ما معنى “سو.. سو.. سولارارى”؟!

أعمال الثلاثى البارزة
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

أحمد عبد الرحيم

فى الستينيات من القرن الماضى، كان هذا الإسكتش التلفزيوني لثلاثي أضواء المسرح عن التلفزيون سنة 2000. الزوج “الضيف أحمد” يرفض الكلام مع زوجته “رجاء سراج” لأنهما متزوجان! فتخيّره إما الكلام أو فتح التلفزيون، فيختار – طبعًا – التلفزيون، وهو ما يُسعِد ابنه الطفل الصغير “أحمد نبيل”. فى المستقبل، نرى كيف صار جهاز التلفزيون كبيرًا فى الحجم، وفى قدرات الاستقبال. ما يفاجئ الأسرة إنه عند فتح قنوات مصر، جرجا، أمريكا، الصين، هاواى، أمريكا الجنوبية.. لا توجد إلا أغنية واحدة، اسمها وكل أشعارها عبارة عن كلمة واحدة بلا معنى هى “سو.. سو.. سولارارى”؛ و التى يغنيّها فى كل مرّة “سمير غانم” و”جورج سيدهم”، لكن فى ملابس ولهجات مختلفة. يرى الأب فى الأمر شيئًا خطيرًا، ويشك أنهم عصابة نصابين. وفى إحدى المحطات المستنسخة، يخرج “سمير” و”جورج” من الشاشة، ويخطفا الابن! بعد اتصال الأب والأم بالشرطة، يصل ضابطان ليحقِّقا بالجريمة، ويتضح إنهما ليسا إلا “سمير” و”جورج” فى زي ضباط، ينطلقان فى غناء “سو.. سو.. سولارارى”! 

لا شك إنه إسكتش خفيف الظل، لطيف الأداء، ناهيك عن كونه جامح الخيال، ويتضمن أمورًا مبتكرة وذكية؛ فهو إسكتش من التلفزيون عن التلفزيون، ومسألة الخروج من الشاشة والدخول إليها لم تكن مألوفة وقتها، فقد ظهرت فى فيلم هوليوودى قديم وصامت لباستر كيتون بطلًا ومخرجًا (Sherlock, Jr أو شرلوك الصغير – 1924)، ثم ستظهر فى أفلام هوليوودية تالية مثل فيلم المخرج وودى ألن (The Purple Rose of Cairo أو زهرة القاهرة القرمزية – 1985)، وفيلم المخرج جون ماكتيرنان (Last Action Hero أو آخر أبطال الأكشن – 1993)، بل أن موقف هرب الزوجين من الحديث مع بعضهما إلى مشاهدة التلفزيون، ليحل محل العلاقات الإنسانية القريبة والدافئة، يبدو عميق الدلالة، ومتلائما مع أبحاث الكاتب الكندي مارشال ماكلوهان فى ذلك الوقت، بخصوص العلاقة بين الاتصال الحديث والتغيّرات الاجتماعية، وكيف ستحدِّد وسائل الأعلام طبيعة المجتمع، وأبحاث لاحقة تعزى التفسخ الأسرى وتبلد المشاعر كنتيجة للتلفزيون. إن موقف الزوج هنا ذكَّرنى بشدة بجملة سترد بعدها بربع قرن، فى فيلم المخرج البولندى رومان بولانسكى (Bitter Moon أو القمر المرّ – 1992)، يقول فيها زوج أمريكى: “نحن نطوِّر اعتمادا تخديريًا على التلفزيون؛ ليصبح الأداة التى تمكِّن الزوجين من احتمال بعضهما بدون الحاجة للكلام”!

فى البداية، وعلى نحو بديهى، يمكنك قراءة الإسكتش على أنه هجاء مباشر ضد تكرار مواد القنوات التلفزيونية، أو كما يقول الأب ضاجًا فى لحظة: “لازم يغيّروا بقى!”، ومن المؤكد أنه انتقاد شاع وقتها، خلاصته أن التلفزيون يكرِّر السينما، أو يكرِّر نفسه، وأن ذلك سيتضاعف مع مرور الوقت، وتزايد القنوات؛ وهو ما يتنبأ به الإسكتش، سواء على الصعيد المحلى أو العالمي (جهاز التلفزيون الضخم ما هو إلا الريسيفر الذى سيظهر بعدها بـ30 عامًا).

