ما تيســرَ من سيرة الغش والغشاشين

ragab saad alsayed
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

رجب سعد السيد

أنا واحد من كثيرين مروا في حياتهم بتجارب غش، ممارسة، أو معايشة، وقد جعلتني تلك التجارب لا أتوقف مستنكراً، أو حتى مندهشاً ازاء أخبار الغش والغشاشين، التي (تطْفُرُ) من حين لآخر.

ولم يكن يخطر ببالي أبداً احتمال، مجرد احتمال، أن أمارس الغش، وأنا من نشأ في أحضان تجربة التحول الاشتراكي، حريصاً على النقاء ككادر ناصري. لكن ما حدث كان سلوكاً اضطرارياً، حيث لم يكن أمامي الا أن أغش، أو أرسب، وأحوال أسرتي لا تتحمل تأخر التخرج سنة، فقررت أن أغش لأتخلص من عقبة الكيمياء العضوية، التي لم أكره مادة دراسية قدر كراهيتي لها.

وكانت امتحانات البكالوريوس تتوزع على سبعة أيام، ثلاثة لأفرع علوم البحار، وثلاثة لأفرع الكيمياء، واليوم السابع لمادة تثقيفية عن تجربة التحول الاشتراكي، كان يدرسها لنا المدعي العام الاشتراكي في الإسكندرية. وسهرتُ في الليلة السابقة ليوم امتحان الكيمياء العضوية أعد الأوراق الصغيرة، المعروفة بـ (البرشام)، التي اخترت أن أنقش عليها بحروف أقرب ألى الرموز ثلاث اجابات لثلاثة أسئلة محتملة، وطويت الوريقات الثلاث التي قد تكون طوق النجاة من الغرق في بئر الكيمياء العضوية.

وفي الصباح، غادرت البيت الى مبنى كلية العلوم في محرم بك، ولم تغادر يدي جيبي قابضة على الوريقات المطوية الثلاث، وفي صدري شيئ ما يرتعش. وما ان تسلمت كراسة الأجابة وورقة الأسئلة، حتى صاحب الارتعاشة عرق. وكنت أحسب أن أعصابي ستستريح حين أجد بعض الأسئلة مطابقا لما توقعته، غير أن التوتر ازداد وأنا متيقن أن سؤالين لهما اجابتان في (البرشام)، تكفيان تماما للنجاح في الكيمياء العضوية اللعينة.

يبقى أن أجد طريقة لسحب الوريقات من جيبي ووضعها بين صفحات كراسة الإجابة. ورحت أتلفت حولي، متابعا تحركات الملاحظين في قاعة الامتحان. وما إن تهيأ لي أن لا أحد يراقبني، حتى تشجعت، ونقلت الوريقات داخل الكراسة. وهنا، تنفست الصعداء وقد تهيأ لي أن خطتي قد نجحت، غير أنني فوجئتُ بيد واحدة من الملاحظين تمتد وتستخلص برشامي من بين أوراق كراسة الإجابة. قالت: أنت غشيم. وابتعدت دون أي اجراء. وجلست بعض الوقت، حيث تبرع الزملاء حولي بمساعدتي على الغش باملائي بعض الإجابات شفوياً، وغادرت اللجنة قبل انتهاء زمن الامتحان.

وكنت في أيام الامتحان الأخرى أتابع نشاط الغش، مقارنا بين مهارة زملائي الغشاشين، وخيبتي التي عبرت عنها الملاحظة الرئيفة بوصفي بالغشيم. ومن أمهر هؤلاء الزملاء، واحد كان يغش من كراسة كاملة، يدخل بها إلى اللجنة، ويجلس فوقها، ثم يختار اللحظات المناسبة لفتحها ونقل احتياجاته منها، بأعصاب باردة. لا غرابة أن نفاجأ به يحصل على تقدير عام جيد جدا، ويكون ترتيبه الأول على الدفعة، ويتم تعيينه معيدا في أحد مراكز البحث العلمي.

