“مانك”.. هدم الصورة البراقة لهوليود

مانك
Share on facebook
فيسبوك
Share on twitter
تويتر
Share on whatsapp
واتس أب
Share on telegram
تيليجرام

محمد العبادي

حالة سينمائية خاصة هو “مانك”..  يعود ديفيد فينشر للسينما بعد فترة صيام امتدت لستة سنوات ليقدم لنا هذه التجربة السينمائية المغايرة على مستوى الصورة والمحتوى.. وينجح الفيلم في أن يكون صاحب أعلى عدد ترشيحات للأوسكار لهذا العام.. حيث رشح لعشر فئات منها أفضل فيلم، مخرج، ممثل، ممثلة مساعدة، تصوير، وإنتاج.

مبني علي سيناريو كتبه والده منذ التسعينات يعرض لنا فينشر في هذا الفيلم لواحد من أهم الشخصيات في تاريخ هوليود وأكثرها إثارة للجدل: مانك. هيرمان مانكوفيتش. السيناريست الذي كتب واحدا من أهم سيناريوهات السينما الأمريكية: المواطن كين.. وبالفعل فإن عملية كتابة “المواطن كين” هي الحدث الرئيسي الذي بُني حوله فيلمنا عن ذلك السيناريست السكير ذو الآراء المتحررة الذي سبب صداعا لصناع السينما حين قرر أن يصنع فيلما عن حياة واحد من أهم أباطرة السينما والإعلام في زمنه: ويليام راندولف هيرست.

يمكن أن نصف “مانك” بأنه فيلم “نوستاليجي” بامتياز على مستوى الصورة.. التي جاءت أقرب لمحاكاة حداثية لأفلام حقبة “المواطن كين”.. لكن السيناريو أكثر حداثة بكثير من شكل الصورة القديم.. السيناريو بصورته النهائية يربط بين الأوضاع الاجتماعية والسياسية في هوليود الثلاثينات، ومثيلتها في أمريكا المعاصرة.. ويمكننا أن نرى انعكاس الحقبة “الترامبية” على السيناريو في غاية الوضوح.. فالقصة ليست مجرد قصة كتابة فيلم عظيم.. بل هي قصة عن الحياة الإنسانية وحرية الرأي.. يعرض لنا الفيلم صورة متجهمة لهوليود الثلاثينات مختلفة تماما عن الصورة البراقة التي صدرتها لنا الأفلام.. فنرى هوليود واقعة تحت سيطرة مجموعة من أباطرة المال الاستغلاليين الذي لا يتورعون عن استغلال العاملين في الصناعة بكل السبل لتنمية ثرواتهم.. فيصدرون لهم الأزمة الاقتصادية ويقتطعون من رواتبهم ليحافظون على مكاسبهم الهائلة.. يجبرونهم على العمل في ظروف قاسية وينجحون في إفشال محاولات العمال للإضراب والمطالبة بتحسين ظروفهم المعيشية، بل يجبرونهم على انتاج أفلام وثائقية مزيفة لدعم المرشح المحافظ في انتخابات المدينة وليكيلوا الاتهامات بالشيوعية للمرشح اليساري المدافع عن مصالح الفقراء.

ما أشبه الليلة بالبارحة.. فرغم تغير الاتجاه العام في هوليود نحو الليبرالية والدفاع عن حقوق الأقليات إلا أن “مانك” صدر في ظل واحدة من أكبر حالات الاستقطاب في تاريخ المجتمع الأمريكي.. بين الترامبيين المتطرفين الرافضين للآخر الذين زوروا مروياتهم وشائعاتهم ليقذفوها في وجه كل من يختلف عنهم، وبين الليبراليين والمدافعين عن التعدد وحقوق الفقراء والمهمشين. فالصراع الذي صوره الفيلم بين مانك وأباطرة صناعة السينما لم ينتهي، بل توسع مجاله مع نمو وسائل الاتصالات بصورتها الحديثة، وزادت حدته بزيادة سيطرة رأس المال التي وصلت برجل أعمال  متطرف وكاره للأقليات لمنصب رئيس الولايات.

نجح السيناريو في بناء سردية ناجحة لهذا الصراع الاجتماعي الأمريكي الممتد.. لكن جاء هذا النجاح على حساب المصداقية التاريخية.. فبناء على معظم المصادر المؤرخة لانتاج “المواطن كين” فإن دور “مانكيفيتش” لم يكن هو الدور الجوهري في ظهور سيناريو “المواطن” بالشكل الذي رأيناه على الشاشة.. بل مرت النسخة التي كتبها “مانكيفتيش” برحلة طويلة من التعديلات على يد المخرج “أورسون ويلز” والذي اشترك في الفوز بأوسكار السيناريو مع الكاتب.

أيضا بدا السيناريو في بعض أجزائه غارقا في التبسيط.. فنجد العديد من الشخصيات أحادية النمط.. حتى بدى بعض رجال السينما في الفيلم تقليديين كأشرار أفلام عصرهم من رجال العصابات.

نعود للصورة.. من أهم نقاط القوة في “مانك” هو نجاحه في تكوين حالة بصرية- صوتية مماثلة لسينما الثلاثينات التي صنعت “المواطن كين” الأصلي، تم تصوير الفيلم بالأبيض والأسود بالكامل، مع استخدام تقنيات معملية ورقمية لتؤثر سلبا على مستوى جودة الصورة فتكون بمستوى جودة الكلاسيكيات القديمة، كما عمد فينشر إلى إضافة علامات التقطيع و”حروق السجائر” التي كانت تشير إلى تغيير بكرات العرض في دور السينما.. كما استخدم “إريك ميسرشمت” تقنيات عتيقة في تصوير الفيلم، منها التقاط المشاهد الليلة في النهار ثم معالجتها معمليا لتظهر كأنها في ليل حقيقي.. حتى على مستوى الموسيقى، تخلى الثنائي “ترنت ريزنور” و”أتيكوس روس” عن أسلوبهم المعتمد على تركيب الأصوات الإلكترونية وقاما بتصميم موسيقى أكثر تقليدية أقرب لموسيقى عصر الجاز.

بل يبدو أن “فينشر” تعمد أن يكون إيقاع الفيلم أقرب للإيقاع الهادئ لأفلام تلك الفترة.

أداء “جاري أولدمان” في دور “مانك” يستحق الإشادة.. ربما تكون الإشادة بأداءات “أولدمان” في السنوات الأخيرة هو أمر مفروغ منه.. فهو استطاع أن يبني نفسه كواحد من أحسن المهارات التمثيلية في سينما هوليود المعاصرة. كذلك “أماندا سيفريد” في دور الممثلة ماريون ديفيز عشيقة “هيرست” الجميلة، والتي استفادت من مشاهدها أمام “أولدمان” لتحصل على ترشيحها الأول للأوسكار.. كذلك يجب أن نشير لأداء “آرليس هاورد” في دور امبراطور صناعة السينما الاستغلالي: “لويس ب ماير”، و”تشارلز دانس” الذي عرفه الجمهور في شخصية “تايوين لانستر” في مسلسل “صراع العروش”.. والذي يقدم هنا نسخة أكثر معاصرة لشخصية الرجل القوي: “ويليام هيرست”.

نجح “ديفيد فينشر” في إخراج “مانك” كتجربة سينمائية ثرية وامتداد لسينما الأبيض والأسود الكلاسيكية.. رغم البساطة المبالغ فيها لسيناريو “فينشر” الأب وتحميله بالكثير من الإسقاطات السياسية.

مقالات من نفس القسم