و، أنا سأعطي انطباعاتي عن أطول القصائد هنا، في ديوان أمل، تلك التي تحمل العنوان: رسائل. متخليًا عن أي قالب، للقراءة. تأخذ القصيدة/ الرسائل، أربعة أرقام. تبدأ الأولى منها بحرف (الواو): وفي الغابة أستقر على إحدى الأشجار. كأنها استئناف، لتواصل سابق، لرسائل/ قصائد سابقة. مع شخص محدد، لا نعرف من هو/ هي، إلا مع الاستمرار في القراءة. فطالما كان عنوان القصيدة رسائل، سنجدنا بديهيا نتحسس الراسل والمرسل إليه والرسالة/ النص. لنقرأ الرسالة الأولى من القصيدة: (1):
وفي الغابة/ أستقر على/ إحدى الشجار/ تاركة قلبي/ بالأسفل/ مع العالم.
يتباعد كل شيء/ وأصير هلاما/ بلا ملامح/ وحتى الألم/ يتباعد/ وأغفو قليلا/ في أحلام سرمدية/ محايدة.
وأصير حجرا/ بلا ذاكرة/ ولا شيء يعنيني/ لا رياح ولا مطر/ ولا موت.
وأصير ورقة بيضاء/ بلا خطايا/ وأصير فكرة،/
ثم يحدث أن أهوى/ هكذا/ نحو الأرض/ نحو العالم/ نحو قلبي/ ويعود الألم/ ومعه وجهي/ وأطرافي والذاكرة/ وندبة صغيرة/ على الخد،/
وأدرك/ ما ينحت هيئتنا تلك/ هو الألم
ومع الدموع/ ومع الأنين/ يدمغنا بالجمال/ ويوصمنا بالنبل الواضح/ مثل شامة مضيئة/ مثل ندبة صغيرة على الخد.
لو أردنا أن نعطي عنوانا لتلك الرسالة، عنوانا من كلمة أو كلمتين (تحمل 33 قصيدة من الديوان عنوان من كلمة واحدة، و10 قصائد من كلمتين، وقصيدة واحدة، عنوان من ثلاث كلمات)، سيكون الألم.
وفي الغابة/ أستقر على/ إحدى الأشجار،/ تاركة قلبي/ بالأسفل/ مع العالم. لماذا؟ لماذا تترك قلبها، في الأسفل، مع العالم؟ لأنها لم تعد قادرة على تحمل عبء وجوده، درويش يقول: واحمل عبء قلبك وحده. إنه يثقلها. فعندما نهم بالطلوع/ التسلق، نترك، نخلف وراءنا ما يثقل كاهلنا، ما يشدنا لأسفل، ما يعوقنا عن مواصلة المسير. وفي عدم الاكتفاء بالأسفل وقولها، تحديدا، مع العالم، اهمال له، لأنه صار من هذا العالم الذي تركته، منفصلة عنه، أكثر من مرة: مرة بلجوءها إلى الغابة، والثانية: مستقرة أعلى الشجرة، والثالثة: بدخولها الحلم..
في الغابة عزلة، عن المدينة وضجيجها، وفي التخلص من عبء القلب، انفصال عن الذات وألمها، وفي الصعود، تخلص من كل ما هو أرضي، وفي الحلم تخلص من الوقت، ومع كل تخلص، نحصل على تحول، صيرورة جديدة: (1)- أصير هلاما، بلا ملامح (2)- أصير حجرا، بلا ذاكرة (3)- أصير ورقة بيضاء، بلا خطايا (4)- أصير فكرة..
أصير هلاما، بلا ملامح: تحول يخص الجسد، أصير حجرا، بلا ذاكرة: تحول يخص الذهن/ الذاكرة/ التاريخ. أصير ورقة بيضاء، بلا خطايا: تحول يخص القلب. أصير فكرة: تحول يخص الكيان كله كأن ما سبق لم يرضيها (تحول الجسد، وتحول الذاكرة، وتحول القلب).
وبعد، هذا الانفصال اللحظي، يحدث أن تهوى/ تسقط، عائدة لطبيعتها البشرية: نحو الأرض، نحو العالم، نحو القلب. ويعود الألم. الذي افتقدته في الأعلى. الذي انفصلت عنه، فلم تعد تحس به. لقد عاد لها لما عادت لقلبها، لأرضها، للعالم. عاد الألم، ومعه مشتملاته التي تخصه: الوجه/ الأطراف/ الذاكرة (ذاكرة الألم طبعا)/ والندبة الصغيرة على الخد (ذاكرة الجسد).
