حاوره : سيد محمود *
لا يحتاح موسيقي مثل مارسيل خليفة لأي تعريف, فهو عالم قائم بذاته, جزء من مكونات وعي جيل عربي بأكمله, ربط نفسه بجملة من الأحلام الكبيرة التي كان علي رأسها’ حلم تحرير فلسطين’.. في الجامعة كانت أغنيات مارسيل’ خبز يومي’,’ شفرة’ يجري تداولها لمعرفة الطريق إلي’ الغد’, أما اليوم فقد تراجعت’ الاحلام’ وبهتت ألوانها’ لكن شيئا في القلب لايزال حاضرا ليجعل من أغنيات مارسيل حاضرة مثل أيقونة ومرآة نري فيها الملامح التي تمنيناها لأنفسنا.
حين التقيت بمارسيل خليفة لأول مرة قبل سنوات كنت أعد نفسي للقاء مع’ أسطورة’ لكن دقائق معه جعلتني أحب الإنسان بداخله أكثر, وأحرص كثيرا علي التواصل معه لكي لا أحرم نفسي من فرص’ الشفاء’ من أمراض الزحام
في الإسكندرية التي جاءها للمشاركة في ندوة عن حرية التعبير وآليات الرقابة في العالم العربي كنت معه, تكلمنا كثيرا عن المدينة وأحلامه التي تكسرت وقدرتها علي مقاومة اليأس ثم جلسنا معا ندون مع دار طوال ثلاثة أيام.
حدثني أولا عن علاقته بمصر, فقال لي:’ للأسف ليست لي تجربة كبيرة في مصر لأسباب كثيرة, أنا مسئول عن بعضها لكن هناك أسبابا خارجة عني, فربما لم أسع للحضور كثيرا لمصر في بداياتي لأسباب سياسية ارتبطت بظروف المقاطعة العربية للنظام المصري في عصر السادات, كما أن الكثير من المؤسسات المصرية ارتاحت لهذا البعد ولم تتحمس لدعوتي خوفا من أن يجلب لها ذلك مشكلات, لكن المفاجأة أن جميع حفلاتي في مصر حظيت بجمهور نوعي معظمه مقبل من أرث سياسي ونخبوي إلي حد كبير والأكيد إنني مطالب بالإكثار من’ طلاتي’ ومجيئي إلي هنا ولكن جمهوري هنا ليس مثل الجمهور الموجود في تونس أو بلاد الشام أو المغرب العربي إجمالا’ هذا الاعتراف بـ’ التقصير المتبادل’ خرجنا منه في اللحظة التي تحدث فيها عن الفرح الذي انتابه بمجرد المشي في شوارع الإسكندرية وقال:’ لا أصدق أنني أسير في ذات الشوارع التي مشي فيها سيد درويش, هذا العبقري الذي غير معادلات الموسيقي العربية, لكن المحزن أن بيته الذي زرته قبل سنوات طويلة لم يعد له وجود الآن, كما أنه لا يجد التكريم اللائق في مدينته الجميلة التي تبدد أي إحساس بالغربة فهي مدينة أليفة بالفعل’.
انتقل مارسيل بعد ذلك للحديث عن عمله الأخير’ الكونشيرتو العربي’ وهو عبارة عن عمل موسيقي كتبه للآلات الموسيقية العربية التقليدية مع الأوركسترا الفلهرمونية, وعن أهمية هذا العمل في تجربته الطويلة وقال:’ كان التحدي الكبير هو كتابة موسيقي عربية خالصة تحوي’ ربع الصوت’ وكانت هناك مهمة صعبة جدا, لخلق مقاربة هارمونية تلائم’ ربع الصوت’ وتلعب أوركسترا كبير وما يجعل من العمل حدث بحد ذاته أنه ترك مجال اهتمام في العالم, إذ قدم في أوبرا كيندي سنتر بواشنطون ومسرح الشانزليه في باريس وفي إيطاليا في اكبر قاعة أوبرا, كما قدم العمل في الدوحة في أكتوبر الماضي في مسرح قطر الوطني وأتمني أن يقدم في أي مسرح عربي’.
