ماكيت القاهرة لطارق إمام.. عين على الماضي والمستقبل

tareq imam
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

مراجعة: باربارا بينيني

ترجمة عن الإيطالية: دينا الحمامي

حققت رواية ماكيت القاهرة للروائي المصري طارق إمام نجاحاً واسعاً في العالم العربي، الرواية صادرة عن دار المتوسط بميلانو عام 2021، وفضلاً عن وصولها للقائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر) عام  12022، فإنها من من أبرز الروايات الـ”بيست سيلر”، علاوة على ذلك فقد حققت مبيعات أعمال طارق إمام والبحث عنها في المكتبات رواجاً هائلاً بعيد الأضحى الماضي محققة “تريند” على منصات التواصل الاجتماعي، حيث شارك العديد من الرواد عددًا هائلاً من الميمز في هذا السياق.

يقدم إمام بماكيت القاهرة رؤيته الخاصة لما تمثله مدينة القاهرة والتحولات الطارئة عليها خلال العقد الأخير؛ وكما هي ميزة أصيلة في أعمال طارق إمام فلقد مزجت الرواية بين الواقع والخيال مستكشفة الرابط بين الحقيقي والمتخيل في الحياة القاهرية اليومية. يستعرض المؤلف ثورة يناير 2011 وتبعاتها على المجتمع المصري منطلقاً من المستقبل (وتحديداً العام 2045) كنقطة تأمل. يوضح الكاتب أن الثورة “كشعلة قلقة في قلب فوهة برهان كامن، وأن المجتمع المصري هو ابن لخريطة لا تعلم شيئاً عن كلمة ( تغيير)، وأن كل ما تتابع من وقائع في أعقاب أحداث الثورة قد غير من الثورة كمفهوم مما جعل من الحكم عليها أمراً شاقا لأن الواقع نفسه قد رفض أن يتبع مساراً محدداً بعينه من الأحداث تحت مظلة الثورة”2.

تدور الأحداث في جاليري “شغل كايرو” وهو جاليري مستقل معني بالتركيز على الفنانين المهمشين،  تتناول الرواية أربعة أبطال مختلفين، فنانين، كلٌ مستقل بذاته وذلك عبر أربعة أزمنة تاريخية مختلفة، يواجه الأبطال تحديات شخصية واجتماعية تخص هويتهم وأدوارهم بالمجتمع. ينتأ الفن كأداة للتعبير عن الذات طوال الأحداث كما يتمثل كوسيلة لفهم تعقيد القاهرة وظرفها الإنساني.

إذن نحن بالعام 2045، في حين يطلق “جاليري شغل كايرو” مشروعاً طموحاً: وهو تنفيذ ماكيت القاهرة، على هيئة نموذج مصغر لما كانت عليه القاهرة قبل ربع قرنِ منصرم (أي بالعام 2020). في الواقع تتطرق الرواية لأربع فترات زمنية مختلفة وهي عام 2045، وعام 2020، وعام 2011، ووقت غير معلوم في المستقبل البعيد. تنتمي كل فترة زمنية من الأربع لبطل محوري من الشخصيات الرئيسية للرواية، وجميعهم يعملون بالفن بشكل مستقل ويواجهون في الأغلب تحديات شخصية وفنية. كما تتناول الرواية العلاقة بين المجتمع والسلطة وصراع الفنان لإيجاد ذاته ومكانته في واقع يرفضه.

الشخصيات المفتاحية بالعمل هي على حسب الظهور: “أوريجا” وهو مصمم شغوف لماكيت القاهرة، فهو شخصية لديها صلة عميقة بالمدينة، ومكرس نفسه جسمانياً وروحانياً لإعادة تخليق القاهرة كما كانت من ربع قرنٍ فائت. تم تناول شخصية أوريجا كشخص لديه شغف دقيق وشديد الانتباه للتفاصيل حيث يضع كل همه في العمل على جعل كل مظهر من مظاهر إبداعه في غاية المثالية. كما يتمتع بعين متيقظة للتفاصيل وقدرة خارقة لالتقاط جوهر القاهرة وجمالياتها. يكابد أوريجا منذ طفولته مع معاناة وصمه بقاتل أبيه، حيث تسبب في مقتله بحركة طفولية بريئة من سبّابته.