وتتحصل على نتيجة هذا الانفصال، تدركها، تتمثل لها على هيئة خلاصة: وأدرك: ما ينحت هيئتنا تلك، هو الألم. ومع الدموع، ومع الأنين، يدمغنا بالجمال، ويوصمنا بالنبل الواضح، مثل شامة مضيئة، مثل ندبة صغيرة على الخد.
أرأيت النحات/ الخالق، بعد أن سوى الجسد، ولم يبق أمامه سوى النفخ فيه ليصير كائنا حيا، هذا هو دور الدموع مع الأنين؛ منح الروح، والجمال، والنبل، لتلك الهيئة، التي نحتها الألم.
لدينا، قبل أن نترك تلك الرسالة صورتين، مثيرتين، متقابلتين: الأولى: صورة للجسد، وهو هلام فوق الشجرة (وأصير هلاما/ بلا ملامح/ وحتى الألم/ يتباعد..)، مقترنة بمغادرة القلب، وتباعد الألم، والصورة الثانية: جسد منحوت: (ما ينحت هيئتنا تلك، هو الألم) أسفل الشجرة، مع القلب، والوجه، والأطراف، والذاكرة، وندبة الخد الصغيرة.
بدون ألم، يصير الإنسان هلاما بلا جسد وبلا ذاكرة. بالألم نصير نحن، نحن: ذاكرة، وجسد.
أخيرا: هل كانت الشجرة هي تجربة الصعود إلى الجنة (جنة آدم)، محاولة لاستكشاف الفردوس المفقود المرتجى، والنزول إلى الأرض هو (خروجه منها، أو اخراجه منها) عودة إلى الألم؟ مجرد، سؤال فقط.
(2):
والذئب/ حرمنا طويلا/ من طرق الغابات،/ ها هي الغابة/ بين انياب خريف/ جائع/ تتعرى بلا رحمة،/ ولا ذئب يلوح/ في الأفق ليأكلني،/ فقط أوراق تتساقط/ ببعض أنين،/ ورياح تتجول/ بخيالاتنا/ بين الأشجار،/ وأسراب طيور/ تنادي بالرحيل،/ ومطر.
كيف قضينا/ كل هذه الأعوام/ في خريف المدن/ الخائفة/ دون أن نصغي/ للغة الأشجار؟
كنت لتحبيها/ يا أمي،/ وتطلقينا بها/ مع دجاجاتك/ لننمو/ كأغصان آمنة/ شقيقات للأشجار،/ كنت لأختارها/ سكنا/ حتى ولو/ أكلني الذئب.
أعطينا الرسالة (1)، عنوانا من كلمة واحدة؛ (الألم)، وسنعطي الثانية عنوانا، من كلمة واحدة أيضا، هو (الخوف).
كنا، قد قلنا، بأنه طالما كان عنوان القصيدة رسائل، فإننا بديهيا نتحسس الراسل والمرسل إليه والرسالة/ النص. هنا وجدنا المرسل إليه (الأم): كنت لتحبيها يا أمي وتطلقينا بها مع دجاجاتك لننمو كأغصان آمنة.
الذئب هو رمز الخوف هنا. فلا يمنعنا من الخوض في طريق ما، شيء، سوى الخوف. وفي قصة النبي يوسف لما أراد يعقوب أن يحول بين يوسف واخوته، خوّفهم بالذئب، قال (وأخاف أن يأكله الذئب)، فردوا عليه (لئن أكله الذئب ونحن عصبة، إنا إذا لخاسرون)، ولما عادوا إليه بدون يوسف، قالوا (لقد أكله الذئب)، طبعا هو، دون أن يدري كان قد أعطاهم جوابهم عليه مسبقا، لما حاول تخويفهم بالذئب. وهنا، تستهل أمل الرسالة، برد أخوة يوسف، بتبرير مسبق: والذئب/ حرمنا طويلا/ من طرق الغابات. ويجوز لنا أن نقول: والخوف/ حرمنا طويلا/ من طرق الغابات، ثم لما تشجعت، على الدخول إلى الغابة، في وقت خريف، لم تجد ذئبا، يلوح في الأفق ليأكلها: فقط أوراق تتساقط/ ببعض أنين،/ ورياح تتجول/ بخيالاتنا/ بين الأشجار،/ وأسراب طيور/ تنادي بالرحيل،/ ومطر.