وهنا سألته: هل تحرص في السنوات الأخيرة علي تقديم نفسك في صورة المؤلف الموسيقي الباحث عن ولادة جديدة خارج صخب الأغنيات السياسية التي اشتهرت بها؟ فقال’ أنا موجود علي ساحة المهرجانات العالمية, ومازالت أقدم موسيقاي مع فرقتي فرقة’ الميادين’ وأعزف الأغنيات التي أقامت صلة روحية مع جمهوري, لكن إلي جانب ذلك أحرص علي التنوع فأخيرا عزفت في النمسا لصالح الارونوا( مؤسسة دولية لرعاية اللاجئين الفلسطينيين في العالم) وكان حفلا كبيرا وحظيت بعده باستقبال شخصي من الرئيس النمساوي في لقاء دافئ وحنون, ما يعني, أنني أقيم توازنا وتفاعلا بين جديدي وقديمي, والآن أعمل علي إنجاز عمل كبير من قصائد الراحل محمود درويش, لم أقدمها من قبل, وعندي مشروع لتقديم قصيدته الرائعة’ يطير الحمام’ كما أنهي أسطوانته’ مجنون ليلي’ التي تتضمن الأوبريت الذي قدمته مع الشاعر البحريني قاسم حداد’.
لا يتحدث مارسيل خليفة بشغف عن تجاربه القديمة فهي تخضع دائما لإعادة نظر بغرض التطوير والتقييم فيقول:’ أعيد النظر في تجربتي لتقييمها وأخذها في اتجاه جديد, فأنا دائم البحث, وحتي الآن لا أرضي عما قدمت, فالرضا يوقف البحث والمتابعة ويحرم الفنان من تطوير اقتراحه والموسيقي التي أفكر فيها ربما لم أكتبها بعد’, وعندما تسألني عن تجربتي أري أن كل ما قدمت لا يجوز أن ألغيه فقط أحبه الناس كما أن كل عمل هو تعبير عن مرحله يصعب حذفها من العمر, والوصول إلي سن الحكمة يجعلك دائما في شوق للطفل الذي كنته مهما سخرت منه’.
الجملة التي أنهي بها مارسيل حديثه جعلتني أفكر في تصورات موسيقية نقلها لي من قبل عن علاقته مع الجمهور فقد أكد لي أنه مثل شخص ندهته النداهة, يذهب إلي مصدر للضوء قد لا يراه غيره لكنه وحده يعرف أنه موجود, وعندما ذكرته بهذه الفكرة قال لي:’ نعم أنا دائم النظر في الأفق البعيد وأعمل دائما للوصول إلي’ نقطة’ أراها مهما كانت بعيدة, وكثيرا ما أشعر أن العالم يتمدد ويكبر, ومسافتي عن النقطة تزداد لكني لا أكف عن المسير فقد تعلمت من السفر الكثير وأهم ما تعلمته أن العالم يكبر, وكل ذلك منحني سلام وقلقا وقوة علي المتابعة والاستمرار في البحث’.
بدا لي هذا التصور صوفيا إلي حد كبير لكنه قادني لتذكر فكرة رواها الشاعر محمود درويش عن العلاقة مع الجمهور فقد كان يقول’ جمهوري تطور معي’ ولذلك سألت مارسيل: هل تنجو من أسر العلاقة القديمة مع الجمهور المتطلب الذي يرتاح لأغنيات الماضي ويخاف من مغامرة الاستماع للموسيقي الخالصة؟ فقال:( الجمهور يتابع باستمرار والدليل علي ذلك أن هناك طلبا دائما علي حفلاتي واسطواناتي وليس فقط في العالم العربي وإنما في الخارج أيضا, هناك تواصل وبالطبع عندما غيرت طريقي كانت هناك صعوبة في الاستقبال لكن الحب مكننا من عبور هذه المحطة, لكن في الموسيقي أنا لا أكتب للجمهور, أكتب لنفسي, وإذا ذهب الجمهور معي أشعر بفرح لأني آخذه إلي نقطة النور التي أبحث عنها والحمد لله أشعر دائما أن الجمهور ذكي ومتطلع دائما, علي الرغم من انه يحب أن يسترخي فيما أعتاد عليه, لكن علاقة الاحترام التي تجمعنا تجعل الجمهور شغوفا باستقبال الجديد بالحب الذي يساعد علي ابقاء الشعلة موقدة’.
