عمر شهريار
ينقسم ديوان “ما يبقى من الوزن الزائد” للشاعرة هبة عصام، والصادر عن دار روافد، إلى قسمين رئيسين، جاء الأول منهما بعنوان “كنوم يفتح عينيه”، والثاني بعنوان “بورتريهات”. وفي القسمين كليهما ترسم الذات لوحات لذاتها وللآخرين، لوحات تحاول الإمساك بما هو جوهري وأصيل في ذاتها والعالم.
تهيمن على أجواء الديوان فكرة الانعزال داخل غرفة، فالذات الأنثوية حبيسة غرفتها طوال الوقت، فتبدو الغرفة –على ضيقها ومحدوديتها- هي الفضاء الرحب لهذه الذات، التي اختارت بمحض إرادتها العيش داخل هذه الغرفة المغلقة، بعيدا عن كل ما هو خارجها، في ما يشبه المنفى الاختياري، بل إنها تحكم إغلاق هذه الغرفة جيدا، كدال على إحكام عزلتها وابتعادها، تقول في قصيدة “ميكانيزم”:
“اليوم أيضا
أرص الكلمات الحادة خلف الأبواب” ص7
وتضيف في نفس القصيدة أيضا:
“وغدا.. سألون زجاج المنزل
كي لا يلمح العابرون
هشاشة الجدران” ص7.
هكذا تفتتح الذات الشاعرة التعريف بنفسها وبأفعالها وبميكانيزم تعاطيها مع الوجود في القصيدة الأولى من الديوان، وكأنه توطئة درامية لما سنراه من أفعالها على مدار القصائد التالية. في الوقت ذاته، يبدو هذا المشهد الافتتاحي وكأنه مشهد افتتاحي في فيلم سينمائي، حيث نرى البطلة وهي تغلق إحكام الباب حتى تقطع صلتها بالعالم، إذ تتآزر شعرية المشهد مع شعرية المجاز. فالذات تجابه العالم بكلماتها القاسية الحادة، في محاولة لإبعاده والانعتاق منه. بالطبع يبدو الزمن في المقطعين السابقين حاضرا ودالا بقوة، إذ يبدأ المقطع الأول بقولها “اليوم أيضا” ما يشير إلى أن ثمة أياما سابقة شهدت محاولات لإغلاق الغرفة بحثا عن العزلة وعدم التواصل مع العالم، في حين يبدأ المقطع الثاني بمفردة “وغدا”، فالذات هنا في محاولات دائمة للعزلة، محاولات غير مؤطرة بزمن محدد، فهي فعل متجدد ومتنام، أمس واليوم وغدا.
القصيدة التالية، “سحابة حول قلبي”، تأتي فيما يشبه التبرير لميكانيزم الانعزال، وتوضيح أسبابه ودوافعها في الابتعاد والعيش في غرفتها المغلقة، تقول:
“أحتاج غرفة عازلة لأن الألم له صوت،
والخوف له صوت” ص9.
ثمة احتياج إذن لهذه العزلة داخل الغرفة المنغلقة في وجه العالم، غرفة تحجز أصوات الألم والخوف، فلا يتسربان من الداخل للخارج، وفي المقابل لا يتسرب ألم العالم وخوفه للداخل، وتدرك الذات هنا مأزقها واحتياجها، عبر وعيها بأزمتها وبميكانيزمات تجاوزها. تقول:
“أحتاج هدنة، وأقفالا، ومرآة،
ضحكاتي تستفز المتعبين،
وأنا أولهم.
السحرة ماتوا، الرهبان يتعثرون في الطريق إليّ،
والشيوخ يسقطون في الحب.
ليس لي إلا تلك الواقفة أمامي،
المرعبة.. أنا” ص38.
لكن، هل حقا الغرفة منغلقة عن العالم أم أنها منغلقة عليه؟! هل العالم هناك خارج الغرفة أم موجود داخلها وفي القلب منها؟! يبدو أن الذات واهمة في تحييد علاقتها بالوجود الخارجي، فالجدران التي شيدتها حول نفسها هشة بما يكفي لينسرب العالم إلى الداخل، تلك الهشاشة التي أدركتها الذات منذ القصيدة الأولى، وحاولت أن تخفيها عن العابرين، لكنهم لمحوها، فلم يعودوا محض عابرين، بل مقيمين معها في غرفتها، تلك الغرفة التي تتأثر –رغما عن الذات- بالعالم الخارجي، وبمعطياته السياسية والاجتماعية والثقافية، فيبدو العالم مقيما هنا داخل الغرفة، وليس هناك خارجها، تقول:
“بين لمبة باهتة
وظلال تقشر جدراني البرتقالية
أترك تعبي لنوم طويل
فيما يتلون الغبار فوق نافذتي.