ولم أمارس الغش العلمي، أو في الحياة الثقافية العامة، بعد واقعة الكيمياء العضوية؛ ثم شاءت الأقدار أن أتحول إلى رقيب مهمته منع الغش، حين تفضل بعض الزملاء في معهد علوم البحار، حيث قضيت كل سنوات حياتي العملية، بإلحاقي بقائمة من الباحثين في المعهد، يتم انتدابها لأعمال الامتحانات والمراقبة بكلية الحقوق، جامعة الإسكندرية، وكان العمل يشتمل على رئاسة فريق ملاحظين من موظفي الجامعة، إشرافاً على لجان الامتحان، ثم أعمال (الكونترول)، من رصد للدرجات، حتى خطوات إعلان النتيجة.

وقد هالني ما مررت به في تلك التجربة التي تكررت خمس مرات في كلية الحقوق، وسنتين في كلية الآداب. وكان آخر ما يخطر ببالي أن أجد (الغش) سلوكاً عاماً في جميع اللجان التي عملت بها في كلية تُدرًس الحقوق، ويحترم خريجوها القوانين، ويناهضون السلوكيات المعيبة، وغير القانونية. ويمكنني تلخيص ما كنت أكابده طوال أيام انعقاد الامتحانات في أن الغش أسلوب وطريقة للنجاح، ليتخرج رجال عدالة، واقفة أو جالسة!

وقد صادفت خدعا ً لا حصر لها لممارسة الغش. ولم يمض يوم امتحان واحد، طوال تلك المدة، لم (أضبط) فيه غشاشين صرحاء، ومعهم أدوات غشهم، ناهيك عن الغشاشين الشفاهيين، ممن كانوا يتلقون (مساعدات) من زملاء لهم، بل إن تلك المساعدات كان يتم تداولها بواسطة ملاحظي اللجان، أنفسهم!. فكنت أنا، كمراقب لأكثر من لجنة، أراقب الطلاب والملاحظين. وقد طردت، بالفعل، بعض الملاحظين (الرحماء) المسهلين للغش، من بينهم موظفة من إدارة الجامعة منتدبة لأعمال الملاحظة، لفت نظري أنها بقيت جالسة نحو نصف ساعة، وقد وضعت مقعدها في وضع يخفي طالبة كانت تمارس الغش بأسلوب كان لا يزال غريبا وقتها، وهو الكتابة على فخديها المصبوغين تماما بحبر الكتابة. وكانت السيدة الملاحظة تدافع عنها، وكانت الطالبة ترفع صوتها مرددة ببلاهة تامة: إنتا موش عارفني .. أنا زوجة شخصية مهمة!.

واتضح أن الشخصية كانت مهمة فعلا، لأن الزوجة الغشاشة عادت في امتحان المادة التالية، ولم تخضع لأي تحقيق أو عقاب، وقد تكون الآن في موقع يخلع عليها صفة شخصية مهمة!

أما أعجب، وأفدح، ما خبرته بنفسي، فكان بعد انتهاء لجان الامتحان، وفي وقت الرصد والمراجعة، تمهيداً لإعلان نتيجة الامتحان. فقد حدث في مرات كثيرة أن يتوصل العاملون في (الكونترول) إلى انخفاض نسبة الناجحين في مواد معينة، كأن تكون – بلا مبالغة – 8%، مثلا، فيصدر قرار من السيد أ.د. رئيس الامتحان بتخفيض نسب النجاح في المادة المتدنية، ليصير النجاح بدرجة 4 من 10، مثلاً؛ وفي أحيان كثيرة كان مثل هدا التعديل لا يرفع نسبة النجاح إلا لـ 12%، فيصدر قرار تال بتخفيض جديد، ليكون النجاح بدرجة 3، وأحيانا 2، من عشرة، لتصل نسبة الناجحين، بالكاد، إلى 25%!