وفي الغابة، تطرح على نفسها سؤالا، استنكاريا: كيف قضينا/ كل هذه الأعوام/ في خريف المدن/ الخائفة/ دون أن نصغي/ للغة الأشجار؟ وتكمل، حيث أول ظهور للمرسل إليه: كنت لتحبيها/ يا أمي،/ وتطلقينا بها/ مع دجاجاتك/ لننمو/ كأغصان آمنة/ شقيقات للأشجار،/ كنت لأختارها/ سكنا/ حتى ولو/ أكلني الذئب.
هنا الغابة، في مواجهة المدينة: الغابة مهد الطبيعة البكر، مكان الانفصال عن الألم وتجربة الصعود، (في الرسالة الأولى)، والمدينة أرض التحضر البائس. الغابة مكان آمن، لدجاج الأم، والأولاد، والسكن: (كنت لتحبيها/ يا أمي،/ وتطلقينا بها/ مع دجاجاتك/ لننمو/ كأغصان آمنة/ شقيقات للأشجار،..). الغابة خريفها فصل واحد، والمدينة خريفها دائم، وخوفها: (كيف قضينا/ كل هذه الأعوام/ في خريف المدن/ الخائفة).
(3):
والغربة/ هي هذا الخواء/ الذي ينسدل/ على الأشياء،/ فتصبح بلا لون،
هي تقبيل الأعداء/ بحيادية/ وغياب،/ بلا غضب/ أو كبرياء.
هي أن يقف البرد/ بيني وبين العالم/ كجسر متهالك/ أعبر إليه/ ويعبر إلي/ كإثم مستمر،
هي أن يكون هطول الثلج/ مألوفا لهذا الحد،/ يحفر طريقه/ في ذاكرتي،/ ويتقادم بها/ بكل اطمئنان،
بينما الحنين/ يحفرني من الداخل/ فتخرج مني/ رمال،/ رمال لا تنتهي/ ويحل بي/ كل هذا الرماد
وحتى أنت/ تبتعدين/ بلا هلع/ أو حسرة.
الغربة هي كل ذلك،/ أن يتقادم/ البرد/ في ذاكرتي/ وأنت تضيعين/ في خوائي/ يا أمي.
هنا، الحنين عنوان رسالتنا الثالثة. كان كونديرا قد ذكر في روايته (الجهل)، أن الحنين يبدو كأنه مكابدة الجهل. أنت بعيد ولا أعرف كيف أصبحت. بلدي بعيد ولا أعرف ما يحدث فيه..
“ولدت الأوديسة، الملحمة، المؤسسة للحنين، في فجر الثقافة اليونانية القديمة. لنؤكد على ذلك: عوليس، وهو أعظم مغامر على مر العصور، هو الأكثر حنينا أيضا. ذهب (من دون رضى كبير) إلى حرب طروادة حيث بقي عشر سنوات. ثم سارع للعودة إلى مسقط رأسه إيثاكا، لكن دسائس الآلهة أطالت رحلته في البداية ثلاثة سنوات مليئة بالأحداث الخارقة، ثم أمضى سبع سنوات، رهينة وعاشقا، عند الحورية كاليبسو، التي تولهت به، فلم تدعه يغادر جزيرتها.
في النشيد الخامس من الأوديسة، يقول لها عوليس: رغم كل حكمتها أعرف أن بنلوب ستكون إزاءك بلا عظمة ولا جمال.. ومع ذلك ما اتمناه كل يوم هو أن أعود إلى هناك، وأن أرى في منزلي نور العودة”
هنا تعمد أمل إلى تعرية الغربة، وإعطاء تعريفات لها، فهي مع الذات: خواء ينسدل على الأشياء فتصبح بلالون، ومع الأعداء: حياد، حيث يغيب الغضب والكبرياء، ومع العالم: تتعاطاه، كأنه إثم مستمر، ومع الذاكرة: تجمد، وضياع، ونسيان (..أن يتقادم البرد في ذاكرتي، وأنت تضيعين في خوائي يا أمي). يذكر أن عوليس كان يكابد الحنين، ولا يتذكر شيئا تقريبا. يعلق كونديرا: لأن الحنين لا يقوي نشاط الذاكرة ولا يوقظ الذكريات، يكتفي بذاته، بعاطفته الخاصة، مستغرقا تماما في معاناته.. وتقول أمل: يحفرني من الداخل. هي لم تستدع أية ذكرى، أو موقف؛ فقط قالت: الحنين، يحفرني من الداخل..