لا بأس أن تقف الحياة
على أعتاب سريري
أصواتا وصورا مرتبكة” ص21.
الحياة، إذن، بتجلياتها وصورها المختلفة، اخترقت الجدران الهشة، والكلمات الحادة التي رصتها الذات خلف الأبواب، ودخلت الغرفة، متجسدة في أصوات وصور، مرتبكة ومربكة، آتية من الماضي والحاضر، من المحبين والكارهين، أصوات وصور للأحياء والراحلين، كلهم هنا والآن، في هذه الغرفة التي توهم بالعزلة والانفصال، والانغلاق في وجه الحياة والعالم، فإذا هي منغلقة على العالم الكامن داخلها، بل إن هذا العالم يوجد في المكان الأكثر خصوصية وفردانية داخل هذه الغرفة، على سرير الذات.
على السرير ذاته، والديوان مفعم بمفردات الغرفة، جدران وسرير ونوافذ ومرآة، سنجد شخصا آخر يشاركها فيه، بل إنها تفسح له مكانا بجوارها، فهو شخص محبب، يأتي من مرقده البعيد، من غيابه الفادح، تستحضره الذات، إنه الأب، بكل ما يمثله من حماية وطمأنينة، تقول:
“لروحك يا أبي
أفسح مكانا في سريري
تربت على كتفي حين أنام” ص36.
هكذا تنجرح عزلة الذات المبتغاه، عبر حضور آخرين بأرواحهم، ويتسع هذا الحضور للعالم رويدا رويدا، ونرى له تمثيلات متباينة، كلها تؤشر على أن ثمة حضورا للعالم داخل الغرفة المغلقة على الذات، فإذا هي مغلقة على العالم كذلك، وليس على الذات بمفردها، حتى أننا نجد حضورا للغابات داخل الغرفة، تقول:
“الشبابيك الخشبية لم تنس الغابة،
فاجتذبت الدهانات الخضراء
والفراغات بين أغصانها
هكذا أتنفس، فيما تظل مغلقة” ص37
هكذا تصنع الذات العالم، أو تستحضره داخل غرفتها، عبر إعادة تشكيل الغرفة لتصير عالما موازيا، كما أن هذا الحضور للعالم يتجلى عبر استخدام ضمير المخاطب بكثافة داخل القسم الأول، فثمة مخاطب ذكر تحادثه الذات طوال الوقت، ورغم غيابه فإن مخاطبته تجعل حضوره طاغيا داخل فضاء الغرفة، تقول مثلا:
“الرسائل ليست لك،
ربما لبقعة فوق وجه قديم،
لشهيق ينتظر زفيرا،
لعملة قبل إلقائها في البئر،
بئرك الصالحة لمياه ثرثارة،
بغطائها المحكم” ص17.
ثمة رسائل، إذن، بينها وبين ذلك الغائب، والرسالة وسيلة تواصل، تتنافى مع الكلمات الحادة التي تتراص خلف الأبواب، كما أن هذه الذات الذكورية المخاطَبة تبدو حاضرة في تصميم الغرفة ذاتها، حين تقول:
“كيف جعلت من زاوية الحائط
كفين يحتضنان وجهي” ص31.
فالذات الذكورية المخاطَبة، والغائبة، حاضرة هنا عبر فعلها وأثرها، ووضع بصمتها على الحوائط وزواياها وجعلها حانية بدرجة ما. كما نرى شكلا آخر من أشكال الحضور، وهو حضور الذكريات التي تبدو مقيمة وممتدة في أثرها، حين تقول:
“ليس هذا البيت الذي بنيته معي
ثم دفنتني تحته..
ليس كل الخيانات الكبيرة
فوق البلاط البارد،
لكنه القتل القديم الذي لم ينته بعد” ص28.
ولنلحظ هنا جملة “لكنه القتل القديم الذي لم ينته بعد”، فنحن أمام فعل ممتد وغير منته، فالقتل قديم، لكنه في الوقت ذاته مازال ممتدا في الوقت الحاضر، هذا القتل حدث في ذلك البيت القديم الذي بنياه معا، وشهد الخيانات والقتل، لكنه رغم ذلك موجود هنا في الغرفة الجديدة.
