سمر مجدي
“ذات يوم استعدت حريتي وبدأت المشاكل، فأن تكون حرًا يعني أن تختار عند كل خطوة وفي كل يوم وأمام كل موقف، لأن الحرية هي أن تضطلع بالمسئوليات، وهنا يمكن أن يصل بنا الأمر إلى الحنين إلى ذلك الزمان الذي كنا فيه محرومين منها”.
بتلك الكلمات وصف الكاتب كارلوس ليسكانو مشاعره حين تيقن بالحرية في كتابه الكاتب والآخر. ولكن ما الذي يدفعه لكتابة تلك الكلمات لوصف مشاعر من المفترض أنها تتسم بالخفة؟ ما الذي يجعل الحرية في نظره مكبلة تحمل على أعتاقها ثقل المسئولية؟ إنه القلق. فالقلق هو دوار الحرية كما يقول الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيجارد فكما أن الحرية تعني بالاختيار فالقلق هو التأرجح بين الخوف والأمل.
كما نلمح ذلك في رأي عالم النفس إيرك فروم حيث كان يعتقد أن الشعور بالاعتماد على الوالدين يولد شعورًا بالأمان في حين أن نمو الشخصية والاستقلال يهدد هذا الشعور ويخلق القلق. فطبقًا لوجهة نظره طالما أن الطفل يجهل إمكانياته ومسئولياته فلا داعي للخوف والقلق.
السؤال الأهم هنا هل تعد الحرية عبء ثقيل بما تحمله في طياتها من قلق؟ هل تحول الحرية بيننا وبين السعادة؟ إن كنا نرغب في الإجابة عن هذا السؤال فعلينا أن نتبين هل للقلق فعلًا وجهًا واحدًا متعارف يخشاه الناس كالذي يتجلي في اللوحة المرفقة للمقال “القلق” للنروجي إدفارد مونك حيث الكآبة هي السمة الأساسية وتكاد تكون الوحيد فلا ألوان مبهجة ولا خطوط مرنة أم أنه بجانب هذا الوجه وجهًا أخر يمكننا الاستفادة منه؟
حينما فتح باب التحليل النفسي كان فرويد هو الطارق الأول، وكانت من أولى الطرقات على ذلك الباب طرقة تخص القلق يرى فرويد أن القلق هو إشارة إنذار لخطر محتمل يدفعك لتدبر الوسائل الملائمة لدفع ذلك الخطر. كما يرى أن الإنسان حين يمر بخطر ما فإن القلق هو توقع حدوث ذلك الخطر مرة أخرى، وحين نقلق فنحن نستعيد نفس الانفعالات التي سبق ومرت بنا في واقعة الخطر الأولى .حين تتبع فرويد حياة الإنسان ليصل به إلى لحظة الخطر الأولى التي على إثرها يتكرر القلق وجد أن تلك اللحظة هي لحظة الميلاد حين ينفصل المولود عن الرحم. أرجع فرويد القلق إلى الآلام الجسدية التي يمر بها الإنسان في تلك اللحظة بينما يرى أتو رانك أن الانفصال النفسي عن الأم هو الذي يسبب القلق الشديد، فالرحم بالنسبة للإنسان هو الجنة الأولى والانفصال عن تلك الجنة هو أول لحظات الخطر التي تتعرضه.
قد نختلف حول أول لحظات القلق في حياتنا هل بدأت بالميلاد أم لا؟ وهل حقًا نعيش حتى الآن تكرارًا لتلك اللحظة أم لا؟ ولكن الأكيد أنك في وقت ما كنت وستكون متوترًا وقلقًا وحينها تزداد دقات قلبك، تتسارع رئتيك وكأنها تحاول الإمساك بأخر ذرات أكسجين في الهواء ، تتدفق الدماء باتجاه أطرافك ويتدفق العرق على مسام جلدك، وتتيبس عضلاتك. كل ذلك يحدث عندما يتم تحليل المعلومات في الدماغ على احتمال وجود خطر فتتحفز اللوزة الدماغية وتعد جهازنا العصبي إما للمواجهة أو الهروب.
المواجهة أو الهروب ذلك الاستعداد الذي يضعنا فيه القلق هو أداة من الأدوات الهامة لبقاء البشرية على مر العصور، فالإنسان في العصور القديمة ومجابهته للمخاطر كان في حاجة ماسة لإدراك اللحظات التي تهدد حياته وتضعها على المحك، وحتى الإدراك وحده في حالات الخطر لا يكفي، فالأهم هو اتخاذ فعل ما وهذا ما يدفعك إليه القلق.
في كتاب الذكاء العاطفي يقول دانييل جولمان ” وفي حالة الخوف يندفع الدم إلى أكبر العضلات حجمًا، مثل عضلات الساق، فيسهل الهرب، ويصبح الوجه أبيض اللون شاحبا لأن الدم يهرب منه … ويشعر الخائف بأن دمه يجري باردا في عروقه، ويتجمد الجسم في الوقت نفسه ولو للحظة واحدة ربما ليسمح له بوقت يستطيع فيه تقدير ما إذا كان الاختفاء هو رد الفعل الأفضل . وتثير دوائر المخ الكهربية مراكز الانفعالات في الدماغ، فتبعث فيضا من الهرمونات التي تجعل الجسم في حالة يقظة تامة تسمح له بأن يكون على حافة الاستعداد للقيام بفعلة ما، وتركيز انتباهه على الخطر الماثل أمامه حيث يختار الاستجابة المناسبة للقيام بها .”