تعطي أمل الغربة، تعاريفا كأنها اتهامات: فهي الخواء، وانعدام الكبرياء والغضب مع الأعداء، هي الإثم المستمر، هي ألفة الثلج وهطوله، هي الإحساس بأن كل شيء بعيد، يتباعد، حتى الأم نفسها، تبتعد بلا هلع أوحسرة..
(4):
تلك الليلة/ حلمت بالحرب العالمية/ كنت لا مرئية/ أسحب خلفي/ طفلا رضيعا/ أتجول به/ في الشوارع الخلفية/ لتاريخ الحلفاء،/ كنت أخبرك/ عن أرقام بالألاف/ للبؤس/ وأقول لك/ بحكمة من خبرت الحقيقة/ أنه دوما/ هناك من يخرج سالما/ من الحرب،/ وأن الجسد يدفع الثمن/ في كل الأحوال،/ فهو عملة رائجة/ لتبادل الخبز،/ وطريدة مثيرة/ للبندقية،/ وكرسي للاعتراف،/ وملعب للألم،/ والخوف،/ ودمية الموت/ المفضلة.
تبدو تلك الرسالة للوهلة الأولى، وكأنها منفصلة عن الثلاثة رسائل السابقين عليها. لكنها بطريقة ما تعيدنا إلى رسالتنا الأولى. سنرى.
تحمل الرسالة هم: (الحرب)، فالحروب تمثل تهديدا، وأرقا وكابوسا لا ينتهي لكل شخص. إنها حاضرة دائما، في مخيلتنا، وأحلامنا، ومخاوفنا. ففي الحرب، تصبح آمالنا مهددة: الطفل: (أسحب خلفي طفلا رضيعا أتجول به في الشوارع الخلفية..)، وحياتنا (فإذا كان هناك من يخرج سالما من الحرب، فهناك من يخرج من الحياة كلها)، والجسد أكثر من يدفع الثمن فهو (عملة رائجة لتبادل الخبز، وطريدة مثيرة للبندقية، وللتعذيب، وللألم…).
الحرب هي ألم أكبر، يملك من القدرة على تشكيلنا، نحتنا؛ (نحت هيئتنا) أكثر من أي ألم آخر. هي مثال واقعي وكابوس، يؤيد قول أمل، خلاصتها التي تحصلنا عليها من الرسالة الأولى: (ما ينحت هيئتنا تلك، هو الألم). وكأنه لا مفر لنا، في الحياة من الألم: سواء كان شخصيا، كالمشار إليه في الرسالة الأولى، أو عاما، ناتجا عن فعل التاريخ: (الحرب العالمية)، (تاريخ الحلفاء).
هل كانت الأم في مكان مهدد بالحرب (أي حرب)، فإذا كان كذلك، فالرسالة هنا يمكننا أن نعدها بمثابة تحذير.. أو أن الغريبة، هي التي توجد في مكان صار مهددا بالحرب، فالرسالة هنا، يمكن أن تعد بمثابة توديع (دمية الموت المفضلة)، أو حتى طمأنة (سأكون بخير، فهناك من يخرج من الحرب سالما)؟ أو هي (ربما)، نبوءة شاعر طحنه الألم، والخوف، والحنين..
أخيرا:
تلك كانت انطباعاتي، عن تلك القصيدة، ولولا أني شخص كسول، لكتبت انطباعاتي عن قصائد أخرى، هنا، فحضور الجسد، في قصائد هذا الديوان، يشغلني. وخاصة قصيدة أمل التي تحمل عنوان: (تقبيل)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شاعر وناقد مصري ـ الديوان يصدر قريبًا عن دار روافد، وقد حصل على تنويه لجنة التحكيم في مسابقة أسامة الديناصوري