وإذا كانت الغرفة فضاء تتحرك فيه الذات الشاعرة، فإن هذه الذات نفسها تصبح هي الأخرى فضاء تتحرك فيه الأفكار والذكريات، جسدها وعقلها وروحها وقلبها فضاءات تتحرك فيها معان ورؤى، لتمارس حيواتها داخل الذات كفضاء ضيق/ فسيح، تماما كما كانت الغرفة المادية بجدرانها الأربعة مكانا ضيقا على المستوى المادي، لكنها فسيحة بدرجة تتسع للعالم كله، فنحن أمام مكان/ الغرفة يحتوي مكانا آخر/ الذات، وهذه الأخيرة تحتوي جملة من الذكريات، نقول:
“الحنين صوفي تائه
وجد طريقه حين واربت الباب،
واعتكف طويلا،
رتبت له حقيبة السفر
وتذكرة بلا عودة،
لكنه ادعى المرض ونام بنصف عين
وفم مفتوح على آخره” ص11.
الحنين هنا واحد من المعاني التي تسكن المكانين، المكان/ الغرفة، والمكان/ الذات، واعتكف فيهما، فـ”المسافة غائمة كمرآة قديمة”، المسافة بين الذات والغرفة، وبينها وبين الماضي، وبينها وبين العالم، بل ربما ليس ثمة مسافات بالأساس، فكل منهم يسكن الآخر بشكل مركب، تقول في موضع آخر:
“أنفاسي المحملة بصورتك،
صورتك المحملة بعقود من التفاصيل،
التفاصيل المحملة بالأغاني
وإذاعة البرنامج العام،
بصوتك القادم من آخر غرفة
في البيت،
ضحكاتك العالية،
ضوضاؤك الجميلة توقظه،
ذلك النصل المتربص داخل رئتيّ
حين أتنفس.. كَ” ص35.
كل هذه التفاصيل تحملها الذات بوصفها فضاء للذكريات، بل إن أنفاسها فقط هي التي تحمل هذه الذكريات مع الأب الغائب، كما أن الذات كذلك تغدو فضاء للكوابيس، تقول:
“لا أذكر متى توقف الكلام،
لكنني في كل صباح
أغسل الكوابيس بمياه باردة،
وأعيدها تحت الوسادة في هدوء.
لا أذكر تحديدا،
لكني هذا الصباح
أغسل مانشيتات الجريدة
أغسل تفاصيلها” ص46.
هذا المقطع من قصيدة “حدس”، آخر قصائد القسم الأول، يبدو دالا على كون الذات فضاء متصلا بالعالم ومسكونا به، فالقصيدة ذات الحمولات السياسية الواضحة تؤكد بدرجة ما أن أبواب الغرفة وجدرانها ليست محكمة الغلق، فالعالم بسياساته وصحفه وكوابيسه السياسية تتسرب للذات الشاعرة، وإذا كان فضاء الصحف هو الغرفة، فإن فضاء الكوابيس هو الذات.
القسم الثاني من الديوان، “بورتريهات”، لا يبدو بعيد عن فكرة الغرفة والتواصل مع العالم، فهو جزء من جدلية (الانفصال/ الاتصال) المهيمنة على الديوان كله، فالبورتريهات عادة نرسمها لشخوص مؤثرين في حيواتنا، شخوص مركزيين بطريقة ما، ونعلقها على حوائط الغرف والأماكن القريبة منا، لتكون دليل حضور هذه الشخصيات الدائم في محيطنا الحيوي، إنها استحضار لهؤلاء الشخوص بشكل ما، وتأبيد لحضورهم ذاك، لذا فإن الذات ترسم بورتريهات لهم، لتأخذهم معها إلى فضائها الجديد، فضاء الغرفة المغلقة والمنعزلة، وليكونوا دليلا آخر على حضور العالم في قلب هذا الفضاء الانعزالي، ولم يكن مستغربا أن تكون آخر قصيدة/ بورتريه بعنوان “لوتس” (ابنة الشاعرة) التي تقول فيها:
“بكفها الصغير
تمسح ما مر من سنوات عجاف
تقفز داخل قلبي،
فتنفض عنه وجوها وأمكنة وأسماء” ص89.
لوتس هنا، ليست فقط وسيلة اتصال بالعالم، فهي تسكن الفضاءين، فضاء الغرفة الجديدة وفضاء الذات، بل إنها حين تقفز داخل فضاء الذات/ قلبها، فإنها تنفض عنه الذكريات المؤلمة، وكأن الابنة تجعل هذا القلب يولد من جديد، متخلصا من غبار الماضي بشخوصه وأمكنته.
…………….
*عن مجلة “ميريت الثقافية”