من ناحية أخرى، يمكنك قراءة الإسكتش كهجاء غير مباشر ضد الحكم الشمولى للدولة الناصرية وقتها، وكيف أن جميع قنوات التلفزيون ليست إلا صورًا متنوعة لسلطة واحدة لا تتغيّر، تصدِّر بضاعة مألوفة، وتغسل أمخاخ المشاهدين بكلام فارغ معدوم المعنى، حتى لا ينتبهوا لقضايا خطيرة. ويعد اختطاف الابن الصغير واختفاؤه نهاية تشاؤمية قاتمة، ترى أن هذا النوع من الحكم القمعى سيقضى على المستقبل، أو ربما سيضم الجيل القادم لما وراء التلفزيون / السلطة ذاتها؛ وهو تنويع آخر على فكرة القضاء على المستقبل، بجعله صورة مكرّرة من الماضى، مع قولبة الشباب لخدمة السلطة. يتناغم مع ذلك ظهور الضابطين فى الختام، ليردوا على استغاثة الأسرة بترديد الأغنية العبثية نفسها بسعادة، وكأن “السلطة” هى “عصابة النصابين” التى يتحدث عنها الأب!

هناك قراءة ثالثة، وهى أن الإسكتش تنبأ بالعولمة، وانتشار ثقافة واحدة تافهة، مع اكتساحها لوسائل الإعلام فى مختلف دول العالم، خاصة ذات الحضارات القديمة، والهويات الثقافية المميزة (مصر، والصين..)، وابتلاعها لشباب هذه الدول، بل الهيمنة على سلطات هذه الدول (مجيء سمير وجورج كضباط فى النهاية)، لتصدير نموذج وحيد، يتم فرضه على الجميع، يمسح العقليات المختلفة، ويمسخ الثقافات المغايرة، ليصبح الكل صورة من أصل واحد؛ تتحكّم فيه قوى، أو قوة، كبرى لها أجندتها غير المعلنة، والتى يتحقّق هدفها فى إغراقك بالـ” سو.. سو.. سولارارى”، طوال الوقت، ومن جميع الجهات، حتى لا تملك سوى الاستسلام أمام عالم شمولى جبار، يحكم ما وراء الشاشة وخارجها.

أعرف، كالجميع، أن كل أعمال الثلاثى التلفزيونية والمسرحية والسينمائية كانت هزلًا مطبقًا، ولم يدِّع أحد منهم يومًا ما أنه صاحب رسالة سياسية، أو بعد فلسفى، أو رؤية مستقبلية، ولم يتمكن إبداعهم من مساس الجدية إلا فى مواضيع عامة وتقليدية؛ كأهمية اجتماع الأخوة رغم اختلافاتهم فى الفصل الأول من مسرحية “حودايت” للمؤلف يوسف عوف، أو مشكلة التفاوت الطبقى بين الأزواج فى مسرحية “المتزوجون” للمؤلف فيصل ندا، وربما كانت أقصى جدية وصلوا إليها هى التعبير عن المفارقة بين القانون والعدالة فى مسرحية “طبيخ الملايكة” التى اقتبسها المؤلف على سالم عن مسرحية للمؤلف الفرنسي ألبير هوسون، إلا إنك فى هذا الإسكتش ستجد ملامحًا غير تقليدية تمامًا بالنسبة لعالم الثلاثى؛ مثل كابوس التكرار، والتعرُّض للإعلام والشرطة كجزء من الكابوس، وضياع الابن فى النهاية، مع عجز الوالدين عن استرداده؛ وهى الملامح التى تعطى لهذا العمل الهزلى القصير مذاقًا سوداويًا صعب إنكاره أو تجاهله.

سواء اقتنعت بذلك أم لا، سواء كان فى ذهن صانعى هذا العمل شيء من ذلك أم لا؛ يظل إسكتش “التلفزيون سنة 2000″، أو “سو.. سو.. سولارارى”، عملًا كوميديًا مثيرًا للاهتمام، يضحكك، ويقودك لمساحات تتعدى الضحك أيضًا.

………………

نُشرت، بعد تغيير عنوانها، فى جريدة القاهرة / العدد 850 / 1 نوفمبر 2016.

 

 

مقالات من نفس القسم