حاولتُ أن (أساير) الظروف، تحت ضغط بعض الزملاء، ومن أجل (مكافأة الكونترول) التي كانت تسد جانبا من احتياجات أسرتي، غير أنني لم أطق الاستمرار لأكثر من ثلاث مرات، ووجدتُ زميلا يعرض عليَ العمل في كنترول كلية الآداب، فقلت: أجرب.

ولم يختلف الأمر كثيرا بالنسبة لأحداث اللجان، والإصرار على الغش كأنه أمرٌ اعتيادي، وتواطؤ الملاحظين مع الغشاشين، وإن كان الطلاب في الآداب أقل وقاحةً من طلاب الحقوق. حتى حان زمن الرصد وإعداد نسب الناجحين لإعلان النتيجة، ففوجئتُ بالسيد أ.د. رئيس الكونترول، وكانت قد نشأت بيننا حالة مودة، يستبقيني في مكتبه، ويدعوني لمقاسمته عشاءه. وبعد العشاء والشاي، فاجأني بصراحة موجعة بأن أمامنا مهمة رفع تقديرات نجاح طالبة، كانت إبنة واحد من رجال الدولة، ليتسنى تعيينها معيدة بالقسم. وجمع الرجل أوراق إجابات الطالبة المهمة في كل المواد الدراسية، وكانت المهمة تشتمل على رفع كل درجات كل إجابات الطالبة، وإثبات الدرجات الجديدة بعد مسح الأصلية، للحيلولة دون تشكك من يقوم فيما بعد برصد الدرجات المزورة، فيتحقق المراد، وهو أن يكون التقدير العام لتلك الفتاة جيد جداً، على الأقل!

وفي سنة أخرى، بكلية الآداب، أيضاً، شهدتُ بنفسي واقعة غش، شبيهة بحال غش ليلة الساندويتشات والشاي، طرفها الرئيس عضو هيئة تدريس بالكلية، كانت له إبنة طالبة بالليسانس، وكان الرجل حريصا على أن تحصل ابنته على تقدير نجاح عال، تتخرج به لتحتل موقعها كمعيدة، فكان يلجأ إلى أحد المعيدين، من طلابه، فيعطيه ورقة بها إجابات معظم الأسئلة، يعدها بعد أن يبدأ الامتحان، فيحملها المعيد إلى إبنة أستاده، لتقوم بعمل اللازم.

ولم يخطر ببال أحد من أطراف تلك العصابة أن يكتشف ملاحظ أمين ما يدور في اللجنة، ويضبط الفتاة بالأوراق التي أرسلها لها أبوها مع المعيد. وتم تصعيد الواقعة إلى مجلس الكلية، ثم مجلس الجامعة، لكن العتمة غطت على كل شيئ، وعاد الرجل إلى موقعه في الكلية، وكأنه لم يرتكب إثماً.

وثمة وجوه عديدة عليها غبار كثيف، مارست الغش والتزوير في مسيرتها (الأكاديمية)، من بينها أستاد مساعد في كلية التربية، وجد نفسه (مزنوقاً) وقد حان موعد ترقيته، فلجأ إلى وسيلة لا تتأتى إلا لأعتى اللصوص المزورين، حيث جاء بكتاب أصدره وهو بدرجة مدرس، وأجرى تعديلات طفيفة على محتوياته، وغير عنوانه، ثم أعطاه من عندياته، أو بالاتفاق مع الناشر المستفيد، أي رقم إيداع وجده في أقرب كتاب.

وتشكك أحد أعضاء لجنة الترقية، واتصل بدار الكتب، حيث عرف منها أن رقم الإيداع هو لكتاب في علم البستنة، مؤلفه أسالد في كلية الزراعة!. وشاعت فضيحة اللص الدي كان يملأ الحياة الثقافية بالإسكندرية ضجيجا. وأحيل الأستاد اللص إلى محاكمة تأديبية، قررت فصله من الجامعة، فلما استأنف الحكم، كانت العقوبة إيقاف ترقيته خمس سنوات، عاد بعدها، وكأن شيئا لم يكن!.

 

 

مقالات من نفس القسم