قد يظن البعض أن الشجاعة تقتضي اقصاء التوتر ولكن الشجاعة الحقيقة تحتاج إلى شعور باليقظة والمسئولية فالأنسان الذي لا يشعر بلحظات التهديد هو إنسان أبله كما يقول أراسموس في الفرار من الطاعون “في الحقيقة اعتبر عدم وجود الخوف على الإطلاق في مواقف مثل موقفي، علامة لا على شخص بطل، وإنما هو علامة على شخص أبله”
ليس بالضرورة أن تتمثل لحظات التهديد بلحظات فارقة بين الحياة والموت ولكنها تعني بكل اللحظات التي تهدد دوافعنا واللحظات التي أشارت إليها خبراتنا السابقة على أنها تكبدنا عناء جراء الاستهانة بها. وعلى الرغم من أن التوتر علامة إنذار تهيئنا لاتخاذ السلوك الملائم للتهديد يلجأ العديد من الأشخاص لمجابهة القلق نفسه بدلًا من مجابهة الخطر وذلك من خلال المهدئات التي تعمل بدورها على تقليل التواصل بين الخلايا الدماغية فتهدئ الدماغ وتهدئ معه كل استجابات المواجهة والهروب وتهدئ معها الأعراض وهو المرجو الأول من تناول تلك العقارات. تعمل هذه المهدئات على استخدام أجزاء معينة من المخ وتجاهل أخرى، الأمر الذي بدوره يسبب موت الخلايا وأضعاف القدرات الدماغية ليصل بهم الأمر الزهايمر والخرف.
تحرم المهدئات متناوليها من التأقلم مع القلق والاستفادة منه، فأنسب طريقة للتعامل مع القلق هو خوضه حيث نكتشف قدراتنا النفسية ونزيد من معدل ذكائنا .التوتر يدفعنا للتفكير وتطوير أنفسنا كشكل من أشكال الاستجابة للحظات التي تهددنا أو تهدد دوافعنا، فاستمرار الضغوط والتجارب تعمل على تطوير أدمغتنا وسلوكنا للتعامل مع الحياة، فكل تجربة خطرة وضعتنا على المحك بين حال نرقبه وحال نخشاه تركت لنا مهارات وخبرة تمنحنا مرونة في التعامل مع اللحظات المشابهة وجعلت منا أشخاص أصلح للحياة ولكي نستطيع الاستفادة من هذه الضغوطات علينا أن نغير طريقة نظرنا إلي القلق. فإذا نظرنا إليه على أنه عائق وقعنا في فخ التشويش والعجز وانشغلنا بمحاربته في حين يمكننا النظر إلى التوتر كأشارة للاستعداد فنستغل تلك الطاقة الناتجة عنه ونوجهها لمزيد من التركيز واتخاذ الاحتياطات اللازمة.
علينا أن نسلم بأن الحياة لا تخلو من التوتر وفترات التهديد، وأننا خلقنا بين فكي الأمل والخوف. فعندما تضعنا الحياة موضع اختبار فذلك ليس لضعف في أنفسنا أو في أشخاص من حولنا أو معنى من المعاني كالأمومة أو حتى أنظمة العمل فنحن والمحيطين ليس بالضرورة مصابين بالفشل وإنما هو طابع الحياة، فالحياة مغامرة وفي خضم تلك المغامرة علينا أن نستمر ونتعايش لا أن نتوقف. تريد الحياة منا رد فعل حتى وإن كان خاطئًا فهو سبيل للتتطور.
يقول كيركيجارد: “من يتعلم القلق بالطريقة الصحيحة يكون قد بلغ من العلم منتهاه”. الضغوطات والتوتر تجعلك دائما في حالة حركة وسعى بدافع من دوافع غريزة البقاء، والعلم لا يأتي لساكن.
القلق طاقة كبيرة يمكننا استغلالها ولكن علينا أن لا نغفل أن لتلك الطاقة قدرها المناسب. فإن زاد عن ذلك القدر أصابنا بالعجز فلا نستطيع اتخاذ أي رد فعل حتى تلك الردود الخاطئة ، لذلك علينا في حالات الزيادة تلك أن نركز على عادات التفكير الإيجابي ونلجأ إلى النوم، تمارين التنفس، الرياضة وكسر الروتين وبالتأكيد التأمل وإذا وصل الأمر لنوبات من الذعر فلا مفر من الجوء لطبيب.
وإن كنا نخشى القلق المفرط فعلينا أن نذكر أسبابه التي قد تعود لأسباب لا نمتلك إلى تقليلها سبيل فالجينات مثل جين السيروتونين الناقل العصبي يجعل المخ حساسًا تجاه التهديدات، وهناك أسباب من الواجب علينا ألا نغفلها كسلوك الوالدين التي قد تدمر التعلق الأمن وتورث القلق، والممارسات التعليمية في المدارس التي تتبع أسلوب صارم وتشجع المنافسة المفرطة.
ولكن في النهاية أليس القلق المعتدل الذي يرزخ تحت عباءة الحرية منغص لأي سعادة مهما بلغت درجة الاستفادة منه؟
نختم بكلمات من لقاء تليفزيوني لدكتور رولو ماي -الذي يرى في القلق اكتشاف للحياة- يقول: “الحرية هي أم القلق، لا قلق بلا حرية، ذلك ما يجعل وجوه المستعبدين في المزارع خالية من اي تعبير، ليس لديهم حرية. في المقابل الأحرار منا متيقظين ومفعمين بالحياة، نحن ندرك أن ما نفعله مؤثر..الابتكار لا ينتج ببساطة من مواهبنا التي قد ولدنا عليها بل يجب أن تتحد مع الشجاعة، كلاهما يسببان القلق ولكن في الوقت ذاته ينتج عنهما فرصة عظيمة”.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كاتبة مصرية