ماريو بينيديتي.. «يَكتُب بِخفة ويُؤلِم ببراعة»

ماريو بينيديتي
فيسبوك
تويتر
واتس أب
تيليجرام

محمود عبد الدايم

«ماريو بينيديتي».. اسم يصلح لممثل، رسام، نحات، واحد من الذين يمكن أن تمنحهم ألف عذر لشرودهم وكآبتهم وحزنهم الحاد، غير أن توقعاتي لـ«وظيفة» صاحب الاسم لم تكن صائبة، فـ«بينيديتي» الذي تعرفت عليه من خلال صديق عزيز، سيصير فيما بعد واحد من كُتابي المفضلين الذين ما أن أدخل عالمهم لا أكتفي بقراءة ما خطته أيديهم بل أبدأ في البحث عن الوجه الآخر لكل واحد منهم، ودائما لا أختار البدء إلا من الطفولة.

«ليلة القبيحين»، من هنا كانت أولى خطواتي في «عالم بينيديتي»، قصة قصيرة، قدمها ضمن مجموعته المُدهشة «عشيقات الماضي البعيد»، والتي لو أتيح لها أن تكون على أرفف المكتبات المصرية فإن صاحبها سيتمتع بمكانة من تلك التي يحظى بها «ماركيز»، «ساراماغو »، «كونديرا»، والإسباني «الفلتة» خوان خوسيه مياس، لكنه «هذا حال الترجمة»!

«يكتب بخفة ويؤلم ببراعة»، حقيقة سريعًا ما اكتشفتها بعدما وضعت اسم «بينيديتي»  في خانة البحث على محرك «جوجل»، وإلى جواره كتبت عنوان القصة التي حدثني عنها صديقي، لأكتشف أن «ليلة القبيحين» لها عشاقها ودراويشها أيضا، وإن لم يكونوا كُثر، لكن هناك من سبقنى واكتشفه، شيئا فشيء تورطت في «بينيديتي»، تنقلت بين مجموعته القصصية «عشيقات الماضي البعيد»، وأدركت أنه «فخ ممتع».

كثيرون يكتبون ببراعة، لكن قليلون جدًا الذين يمتلكون القدرة على منحك مقعد – غير مريح- إلى جوارهم، بينما يستمتعون بـ«فعل الكتابة»، و«بينيديتي» بلا شك واحد من الكتاب الذين يحبون «توريط القارئ»، وهو أمر يمكن اكتشافه في رواياته أكثر من قصصه القصيرة.

«الهدنة».. «ربيع بزاوية مكسورة».. «بقايا القهوة»، ثلاثة عناوين متاحة لـ«روايات بينيديتيي»، اعترف هنا أني لم أجازف وأبحث عنه على أرفف المكتبات، لأسباب عدة، من بينها بالطبع المغالاة – الواضحة – في أسعار الكتب المترجمة، ولهذا كانت القراءة الإلكترونية خطتي الأولى والوحيدة للولوج إلى عالم «بينيديتي»، وكانت البداية من «الهدنة»، وهي رواية مكتوبة بالطريقة التي يدفعك غرورك إلى القول بأنها «سهلة»، غير أن وجهة النظر المغرورة هذه سرعان ما ستنكسر مع كل صفحة تتجاوزها، وكل جملة يقولها «مارتن سانتومي»، الذي يقرر كتابة يومياته  عندما يكتشف أنه لم يعد أمامه سوى ستة أشهر وثمانية وعشريومًا كي يصبح مؤهلًا للإحالة للتقاعد.

«سانتومي»، مثلنا جميعًا، لا أكثر ولا أقل، غارق في الحياة حتى أذنيه، غارق إلى الدرجة التي يجد أن ما يبعث على السعادة في نفسه أن «الخط المدور هو أحد أهم مرتكزات سمعته كموظف»، وأن التجديدات التي أدخلها على شكل بعض الأحرف واحد من أبرز نجاحاته التي يجب أن يفتخر بها، في مقابل اعترافه المرير بأن لا أحد من أبنائه يشبهه، فـ«جميعهم أكثر حيوية منه، ويبدون دائما أكثر تصميمًا، وغير معتادين على التردد».

«الهدنة»، ليست مجرد رواية، بل ملحمة «مشاعر» فـ«سانتومي» الروتيني، سيقع في الحب، سيفشل في الحب، سيذوق طعم المرارة بعدما تموت حبيبته فجأة، سيحدثنا عن عطرها، ملمس يديها على ذراعه، كلماتها المفضلة إليه، لكنه لن «ينتحر»، بل سيكون «سيزيف» جديد، يحمل صخرة حزنه كل يوم، وكل يوم يتذكر أنه «ملعون بروتينه».

