هدف سهل المنال. كنت قريبا من خناجرهم و أظافرهم لاسيما من يديها النحيلتين الممدودتين في الفراغ في محاولة لخنقي. لم أتحرك إذ كان الترحيب بي، غير لائق ولا يشرف بتاتا تاريخه. هل القادمة إليّ هي؟
تتمايل كممثلة على الركح. بدليل انتباه الكومبارس المحيط بالشاعرة”ز” كانت عيونهم أكثر شراسة ثم أيديهم أكثر امتدادا من يديها الهزيلتين جدا.. يتردد صدى كلماتها الجوفاء في الأرجاء. لكن كيف وأنا لم أفعل أبدا، ولم أتحرش بها. الفنجان معلقا لبرهة كما علقت الكثير من الإجابات في حلقي الجاف.
شتمها وصلني كاملا. لماذا؟ أنا الذي لا تعرفه و لا تتذكر الشّاب الخجول عندما التقينا قبل سنوات في مدينة داخلية تروج لديوانها، رافقها الشاعر الأنيق المدعو “ب” قدمني لها ككاتب والقلم بين يديّ قاتل محترف، انتبهي يا “ز” من هذا الشقيّ الأسمر الطيب“
ضحكت من مزحته الشعرية. أضاف بغير قصد:
-” هي الشاعرة ” ز ” تكتب بقوة، تكتب بقلم سيال و بساقيها أيضا“
ابتسامتها ساحرة، حدّقت مليا في سمرتي، ثم وقعت ديوانها، بمقدوري تذكر كلماتها القليلة التي خطتها بقلمها الأزرق:” إلى الفاضل، القاتل بقلمه، مودتي و احترامي“
هل تتذكرني بعد كل هذه السنوات العجاف؟
-“شو…يا أحمق“
قالتها لهجة سورية أو عراقية، قوية، تحمل زخات شعرية، تقف متعثرة بين أجساد مريديها، عيونهم تعري جسدي المتعرق، تمزقني إربا إربا، وقفوا كرجل واحد، أعرف معظمهم: مغني الرّاب، والسيد الملقب بـ”الزير” بين شفتيه بقايا سيجارة منطفئة، والآخر ملتحي، يتوعدني بكلمات نابية.
لساني الخشبي يصرخ في مكان ما:”لم اهتم بوجهك، ولا بشعرك، ولا بساقيك“
أخيرا وقفت قبالتي، اكتشفتُ ما تبقى من جمالها و ما آلت إليه من ترهل فظيع، رأتني وجها لوجه، كبدوي، قلمي يقتل أبطالا لا يستحقون العيش. طبعا هذا من مزح صديقها الوفي”ب” قالها ذات مرة. أما بعلها الأنيق وصل في اللحظة المعقدة، استغل صمتها ليبعدها بهدوء، معتذرا لي نيابة عن السيدة”ز”، قائلا بتوتر:
-” تفهم توترها…أه هذا أنت؟ أين رأيتك؟ عموما حصل خير“.
لم ينتظر إجاباتي الفضفاضة، عادت إلى ركنها رفقة الزير و الزوج، أما الشّلة المستنفرة صفقوا مطولا لخرجتها غير المتوقعة. لم أتأكد بعد إن كانت هي، ربما هو حلم مزعج، مستحيل طبعا. الأدهى من كلّ هذا، رأيت صديقي منكمشا في مكان ما غير معنيّ أصلا بالحادثة، لم ينتبه أو تجاهل بمعنى أدق ما تعرضت له قبل لحظات، مع أنه بالفعل كان هنا منذ الفجر كما ادعى.
سألني الصديق”ع” منزعجا:
-“أين كنت؟“.
-“هنا، في مكان ما في هذا النادي“.
-“مستحيل، هل كنت تحلم يا رجل؟” قالها ضاحكا.
ـــــــــــــــــــــــ
*قاص من الجزائر