.. سألت مارسيل بعد أن تأمل طويلا في الشاطئ الرملي أمامه:
هل تشعر بالخوف لأن قيمة مثل المقاومة ارتبطت بأغتياتك تتعرض الآن للتآكل ويتراجع حضورها في القاموس السياسي فقال: شو يعني, أنا لا أملك إلا أن أكون مع المقاومة, وأي إنسان تعاني بلاده من الاحتلال عليه أن يقاوم دون هوادة ولذلك علينا كعرب أن نقاوم الاحتلال القاسي لفلسطين بغض النظر عن مسار التسويات السياسية, فالمقاومة لا يجوز أن تسقط من حساباتنا كما أن قصر قيمة المقاومة علي السياسة وحدها خطأ كبير فهي موجودة في كل شيء في الشعر والموسيقي والفن والإنسان مطالب بتحرير نفسه أيضا, من القيود والموروثات البالية, وهذا يعطيني دفعة كبيرة لكن ما يخجل أن دلالات كلمة المقاومة في الشارع العربي باتت تحمل الدلالات نفسها التي تتداول بها في الإعلام الغربي كأنها قرين لفكرة’ الإرهاب’ وهذا مؤسف وعلينا أن نحمي الفكرة من هذا التلوث المقصود’ وعندما أعود لسؤالك أقول لك لا أشعر بالخوف لكن ربما أشعر أحيانا باليأس, لكن علينا دائما اختراع’ الاحلام’ والفن علي مدي تاريخه هو مصنع لإعطاء هذه الأحلام شكلا حقيقيا’ وبالنسبة لي لا أري في سعيي نحو تقديم موسيقاي في مسارح العالم إلا نوعا من المقاومة ومواجهة للصور النمطية المعروفة للعربي في الميديا الغربية ومن ثم رفض لأي محاولة للاستسلام’.
ولكن هل ترتاح الآن لتصنيفك’ فنانا ملتزما’؟
‘الالتزام منذ البداية كان بشأن ماهية الفن وجوهر الموسيقي التي أريدها أكثر من الارتباط بقضية في حجم القضية الفلسطينية, والالتزام الذي أعرفه هو أن أكتب موسيقي جيدة وأي عمل مهم فنيا هو عمل ملتزم بغض النظر عن مضمونه السياسي ومازلت أري أن عمل مثل’ أحمد العربي’ عمل مهم لأنه قدم موسيقي بديلة ناطقة بتجربة إنسانية, وأنا لا أركن علي القضية السياسية لأستفيد منها, فالقضية ستحقق أهدافها يوما ما ولكن ماذا عن الفن هل سيبقي علي ما هو عليه ساعتها أو ينتهي؟ أتصور أن هذا هو التحدي الذي شغلني فأنا أريد أن أقدم عملا يخدم القضية ولا يعيش عليها.’
.. وماذا عن لبنان وما يجري فيه؟ قال بعد تنهيدة طويلة:’ أنا قلق دائما علي الأوضاع في لبنان ولا حل إلا بإلغاء النظام الطائفي, ففي ظل النظام القائم من الصعب أن تنخرط في نشاط سياسي منظم, فأنا لم أنتخب في حياتي لأن هذا نظام لا يمثلني مهما كانت نزاهة الأشخاص المنخرطين فيه, والكل يعرف أن أي فترة هدوء في لبنان هي’ هدنة هشة’ ومجرد محاولة للاستعداد لحرب أخري مقبلة ولذلك لا حل إلا بوجود نظام علماني لخلق مساواة قائمة علي أسس سليمة.