من المعروف هنا، أنه بصدور «الهدنة» حقق «بينيديتي» شهرة عالمية ساحقة، حيث طبع الكتاب أكثر من مئة طبعة، وترجم إلى 20 لغة كما تم تحويل الرواية إلى شريط سينمائي، ومسرحية ومسلسل إذاعي وعمل تلفزيوني.

«بقايا القهوة»، عنوان ثاني لرواية ثانية كتبها «بينيديتي»، وهي من الروايات التي يمكن وصفها بـ«فضاء الدهشة والمتعة»، فمن البداية يأخذك «ماريو» في «حقيبة انتقالات» أسرة «كلاوديو»، الفتي الذي اعتاد أن يستقبل انتقالات أسرته بشيء من الصبر والاستكشاف، فالرواية تبدأ بـ«كانت أسرتي تغير مسكنها دومًا، على الأقل، منذ بدأت أتذكر الأشياء، ولكن يجب أن أقول، من باب الإيضاح، أن انتقالنا من مسكن إلى آخر، لم يكن سببه عدم دفع الإيجار وبالتالي إرغامنا علىى تركه، بل كانت له أسباب أخرى، ربما تافهة، لكنها لا تدعو إلى الخجل».

«ذكريات المنازل»، يغزلها «بينيديتي» بروعة ودهشة في آن معًا، بل في بعض المواقع، يمكنك أن تسمع صوت باب يفتح أو نافذة تغلق، أو ارتطام ركبة طفل بـ«أرضية المنزل» الأسمنتية الباردة، وهو ما يبرع فيه  صاحب «بقايا القهوة» بشكل واضح طوال فصول الرواية.

«السجن» أو «الاعتقال السياسي»، تجربة كابدها «بينيديتي» في حياته، ولهذا عندما نقلها في «ربيع في مرآة مكسورة»،  جاءت الكتابة صادقة وموجعة في وقت واحد، فالأسرة الواحدة تنشطر، الزوجة تحاول البحث عن «خروج آمن» من حياة زوجها الذي ظل لسنوات محاولًا الحفاظ على عقله وقلبه من ويلات السجن والليالي المظلمة الطويلة وساعات الصمت الممتدة دون انتظار نهاية لها، والأب يبحث عن ابنه، عن زوجته، عن حياته التي يظن أنه تركها ورائه ويخشى على ابنه أن يسير في الطريق، والصديق الذي ينقسم بين ذكرياته مع «رفيق الماضي» ورغبته في الاستيلاء على الزوجة التي تطلب أن يكون انسحابها «عاديًا» و«متوقعًا».

وفي «ربيع في مرآة مكسورة»، ينجح «بينيديتي» في رسم صورة للعالم المحيط بالسجين، والتغيرات التي تسيطر على كل شيء طوال سنوات الاعتقال، تلك السنوات التي يظل خلال أيامها المعتقل  مدة السجن، يظل معها المعتقَل سجينَ ماضٍ متجدد وسط حاضر مضطرب وشخصيات متبدلة، بفعل الوقائع المستجدة التي تفرض استحقاقات وتغييرات وسلوكيات.

وفي نهاية الرواية، يتضح أن «جدار العزلة» الذي تفنن «بينيدتي» في تشيده طوال فصول «ربيع في مرآة مكسورة» أصبح قويًا،  فبعد خروج «سانتياغو» من المعتقل، ووصوله إلى بوينس آيرس لينضم إلى أسرته، نجده يروي عودته بقصيدة: «أشعر أنني غريب وأنا أطأ هذه الأرض/ السماء تمطر لحسن الحظ/ ومع المطر ينتظم الناس زوجاً زوجاً/ تصبح المظلّة قاسماً مشتركاً للإنسانية/ ولكنني سأتجاوز هذا الشعور»، كما نجده – ولأول مرة- يسأل نفسه إن كانت زوجته لا تزال تحبه، غير أنه سريعًا يبعد عنه هذا التساؤل ويقول: «بعد هذه السنوات الشتائية الخمس، لن يسرق أحد منا الربيع».

أخيرًا.. يمتلك «بينيديتي»، الذي رحل عن عالمنا في 17 مايو 2009، عندما قطع ليقطع تلفزيون الأورجواي برامجه معلنا وفاة أكبر أدباء البلاد، لتقرر الحكومة أن تضع جثمانه في مجلس الشيوخ ليتمكن عشرات الآلاف من أحبائه وقرائه من إلقاء «نظرة أخيرة» على رجل كتب عن آلامهم وأحلامهم وآمالهم.

 

 

مقالات من نفس القسم