لدينا أيضا شخصية نود مخرجة الأفلام الوثائقية، الشغوفة محددة الأهداف التي تستغل موهبتها لالتقاط روح المدينة عبر عدسة كاميرتها. تتميز نود بشخصية فضولية قوية الملاحظة عطشى دائماً للبحث عن زوايا جديدة، وتفاصيل فريدة جديرة بالالتقاط لإظهارها على الملأ. كما يساهم عملها ورؤيتها في إعطاء نظرة أكثر شمولية وعمقاً عن المدينة وسكانها.تخضع نود أيضاً لمراقبة شرطية بعد اتهامها في قضية رأي عام بعد فيلمها الأخير. كما تحتفظ بسر لم تتمكن قط من الإفصاح عنه ومفاده أنها ترى بجميع المرايا رجلاً غامضاً لا يبارحها انعكاسه  أبداً.

ثم يأتي أيضاً بلياردو وهو كاتب وفنان جرافيتي كان له دور بارز أثناء ثورة يناير. فهو متمرد يجمح للمثالية ومنشغل بالتعبير عن ذوقه الخاص من خلال فن الشارع. يمتاز بلياردو بروح إبداعية ترصد كل ما هو مأمول وجميل بالمدينة ويعمل على إيصال رسائل الاحتجاج عبر يافطات ولافتات. كما تتماس قصته الشخصية مع الأحداث التاريخية للقاهرة بينما كل همه الفني منكب على التعبير عن صوته وأصوات كثيرين آخرين. يعد بلياردو هارباً من الشرطة على خلفية اتهامه بتشويه حوائط القاهرة، كما يكتشف اكتشافًا غير اعتيادي وهو عثوره على عين حية ليستخلص بعد ذلك أنها عينه التي كان قد فقدها أثناء الثورة.

بينما تعمل مانجا كرسامة كوميكس لديها ذاكرتان عن القاهرة، تمتاز بشخصية ملغزة وفاتنة تتحرك بين أبعاد الواقع والتخييل. على نحو آخر تمتلك مانجا القدرة على تخليق عوالم متخيلة عبر تصميماتها وحكاياتها، متفردة بتقديم صورة فريدة عن المدينة. ومع كونها شخصية انطوائية، فإن أعمالها تتحدث عنها، حيث تعمل على إيصال مشاعر أكثر عمقاً من شأنها تحفيز القارئ على إدارك الواقع المحيط.

تتصاعد أحداث النص الروائي حول المعرض الفني الذي يشكل نقطة التقاء كل هؤلاء الفنانين المهمشين الذين يحاول طارق إمام من خلالهم تمثيل ما تنطوي عليه المدينة من تعقيد وفوران وذلك عن طريق إبراز قصصهم وتداخلاتهم مع المدينة وعالم الثقافة. بدأ طارق إمام في كتابة ماكيت القاهرة قبل عشر سنوات، وذلك على امتداد الخط الزمني للأحداث اليومية والمتتابعة للثورة، مما أثر في مسيرة عملية الكتابة التي تستمد أحداثها من الواقع المتطور والمتغير بشكل مستمر، وهو ما كلفه الكثير من الوقت كي ينهي الرواية، حيث إنه كلما كان يعتقد أنه أوشك تقريبا ًعلى الانتهاء من الرواية، يأتي حدث جديد في الحياة الواقعية يضطره لإعادة التفكير في النص وتعديله.

يعتبر “ماكيت القاهرة” عملاً شديد المتعة على مستوى المواضيع المتناولة أو من ناحية الأسلوب الذي من خلاله يقول المؤلف ولا يقول، تاركاً للقارئ حرية التأويل، والإسقاط على الحاضر، كل هذا بعين على الماضي مع الاحتفاظ بنظرة للمستقبل، سواء للفن أو للمجتمع بشكل أعم، وفي خلفية الأحداث تبرز مدينة القاهرة بعمقها وتعقيدها الثري والمركب.

مقالات من نفس القسم