ولكني أقول لك إن السياسة إجمالا لا تغريني فحسي الداخلي ليس حسا سياسيا, لأن السياسة فيها الكثير من المناورة والتلفيق بطريقة تعتدي علي حريتي.
قلت له أنت حريص إذن علي فكرة’ الولادة المتجددة’ ولكن لهذا التجديد استجابة لنزعة شخصية جعلتك تراجع حضور النبرة الحادة في موسيقاك؟ فقال لي: لا أعرف إن كانت النبرة أهدأ الآن, ففي كل عمل هناك تفاعل, والموسيقي تصعد لتهدأ, وهناك دائما بداية ونهاية, ومتتاليات, أراها مثل قصص وحكايات تتوالد من بعضها البعض, وبالتالي النبرة الموسيقية تستجيب صعودا وهبوطا’.
.. سألته: مع نضج تجاربك الفنية هل يزعجك تدخل الرقابة المجتمعية والسياسية في عملك كما حدث’ في قصيدة أنا يوسف يا أبي’ وفي’ مجنون ليلي’ التي اعترض عليها الإسلاميون في البحرين؟
توقف مارسيل للحظات قبل أن يجيب:’ ما حدث لم يؤثر علي وعلي حريتي, صحيح انزعجت, لكن مصدر الانزعاج سببه الإحساس بالخيبة لأن مجتمعاتنا العربية لاتزال تعيد إنتاج مشكلاتها, ففي عرض مثل مجنون ليلي كانت لدينا رغبة في إعلان الحب واستعادته من خلال قصة تراثية قائمة علي السمو الإنساني إلي أن فاجأنا’ أعداء الفرح’ بتبني حملة لوقف العمل وكان هذا هو مصدر الحزن, ولكني أقول إن هؤلاء يدفعوننا دائما للتفكير في مقاومة هذا النوع من الاحتلال, فهؤلاء المقبلون من الماضي يحتلون الخيال وباسم القيم والمقدسات يعتدون علي حاضرنا’.
عندما وصلنا بحوارنا لهذه النقطة كنا بحاجة إلي نقطة استراحة فحدثته عن الشوارع والأماكن التي زارها صديقه محمود درويش في الإسكندرية, فكانت تلك الحكايات مدخلا لي ليحدثني هو الآخر عن علاقته بهذا الشاعر الاستثنائي الفذ, وارتباط موسيقاه بشعره فقال لي:’ علاقتي بمحمود كانت علاقة صداقة خالصة فمنذ أن استمعت لشعره شعرت أن هذا الشعر كتب لي, وعندما قرأته شعرت بأني’ امتلكته’ فكل مفرادت عالمه الشعري لم تكن بعيدة عن عالمي ولم أدخل لشعره إلا باعتباره جزءا من أعماقي وكل ذلك جري قبل أن أتعرف إليه شخصيا, وعندما تعرفت إليه بعد سبع سنوات من تقديم شعره, نشأت صداقة جميلة جعلتني أعتبر خسارته’ كارثة’ علي الصعيد الشخصي والغريب أن علاقتنا لم تخرج من الكتب والإسطوانات لأنها كانت علاقة حية وحيوية وأفاجئك بأنه من النادر أن تحدثنا عن الكتب والموسيقي بل كنا نتكلم أكثر عن المدن والناس والنساء لأن هذا كلام يطور من المساحة الإنسانية ويغذيها’.
الكلام عن الشعر دفعني لأسأل مارسيل: هل تفكر في كتابة سيرتك الذاتية؟ فقال’ أكتب نصوصا نثرية كثيرة فانأ أحب النثر وأكتب دائما عن تجاربي استجابة لهاجس لا علاقة له بكتابة السيرة, وما أكتبه ليس مذكرات وإنما تأملات, ولدي أمل في نشر هذه النصوص قريبا لكنها تحتاج لمراجعة, فالكتابة تأخذ من رصيد الموسيقي وتحتاج إلي وقت لأنها’ التزام’ ولذلك أخاف أن أعطي وقتي لشيء آخر غير الموسيقي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* شاعر وصحافي مصري